وجه القربية في الطهارات (الدرس ۷۱)

بسم الله الرّحمن الرحيم

الدرس ۷۱

قدّم الشّيخ الآخوند جوابًا في تصحيح عباديّة الطّهارات الثّلاث ومنشأ القربة فيها على أساس الاستحباب النّفسيّ الثّابت لها ثمّ تعرَض لثلاثة أجوبة أخرى وللإشكال عليها.

وكنّا قدّمنا الجواب الأوّل المنقول عن الشّيخ الأعظم النّاشئ عن كون الطّهارات الثّلاث متعنونة بعنوان قصديّ. وكون الفعل قصديًّا يختلف عن كونه قربيًّا، مثلًا فعل أداء الدّين هو من الأفعال القصديّة بحيث لو أقبضت المال من دون قصد لأداء الدّين لم يتحقّق عنوان الأداء. في المقابل هناك أفعال غير قصديّة كانغسال الثّوب من النّجاسة بوقوعه في البحر فإنّه يطهر بلا قصد.

وليس معنى قصديّته مساويًا لقصد القربة، فالأخير معتبر في العبادات لا في الواجبات التّوصّليّة الّتي يعتبر فيها القصد وتحقّق عنوانه، لكن لا قصد القربة وإلّا لانقلب التّوصّليّ تعبّديًّا، وهذا سارٍ في المعاملات. وإضافة إلى قصد القربة يُشترط في العبادات قصد التّعيين. وكلام الشّيخ الأعظم في الجواب مفاده أنّ قصد القربة لا موضوعيّة له فهو ليس مطلوبًا. بل القصد هو ذوالموضوعيّة هنا، ليخرج بواسطته المأمور به عن الصّورة المشتركة إلى التّعيّن، كإقباض المال، فإنّ له صورة مشتركة بين الهبة وأداء الدّين، فإن أراد أحدهما لزم أن يعيّنه وإلّا لم يقع العنوان المعيّن بواسطة الصّورة المشتركة وهل هذا إلّا طلب للتّعيّن من اللّاتعيّن؟

الأمر نفسه يرد هنا في المقدّمات، ما لم يحصل التّعيّن فإنّ الغسلات والمسحات المجرّدة ليست مقدّمة ولا تفي بها من حيث توقّف ذيها عليها، ووقوعها مقدّمة متوقّف على قصدها بعنوانها المقدّميّ بواقع أمرها. وحيث إنّ قصد القربة ملازم لذاك العنوان المقدّميّ الواقعيّ للمقدّمة، التزم الأعلام بلزومه هنا، لأنّ قصد القربة ملازم للقصد الّذي يعيّن المقدّمة المطلوبة.

الغسل الصّلاتيّ لا يتحقّق بمجرّد الغَسل بل بالغسل مع قصد عنوانه، وقصده كذلك يكون بقصد القربة. وعلى هذا، إنّ قصد القربة ليس شرطًا لصحّة العمل بل شرط الصّحّة هو القصد والتّعيين الّذي لا يتمشّى إلا عن طريق قصد القربة.

وقد أجاب الشّيخ الآخوند عن هذا الوجه بجوابين:[1]

أوّلًا: إذا كان قصد القربة قد أٌخذ كعنوان مشير ومن أجل التّعيّن، فإنّه لا يلزم أن تُقصد القربة وتكون على نحو الغاية بل يمكن أن يكون قصد أمرها وصفًا كما لو جاء بالطّهارة موصوفة بأنّها تلك الّتي شرّعها الله لا لأنّه شرّعها الله فهي لا بشرط من هذه الجهة بحيث قد تكون لأجل ذلك وقد تكون لدواعي فاسدة كالرّياء، ومع ذلك تعيّنت الطّهارة من حيث قد أٌمر بها لا لأجل أنّه قد أُمر بها. وما لم يكن قصد الأمر غاية لم يتأتّى قصد القربة ومع ذلك تحقّق التّعيين.

ثانيًا: هذا الجواب من الشّيخ لو تمّ فإنّه جواب عن جهة قصد القربة لكن كلامنا في جهتين إحداهما هذه والأخرى جهة استحقاق الثّواب، فكيف نرتّب الثّواب على هذا البيان؟

وتعليقًا على ما أفاده الشّيخ الآخوند قال شيخنا الأستاذ: لا كلام على الإشكال الأوّل على حلّ الشّيخ فهو تامّ يرد عليه، أمّا إشكاله عليه ثانيًا فهو متوجّه إلينا أيضًا وينبغي أن نجيب عنه كذلك لأنّنا قلنا وفاقًا لصاحب الكفاية بعدم استحقاق العقاب على المقدّمات الشّرعيّة، والطّهارات الثّلاث منها. وما قلناه من استحقاق للثّواب إنّما يجيء في مثل المقدّمات العقليّة كنصب السّلّم وما من قبيله بما لا يحتاج إلى مزيد بيان، فكيف يكون حلّ هذه العويصة؟

والجواب:

أوّلًا: قلنا لا استحقاق للثّواب على موافقة المقدّمات الشّرعيّة والشّروط ولكن لم نقل لا تفضّل، وحيث لم يثبت استحقاق للثّواب بحكم العقل وهو الحاكم في باب الطّاعة والعصيان، حملنا الرّوايات الحاكية عنه على التّفضّل لا الاستحقاق.

ثانيًا: لو سلّمنا كون الرّوايات بصدد بيان استحقاق الثّواب وحيث لا ثواب للشّرط مستقلًّا بحكم العقل، فليكن ثوابه الجائي في الرّواية جزءًا من ثواب المشروط، فالثّواب على المشروط مركّب من حصص ثواب لكلّ فعل وامتثال في دائرته. فرضًا، فليكن ثواب الصّلاة عن وضوء هو مجموع المعراجيّة مع النّوريّة، بحيث يتجزّأ هذا الثّواب المركّب لتكون المعراجيّة حصّة ذات الصّلاة والنّوريّة حصّة ذات الوضوء. أي إنّ ما حكم به العقل من استحقاق للثّواب على الماهيّة المجموعيّة هو ثواب يتوزّع ويتحصّص على الأجزاء والشّرائط، فتقع حصّة منه للطّهارة الّتي حكت الرّواية عن حصّتها الثّوابيّة. طبعًا والفرض كلّه على أساس عدم وجود استحباب نفسيّ فلا تُحمل الرّوايات على الثّواب النّفسيّ ولا تكشف عن وجود أمر نفسيّ بالطّهارات.

بهذا تمّ الجواب الأوّل للشّيخ الأعظم وإشكال الشّيخ الآخوند عليه وتعليق شيخنا الأستاذ، فانتهى بنا الكلام إلى الجواب الثّاني للشّيخ الأعظم الّذي نقله صاحب الكفاية في كفايته.

الجواب الثّاني: قصد القربة في المقدّمات ليس مطلوبًا لأجل الأمر الغيريّ بل هو مطلوب لأجل تحقيق الغرض من المطلوب النّفسيّ، أي إنّ قصد القربة في الوضوء هو لتوقّف تحقّق الغرض من الصّلاة على ذلك، فكما أنّ غرض الصّلاة لا يتحصّل إلّا باتيانها بقصد القربة فكذلك لا يتحصّل غرضها ما لم يؤت بمقدّمتها بقصد القربة. وعليه، بعد التّسليم بكون الأمر الغيريّ لا يصلح منشأ للقربيّة لكنّه يمكن أن يكون غرض ذي المقدّمة كالصّلاة منوطًا بقصد التّقرّب بمقدّمتها كالوضوء والغسل ليكون استيفاء غرض الصّلاة موقوفًا على المقدّمة الممتثَلة بقصد القربة.

وردّ الشّيخ الآخوند عليه بأنّه ماذا عن الثّواب؟ فالإشكال مركّب من إشكالين أحدهما في تصحيح العباديّة والآخر في تصحيح ترتّب الثّواب وهذا الجواب لا يعتني بالثّاني. [2]

وللشّيخ الأعظم أن يجيب بما مرّ من أنّه لا يتعيّن كون الثّواب استحقاقيًّا. قد يكون تفضّلًا محضًا، ولو كان استحقاقيًّا لكان للشّيخ ترتيبه على جهة استيفاء غرض المطلوب النّفسيّ عبره، فتلبّس المقدّمة المأتيّ بها بقصد القربة بعنوان كونها مستوفية لغرض المولى الأصليّ كافٍ لتوجيه استحقاق الثّواب بلا محذور ولا غرابة؛ فهذا ليس إشكالًا.

والأولى بحسب شيخنا الأستاذ أن يُشكل بما يلي:

إذا كان الشّيخ قائلًا بعدم صلاحيّة الأمر الغيريّ للمقرّبيّة، فكيف يُتقرّب بما لا يصلح لذلك؟ ما نفع أن يقصد المكلّف التّقرّب بما لا يصلح لذلك وهل مجرّد يحوّله مقرّبًا؟ فهل يمكن قصد القربة بالمباحات كشرب الماء مثلًا من حيث هي كذلك وبلا تلبّس بعنوان مصحّح للقربيّة؟ ومرجع هذا في الحقيقة إلى التّكليف بغير المقدور كما لو طالبنا المكلّف باتيان المحرّم بقصد القربة، فيما القربيّة تتوقّف على المحبوبيّة ويستحيل التّقرّب بالمبغوض المولويّ من حيث إنّه غير محبوب له.

ما ينبغي الرّدّ به في المقام هو أنّ تصوير غاية صحيحة من وقوع المقدّمة في سياق تحقيق الغرض النّفسيّ مع كونها خالية عن منشأ المقرّبيّة، لا يكفي للقول بصحّة قصد القربة بالأمر الغيريّ لأجل الواجب النّفسيّ. فهذا قصد للتّقرّب بما لا يصلح للتّقرّب به وبما لا يصحّح بكونه محقّقًا لغرض الواجب النّفسيّ، وبالتّالي لا يستقيم هذا الجواب إلّا بالقول بصلاح الأمر الغيريّ للمقرّبيّة، فعاد إلى ما شيّده شيخنا الأستاذ في الباب.

الجواب الثّالث: وهو بحسب الظّاهر للشّيخ الأعظم كذلك. ومفاده التّصحيح بتعدّد الأمر كما يقول المحقّق النّائينيّ وغيره من أنّ عباديّة العمل تتأتّى من خلال أمرين اثنين أحدهما متعلّق بذات الماهيّة والآخر بالاتيان بتلك الماهيّة بقصد أمرها. فأمرٌ بذات الصّلاة مثلًا وأمرٌ باتيانها بداعي الأمر الأوّل المتعلّق بها. على هذا، منشأ المقربيّة جاء من قِبل الأمر الثّاني، وهكذا في الأمر الغيريّ بحيث يتعدّد الأمر على نحو يتعلّق الأوّل بذات الوضوء والثّاني باتيانه بقصد القربة.

جواب الشّيخ الآخوند:

أوّلًا: فرض في المقام أمرين وجعل الأمر الأوّل متعلّقًا بذات الوضوء ونسأله من أين جاء هذا؟ وما معنى أن يتعلّق أمر بذات الوضوء؟ هنا مقدّمة إن كان الوضوء بذاته فيؤمر به كذلك ولا يلزم قصد القربة، وإن كان الوضوء مع قصد القربة فذات الوضوء غير مأمور بها ولا يتعلّق بها أمر غيريّ أصلًا لأنّها ليست مقدّمة، فمن أين جيء بأمر بالذّات حتّى يلحقه أمر باتيانها مع قصد امتثال أمرها؟

ثانيًا: كان مرّ أنّ الشّيخ الآخوند قائل بأنّ تصحيح العباديّة بتعدّد الأمر من الأغلاط بما مختصره أنّ قصد القربة إمّا أن يكون دخيلًا في الغرض وإمّا لا، على الأوّل يجب على المكلّف الاتيان به بلا حاجة إلى الأمر الثّاني، وعلى الثّاني لا معنى للأمر الثّاني.[3]

فتحصّل من ذلك كلّه أنّ الشّيخ الآخوند لم يرتضِ لحلّ إشكاليّة عباديّة الطّهارات الثّلاث أيًّا من الأجوبة المنسوبة إلى الشّيخ الأعظم ورأى أنّ الطّريق الوحيد إلى الإثبات هو ما أفاده نفسه من القول بالمطلوبيّة النّفسيّة لها وبكون الشّرط هي الطّهارة الموصوفة بكونها عبادة بواسطة الأمر بها نفسيًّا. وفي المقابل ذهب شيخنا الأستاذ إلى أنّ الصّحيح تأتّي العباديّة من الأمر الغيريّ بل من وقوع المقدّمات في امتداد الأمر النّفسيّ ولو لم يؤمر بها.

وبهذا تمّ الكلام في التّذنيب الأوّل.

ثمّ ذكر الشّيخ الآخوند تذنيبًا ثانيًا، مفاده أنّه:

إذا كان مصحّح العباديّة الأمرَ النّفسيّ أمكن الاتيان بالطّهارات ولو بلا ذيها لكونها ذات استحباب نفسيّ.

لكن، إذا كان المصحّح الأمرَ الغيريّ فلا يمكن الاتيان بها إلّا لقصد التّوصّل إلى ذيها وفي طريقه. وهذا يجري في الطّهارات بحيث لا تصحّ إن لم تكن بقصد التوصّل إلى المأمور به النّفسيّ كالصّلاة مثلًا، وذلك لأنّ قصد التّقرّب منوط بقصد الأمر الغيريّ ويحصل من خلاله، فقصد التّوصّل بهذا الوضوء للصّلاة شرط صحّة الوضوء. وظهر لك أنّ مناط قولهم بأنّ قصد التّوصّل شرط هو أنّه لا يحصل قصد التّقرّب إلّا بقصد الأمر الغيريّ، وليس قصد الأمر الغيريّ إلّا الاتيان بالعمل بقصد التّوصّل إلى الغير الواجب نفسيًّا. وبهذا تعرف أنّ توجيه قولهم باشتراط قصد التّوصّل ليس ما ذهب إليه الشّيخ الأعظم من اشتراط الاتيان بالمأمور به بالأمر الغيريّ بعنوان المقدّمة ولا يتمشّى عنوان المقدّمة هذا إلّا بقصد التّوصّل. من أين عُلم بكون المأمور به هو المقدّمة بعنوانها؟ إذ كلّ ما عندنا هو أنّ الأمر قد تعلّق بالمقدّمة بالحمل الشّائع لا بعنوان المقدّمة.[4]

 

 

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص158:"وفيه: -مضافًا إلى أنّ ذلك لا يقتضي الاتيان بها كذلك لإمكان الإشارة إلى عناوينها الّتي تكون بتلك العناوين موقوفًا عليها بنحو آخر ولو بقصد أمرها وصفًا، لا غاية وداعيًا، بل كان الدّاعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورًا بها شيئًا آخر غير أمرها- أنّه غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها كما لا يخفى".

[2]  أنظر الكفاية،ج1،ص158-159:"ثانيهما: ما محصّله: أنّ لزوم وقوع الطّهارات عبادة إنّما يكون لأجل أنّ الغرض من الأمر النّفسيّ بغاياتها [الغاية تعبير آخر عن ذي المقدّمة] كما لا يكاد يحصل بدون قصد التّقرّب بموافقته كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها [أي الطّهارات] كذلك [أي بقصد القربة]، لا باقتضاء أمرها الغيريّ. وبالجملة: وجه لزوم اتيانها عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض في الغايات لا يحصل إلا باتيان خصوص الطّهارات من بين مقدّماتها أيضًا بقصج الإطاعة.

وفيه أيضًا: أنّه غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها".

[3]  المصدر نفسه،ص159:"وأمّا ما ربّما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلّقًا بذات العمل والثّاني باتيانه بداعي امتثال الأوّل، لا يكاد يجدي في تصحيح اعتبارها في الطّهارات؛ إذ لو لم تكن بنفسها مقدّمة لغاياتها لا يكاد يتعلّق بها أمر من قِبل الأمر بالغايات، فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطّلب الغيريّ متعلّق بذاتها ليتمكّن به من المقدّمة في الخارج؟ هذا، مع أنّ في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطّاعة في العبادة على ما عرفته مفصّلًا سابقًا [أي فيه ما فيه]، فتذكّر".

[4]  أنظر الكفاية،ج1،ص159:"الثّاني: أنّه قد انقدح ممّا هو التّحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطّهارات صحّتها ولو لم يؤت بها بقصد التّوصّل بها إلى غاية من غاياتها. نعم لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيريّ لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة؛ فإنّ الأمر الغيريّ لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التّوصّل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعيًا إلّا مع هذا القصد".

برچسب ها: وجوب غیری, واجب غیری, عبادیت طهارات ثلاث, قصد قربت در اوامر غیری

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است