الشک فی وجوب المقدمة (الدرس ۹۱)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

انتهى بنا الكلام[1] إلى ثمرة السّيّد الرّوحانيّ والسّيّد الصّدر والّتي كنّا بيّناها، الكلام فيهما يرجع إلى روح واحدة. ومحصّلهما: أنّه إذا توقّف الواجب على مقدّمة محرّمة أو كان سببًا لوقوع أمر محرّم؛ فإنّنا إن قلنا بوجوب المقدّمة كانت المسألة صغرى للتّعارض وإلّا فهي من باب التّزاحم. فدار أمر اندراج المورد في الباب المعيّن مدار وجوب المقدّمة وعدمها فعلى الوجوب كان من باب التّعارض وعلى العدم كان من باب التّزاحم.

فهنا تفصيلان على الأوّل يكون فعل الواجب متوقّفًا على الحرام وعلى الثّاني يكون فعله علّة للحرام:

أمّا الأوّل وهو ما ورد في كلام صاحب المنتقى[2]:

فإن قلنا بالملازمة، والحال أنّه توقّف مثلًا إنقاذ الغريق أو إطفاء الحريق على العبور في أرض الغير، وقع العبور مقدّمة للواجب من حيث ترشّح الوجوب الغيريّ الشّرعيّ. لكنّه مصداق للحرام وصغرى لخطاب لا تغصب، فيقع التّعارض بين وجوب ذي المقدّمة وحرمة الغصب بحيث يتعارض خطاب ذي المقدّمة مع خطاب الحرمة. وذلك لأنّ الأمر بالعبور في أرض الغير لم يتأتّى إلّا من حيث الملازمة بينه وبين الأمر بذي المقدّمة فهو لازم بيّن بالمعنى الأخصّ لأمر وخطاب ذي المقدّمة، ولذلك سرى التّعارض من جهته من حيث إنّه المصبّ للوجوب والحرمة إلى ذيه، فتعارض وجوب الأخير وحرمة الغصب.

وإن لم نقل بالملازمة فلا تعارض بل تزاحم، إذ لا وجوب للمقدّمة، فيجري قانون باب التّزاحم بحيث يُقدّم الأهمّ ملاكًا، لكن حتّى لو قُدّمت الحرمة لأهمّيتها أمكن تصحيح العبادة على التّرتّب، كما لو صلّى حال العبور في أرض الغير. ولا بأس بالتّنبيه بأنّ محلّ البحث هو المقدّمة المنحصرة إذ الانحصار شرط ينضبط به باب التّزاحم، أمّا لو كان للمكلّف مندوحة فلا تزاحم، نعم يكون البحث داخلًا في مسألة اجتماع الأمر والنّهي.

وأمّا الثّاني وهو ما ورد في حلقات السّيّد الصّدر[3]:

فإن قلنا بالملازمة، والحال أنّ الواجب مستلزم لحصول الحرام كما لو توضّأ في أرض مغصوبة على نحو لازم وضوءه سقوط الماء في أرض الغير، فهذا الوضوء حرام من حيث إنّه مقدّمة للحرام وواجب من حيث إنّه مقدّمة للواجب، فتعارض الوجوب والحرمة. وأمّا إن قلنا بعدم الملازمة فيقع التّزاحم بينهما ولا تعارض.[4] وقد ذكر البعض مثالًا غير صحيح لهذه الثّمرة وهو الوضوء والغسل الضّرريّان متخيّلين أنّ فعل الوضوء يكون مستلزمًا للضّرر كالجناية على النّفس أي للحرام، إلّا أنّ الصّحيح أنّ نفس الفعل في المثال حرام لا أنّه علّة للحرام. بل إنّ المسألة تدخل في بحث الاجتماع فهنا تركيب اتّحاديّ يكون معه الفعل الواحد مصداقًا للغسل وكذا مصداقًا للإضرار بالنّفس. فليس الحرام في الوضوء بماء الثّلج مثلًا هو حصول المرض بل الحرام هو تمريض النّفس وتضريرها، وحاله حال السّفر الضّرريّ فهو بنفسه حرام لا معلوله أي الهلاكة فقط.

بعد ذلك تعرّض الشّيخ الآخوند للبحث في الأصل الجاري في المسألة في حال الشّك في الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة. وقد فصّل الكلام على نحوين: على الأوّل تكون الملازمة مجرى للأصل؛ وعلى الثّاني يكون الوجوب مجرى للأصل.

أمّا على الأوّل[5]، فلا أصل. والمتصوّر جريانه هنا هو إمّا البراءة وإمّا الاستصحاب. أمّا البراءة فهي أصل مؤمّن من العقوبة وهنا لا عقاب لنحتاج إلى مؤمِّن ولوضوحه لم يتعرّض له. وأمّا الاستحصاب فلا يجري لأنّه فاقد لركن الحالة السّابقة. إذا لا حالة عدميّة سابقة للملازمة فهي إن كانت أزليّة الوجود وإن لم تكن فأزليّة العدم.

وأمّا على الثّاني[6]، فالوجوب حادث وهو ينشأ من حاقّ وجوب ذي المقدّمة أي متى حدث وجوب ذي المقدّمة حدث وجوب المقدّمة وتحقّقت فعليّته. وبالتّالي لنا حالة سابقة عدميّة يمكن استصحابها. لكنّها لا تجري البراءة لأنّه لا عقوبة لتصل النّوبة إلى التّأمين عنها.

ثمّ أشكل صاحب الكفاية على جريان الاستصحاب في الوجوب من جهة عدمه بإشكالين:

أمّا الإشكال الأوّل:[7]

إنّ وجوب المقدّمة ليس مجعولًا بل هو من قبيل لوازم الماهيّة، والحال أنّ المشهور عدم جريان الأصل في غير المجعول، فلا هو مجعول ولا هو ذو أثر مجعول. وبهذا تعطّل جريان الأصل بهذه الحيثيّة وإن كان ذا حالة سابقة.

وأجاب الشّيخ الآخوند عنه[8] بأنّ لوازم الماهيّة وإن لم تكن مجعولة بالذّات والمباشرة لكنّها مجعولة بالعرض والتّبع، فبيد الشّارع وضعه ورفعه بالواسطة. وكونه بتبع حكم العقل لا يخرجه عن مولويّته واختياريّته ولو بالواسطة. وعلى هذا، كما يجري الأصل في الوجوب الشّرعيّ المجعول بالذّات كما في وجوب الصّلاة يمكن أن يجري كذلك في الوجوب الشّرعيّ المجعول بتبع الوجوب العقليّ كوجوب الوضوء. إذا وإن كان غير مجعول بالجعل البسيط ولا المركّب لكنّه مجعول بالتّبع.

وأمّا الإشكال الثّاني:[9]

إنّه وإن كان جعل وجوب المقدّمة بيد الشّارع لكنّ التّفكيك بين المتلازمين ممتنع. فلو شككنا في الملازمة لما أمكن إجراء الأصل لاستلزام ذلك للتّفكيك المحال، إذ الملازمة واقعيّة نفس أمريّة لا اعتباريّة. أي إنّ في المقام احتمالًا لأمر محال وهو التّفكيك بين المتلازمين والمحذور مترتّب على التّفكيك واقعًا أو التّفكيك احتمالًا. فمن شكّ في الملازمة وأجرى استصحاب العدم فقد يكون قد فكّ المتلازمين وكما أنّ فكّهما محال، التّعبّد باحتمال فكّهما محال أيضًا، إذ هو من التّعبّد بالمستحيل احتمالًا.

وأجاب الشّيخ الآخوند عنه بأنّ مدّعى القائل بالملازمة أنّها واقعيّة دون أن يُقال بالملازمة في مرتبة الفعليّة. بيانه: لا محذور في القول بتلازم شيئين في الواقع مع عدم القول بتلك الملازمة في مرتبة الفعليّة، كما في الملازمة بين الصّلاة والوضوء أي الوجوبين فإنّ الملازمة بينهما واقعيّة لكن مع ذلك للمولى أن يطلب الصّلاة فعلًا دون أن يطلب الوضوء فيؤمّن المكلّف عنه في مقام الفعليّة، فهذا لا محذور فيه البتّة. فمركز الرّدّ هو القول إنّ الملازمة في الواقع ومجرى الأصل في مرتبة الفعليّة فما فكّه الأصل ليس المتلازمين الواقعيّين بل هما في مرتبة الفعليّة على نحو لا التّفكيك بينهما في الفعليّة يسري إلى الواقع ولا الملازمة الواقعيّة تسري إلى مرتبة الفعليّة، وبالتّالي فلا يتلازمان في هذه الأخيرة بالضّرورة أيضًا. ثمّ يستدرك الشّيخ الآخوند مبيّنًا أنّه لو كان القول بالملازمة راجعًا إلى مرتبة الفعليّة لكان مستلزمًا للتفكيك بين متلازمين وللزم المحذور المذكور. [10]

وعلّق المحقّق الأصفهانيّ[11] على كلام الشّيخ الآخوند مشكلًا بأنّنا ولو قلنا بالملازمة في مرتبة الفعليّة فلا محذور أيضًا. وذلك لأنّ الحال سيكون نظيرًا لما مرّ في الشّكّ في إمكان التّعبّد بغير العلم، فقد أجرى الشّيخ الآخوند هناك الأصل في حجيّة الخبر بلا حزازة. أي إنّ احتمال المحال لم يمنع هناك من جريان الأصل كما في مورد شبهة ابن قبا والمقام من ذلك القبيل. وبالتّالي لو احتملنا تلازم فعليّة وجوب الشّيء وفعليّة وجوب مقدّمته لم يكن مانع من التّعبّد بالتّفكيك بينهما، بل إنّ خاصّيّة الحجّيّة هو أن يكون التّمسّك بها تعبّدًا حال احتمال الامتناع حاصلًا بلا مانع.

وقد ردّ ذلك السّيّد الصّدر[12] مدافعًا عن الشّيخ الآخوند بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

[1]  [قبل التّعطيلات، ولعلّه لأجل ذلك أعاد شيخنا الأستاذ بيان الثّمرتين الأخيرتين في الدّرس السّابق.(المقرّر)].

[2]  أنظر منتقى الأصول،ج2،ص327:"فقد ذكرنا سابقًا أنّ الثّمرة هي صيرورة المورد من موارد التّعارض بناءً على الوجوب لو كانت المقدّمة محرّمة، بمعنى أنّه يقع التّعارض بين دليل حرمة المقدّمة ودليل وجوب ذي المقدّمة، لأنّ وجوب ذي المقدّمة لمّا كان لازمًا ذاتًا لوجوب المقدّمة المنافي لحرمتها، بحيث لا يمكن التّفكيك بين وجوبيهما، كان دليل الحرمة منافيًا لدليل وجوب ذي المقدّمة لعدم إمكان الالتزام بهما معًا لتنافي مدلوليهما، إذ منافاة الحرمة لوجوب المقدّمة ملازمة لمنافاتها لوجوب ذي المقدّمة بعد فرض عدم إمكان التّفكيك بينهما، فيكون دليل الحرمة معارضًا لدليل الوجوب.

وأمّا بناءً على عدم الوجوب، فيكون المورد من موارد التّزاحم، بمعنى أنّه يقع التّزاحم بين وجوب ذي المقدّمة وحرمة المقدّمة، لعدم إمكان امتثال كلام الحكمين من دون منافاة بينهما في أنفسهما، فلاحظ وتدبّر.

فأثر المبحث، هو: تنقيح صغرى من صغريات باب التّزاحم أو باب التّعارض الّذي يترتّب على كلّ منهما آثار عمليّة فقهيّة مهمّة".

[2]  أنظر المباحث،ج2 من القسم الأوّل،ص540-541:"وأمّا في القسم الثّاني: من قبيل ما لو توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة، فإن قلنا بعدم وجوب المقدّمة فلا تعارض بين دليل وجوب ذي المقدّمة ودليل حرمة المقدّمة، وإنّما هما حكمان متزاحمان، كلّ منهما مقيّد كسائر الأحكام بالقدرة، وعدم الانشغال بما هو مساوٍ أو أهمّ، فيطبّق عليهما حكم باب التّزاحم [...]

أمّا إن قلنا باستحالة تقييد وجوب المقدّمة بالموصلة؛ للزوم الدّور والتّسلسل فهنا يستحكم التّعارض بين دليل وجوب ذي المقدّمة ودليل حرمة المقدّمة".

[3]  أنظر الحلقة الثّالثة،ج1،ص243:"أوّلًا:إنّه إذا اتّفق أن أصبح واجب علّة تامّة لحرام وكان الواجب أهمّ ملاكًا من الحرام فتارةً ننكر الملازمة وأخرى نقبلها. فعلى الأوّل يكون الفرض من حالات التّزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب، فنرجع إلى قانون باب التّزاحم، وهو تقديم الأهمّ ملاكًا ولا يسوغ تطبيق قواعد باب التّعارض، كما عرفنا سابقًا. وعلى الثّاني يكون دليل الحرمة ودليل الوجوب متعارضين، لأنّ الحرمة تقتضي تعلّق الحرمة الغيريّة بنفس الواجب ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعل واحد، وهذا يعني أنّ التّنافي بين الجعلين، وكلّما كان التّنافي بين الجعلين دخل الدّليلان في باب التّعارض وطُبّقت عليه قواعده بدلًا عن قانون باب التّزاحم.

ثانيًا:إنّه إذا اتّفق عكس ما تقدّم في الثّمرة السّابقة فأصبح الواجب صدفة متوقّفًا على مقدّمة محرّمة كإنقاذ الغريق إذا توقّف على اجتياز الأرض المغصوبة، فلا شكّ في أنّ المكلّف إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق لم يرتكب حرامًا لأنّ الحرمة تسقط في هذه الحالة رعاية للواجب الأهمّ. وأمّا إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد ارتكب حرامًا إذا أنكرنا الملازمة، كذلك إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيريّ يختص بالحصّة الموصلة من المقدّمة .ولم يرتكب حرامًا إذا قلنا بالملازمة وأنّ الوجوب الغيريّ لا يختصّ بالحصّة الموصلة. أمّا أنّه ارتكب حرامًا على الأوّلين فلأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام في نفسه ولا يوجد ما يحول دون اتّصافه _في حالة عدم التّوصّل به إلى الإنقاذ_ بالحرمة، وأمّا أنّه لم يرتكب حرامًا على الأخير فلأنّ الوجوب الغيريّ يحول دون اتّصافه بالحرمة".

[4]  [إن أنكرنا الملازمة فعلى هذا المثال لن يكون تعارض ولا تزاحم، إذ كلّ من الوجوب والحرمة في الفرض غيريّان. والمثال الصّحيح ما كان ذكره شيخنا الأستاذ في الدّرس السّابق وهو ما لو توقّف إنقاذ النّفس على إتلاف مال الغير.(المقرّر)].

[5]  أنظر الكفاية،ج1،ص176:"اعلم أنّه لا أصل في محلّ البحث في المسألة؛ فإنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمها أزليّة".

[6]  المصدر نفسه:"نعم، نفس وجوب المقدّمة يكون مسبوقًا بالعدم، حيث يكون حادثًا بحدوث وجوب ذي المقدّمة، فالأصل عدم وجوبها".

[7]  المصدر نفسه:"وتوهّم عدم جريانه لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة غير مجعولة، ولا أثر آخر مجعول مترتّب عليه، ولو كان لم يكن بمهمّ ها هنا".

[8]  المصدر نفسه:"مدفوع بأنّه وإن كان غير مجعول بالذّات _لا بالجعل البسيط الّذي هو مفاد كان التّامّة ولا بالجعل التّأليفيّ الّذي هو مفاد كان النّاقصة_ إلّا أنّه مجعول بالعرض وبتبع جعل وجوب ذي المقدّمة، وهو كافٍ في جريان الأصل".

[9]  المصدر نفسه:"ولزوم التّفكيك بين الوجوبين مع الشّكّ لا محالة _لأصالة عدم وجوب المقدّمة مع وجوب ذي المقدّمة_ لا ينافي الملازمة بين الفعليّين".

[10]  المصدر نفسه:"نعم، لو كانت الدّعوى هي الملازمة المطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة لما صحّ التّمسّك بالأصل كما لا يخفى".

[11]  نهاية الدّراية،ج1،ص416.

[12]  البحوث،ج2،ص276.

برچسب ها: الشک فی وجوب المقدمة

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است