الشک فی وجوب المقدمة (الدرس ۹۲)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الكلام في الأصل العمليّ في مورد الشّكّ في وجوب المقدّمة، وقد تقدّم أنّ الشّيخ الآخوند قال بعدم جريان الاستصحاب في الملازمة، إذ هي أزليّة ولا حالة سابقة لها سواء ثبتت أم لا. نعم، يجري استصحاب العدم في الوجوب بلا محذور، لأنّ وجوب المقدّمة حادث وطارئ بتبع حدوث وطروّ وجوب ذي المقدّمة، وبالتّالي له حالة عدميّة سابقة.[1] ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ وجوب المقدّمة هنا هو الوجوب العامّ، أي إنّ الجريان المفترض هو في أصل الوجوب لا في الوجوب الفرعي الجزئيّ الخاصّ، وبالتّالي هذا أصل في مسألة أصوليّة واستصحاب في كلّ موارد الشّكّ في الملازمة.

وقد أشكل الشّيخ الآخوند على الجريان في الوجوب بإشكالين وردّهما، وقد تمّ الكلام في الأوّل منهما، والكلام في تتمة الثّاني فعلًا. أمّا مفاده: فهو أنّ المراد من إجراء الأصل هو نفي وجوب المقدّمة، مع أنّ ذلك قد يرجع إلى التّعبّد بالتّفكيك بين المتلازمين وهو تعبّد محال. فعلى تقدير القول بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، فهي واقعيّة لا اعتباريّة بحيث لا يجوز في موردها التّفكيك عقلًا، ويكون وجوب المقدّمة قهريًّا لا اختياريًّا وما كان كذلك فلا مناص منه عند الشّارع، فيترتّب قهرًا حال إيجاب ذي المقدّمة. وحال الشّكّ في الملازمة إن أجرينا الأصل نشكّ في التّفكيك بين المتلازمين الواقعيّين، فإنّنا لا نعلم بإمكان عدم وجوب المقدّمة حال وجوب ذيها أي نحتمل الاستحالة. بعبارة أخرى، لا يمكن التّعبّد بنفي الملازمة إذ يرجع ذلك إلى التّعبّد بالممتنع لو كانت الملازمة ثابتة لأنّ التّفكيك بين المتلازمين محال، ولا مجال للتّعبّد بما هو في حدّ نفسه محال أو غير ثابت الإمكان وإلّا فإنّ الحجّة لا تثبت إمكان متعلّقها ومعقوليّته. فالتّعبّد لا بدّ أن يكون منضبطًا بضوابط بحيث لا يجري في المحال ولا يثبت التّعبّد بغير الممكن. فالتّعبّد بالتّرخيص مثلًا ممكن إذ يدور الأمر بين وجوب الاحتياط وعدم وجوبه، فللمولى أن يرفع الكلفة عن المكلّف. على أنّه لا فرق بين غير الممكن واقعًا وبين محتمل عدم الإمكان. وبالخلاصة: أدلّة التّعبّد فرع الإمكان وليست مثبتة للإمكان.

وأجاب الشّيخ الآخوند بأنّ القائل بالملازمة قائل بها بحسب عالم الواقع لا الفعليّة، والأصل لا ينفي الملازمة الواقعيّة ولا يجري في تلك الرّتبة رأسًا بل هو ينفي فعليّة وجوب المقدّمة ويرد على تلك الرّتبة. والمتلازمان في رتبة الواقع قد يفترقان وينفكّان في رتبة الفعليّة، إذ لا لزوم يفرض أنّ المتلازمين في الواقع متلازمان في مقام الفعليّة.[2]

وقد أشكل المحقّق الأصفهانيّ[3] بأنّ محلّ الكلام هو الشّكّ في الملازمة في رتبة الفعليّة، والقائل بالملازمة قائل بها على مستوى الفعليّة لا على مستوى الواقع، وبالتّالي الأصل سيجري في فعليّة وجوب المقدّمة الّتي يُحتمل كونها ملازمةً لفعليّة وجوب ذي المقدّمة، أي إنّ رتبة جريان الأصل هي نفسها رتبة الملازمة المشكوكة. ولا معنى للتّلازم بين إنشاءين رأسًا بحيث يتلازم إنشاء وجوب المقدّمة مع إنشاء وجوب ذيها. والحال أنّ صاحب الكفاية قال بعدم جريان الأصل إن كانت الملازمة بحسب مقام الفعليّة، والملازمة في المقام ليست إلّا بحسب مقام الفعليّة فلا يجري الأصل على مبناه. ولكنّ الصحيح _بحسب المحقّق الأصفهانيّ_ هو أنّه لا إشكال في التّعبّد بأمر ممكن الاستحالة بل الممنوع هو التّعبّد بالممتنع أي محرز الاستحالة. كيف والشّيخ الآخوند نفسه التزم بحجّيّة الخبر في مورد احتمال استحالة التّعبّد بغير العلم، فتمسّك بأصالة ظهور دليل الحجّيّة نافيًا الاستحالة. [4] ونظيره الأخذ تعبّدًا بمضامين محتملة الاستحالة لبعض الأخبار اعتمادًا على حجّة كما لو جاء خبر بتكلّم الميّت وكان له أثر تعبّديّ بعدم جواز دفنه مثلًا فنتعبّد بمفاده.

وانتصر السّيّد الصّدر[5] للشّيخ الآخوند مشكلًا على ما أورده المحقّق الأصفهانيّ، بأنّه بناءً على القول بكون الملازمة في مرتبة الفعليّة فلا يجري الأصل والتّعبّد بعدم وجوب المقدّمة حيث يحتمل التّفكيك بين متلازمين، والتّعبّد محتمل الامتناع ممتنع. ومركز جواب السّيّد الصّدر على ما جاء في كلام المحقّق الأصفهانيّ هو أنّ الأخير قد خلط بين كون التّعبّد بنفسه محالًا فهو ممنوع كما فيما نحن فيه وبين التّعبّد بالمحال مع كون التّعبّد من حيث هو ممكن كما في المثالين الآنفين. ففي مثال حجّيّة الخبر، الحجّيّة محتملة الاستحالة لكنّ التّعبّد بها بحيث يجعل المولى الحجّيّة في فرض الشّكّ لا إشكال فيه، فالتّعبّد ممكن حتمًا وبلا شكّ، نعم المتعبَّد به محتمل الاستحالة. وكذا في تكلّم الميّت، فهو محتمل الاستحالة لكنّ التّعبّد به وترتيب الأثر عليه لا إشكال فيه وهو ممكن محرز الإمكان غير محتمل الاستحالة. أي إنّ للمولى أن يقول بترتيب الآثار على احتمال إمكان المؤدّى، كما لو قال المولى: إن تكلّم الميّت فلا تغتسل من مسّه، ما البأس في هذا التّعبّد المعلِّق للأثر على تقدير وقوع محتمل الإمكان أي محتمل الاستحالة؟ هنا التّعبّد ممكن فيما المتعبَّد به غير محرز الإمكان، فدقّق.

إذا عرفت هذا: فقد ظهر أنّ ما يقال من أنّ بناء العقلاء هو على الإمكان عند الشّكّ في الاستحالة إنّما يطبَّق فيما نحن فيه حيث يكون المتعبَّد به محتمل الاستحالة لا حيث يكون التّعبّد نفسه محتمل الاستحالة وغير محرز الإمكان. وبالتّالي، الحقّ في ما قيل من أنّ "كلّ ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان"، هو حمل الإمكان على معنى الاحتمال كما صنع الشّيخ الآخوند. وإلّا فلا معنى للقول إنّ محتمل الاستحالة ممكن فضلًا عن القول بأنّه واقع، فلا يمكن القول بأنّ التّعبّد المحال ممكن فضلًا عن القول بأنّه واقع. وعليه، فالحقّ مع الشّيخ الآخوند بأنّه إن كانت الملازمة في مرتبة الفعليّة فلا يجري الأصل في الوجوب لما يستلزمه من تفكيك بين متلازمين، ولكون هذا التّعبّد هو عين التّفكيك محتمل الاستحالة ومثله لا يُقال بإمكانه فضلًا عن أن يقال بوقوعه أي بوقوع التّفكيك هنا.

ولو دقّقنا في التّعبّد بحجّيّة الخبر تمسّكًا بأصالة الظّهور، لعلمنا أنّنا تعبّدنا بالحجّيّة لمّا شككنا فيها دون أن نشكّ في التّعبّد نفسه بل فقط في المتعبَّد به، لكن لو شككنا في أصالة الظّهور نفسها فقد شككنا في التّعبّد ولما أمكن إجراؤها، إذ هو من التّعبّد المحال لا من التّعبّد الممكن بما هو محتمل الاستحالة، فتدبّر وفرّق جيّدًا جدًّا.

وبالمحصّلة: الأصل لا يجري حال الشّكّ في الملازمة بناءً على كون المدّعى أنّ الملازمة في مرتبة الفعليّة، أي لا يمكن نفي الوجوب باستصحاب عدمه، فالحقّ مع الشّيخ الآخوند.

وقد سلّم شيخنا الأستاذ بصحّة إشكال السّيّد الصّدر على المحقّق الأصفهانيّ ودفاعه عن صاحب الكفاية.

 

[1]  الكفاية،ج1،ص176.

[2]  المصدر نفسه،ص177.

[3]  أنظر نهاية الدّراية،ج1،ص416:"بل الدّعوى في خصوص مرتبة الفعليّة، فإنّ الوجدان والبرهان ليس إلّا على استلزام إرادة ذي المقدّمة لإرادة المقدّمة، وعلى استلزام البعث الحقيقيّ نحوه للبعث الحقيقيّ نحوها بلا نظر إلى مرتبة الإنشاء بما هي إنشاء، بداهة عدم الوجدان والبرهان في مثلها".

[4]  المصدر نفسه:"والجواب حينئذٍ ما ذكرناه في أمثال المقام في أوّل مبحث الظّنّ أنّ إحراز الإمكان في موارد العمل غير لازم بل إحراز الاستحالة مانع وإلّا فالدّليل الظّاهر في شمول المورد حجّة على التّعبّد به ما لم تقم حجّة على خلافها، واحتمال الاستحالة غير حجّة فلا يمنع عن تصديق الحجّة، فتدبّر جيّدًا".

[5]  المباحث،ج2 من القسم الأوّل،ص554:"إلّا أنّ المحقّق الأصفهانيّ في حاشيته على الكفاية لا يقبل ذلك، ويقول: إنّ فرض أداء الاستصحاب إلى احتمال وقوع المحال لا يمنع عن جريانه، فإنّه إذا قام الدّليل من قبل المولى على هذا الاستصحاب، لم يصحّ طرحه لمجرّد احتمال الاستحالة؛ إذ لا يجوز رفع اليد عن دليل إلّا مع القطع ببطلانه، واحتمال الاستحالة لا يساوق القطع بالبطلان، وإنّما يساوق احتمال البطلان.

أقول: صحيح: أنّ احتمال استحالة شيء لا يمنع عن التّعبّد بوقوع ذلك الشّيء، وحجّيّة الدّليل الّذي دلّ عليه، فلو شككنا في استحالة تكلّم الميّت، وقامت بيّنةعادلة على أنّه تكلّم الميّت، كانت تلك البيّنة حجّة، ولو شككنا في إمكان حجّيّة خبر الواحد بعد الفرغ عن إمكان التّعبّد بظنون أخرى كالظّهور، ودلّ ظهور آية أو سنّة متواترة على حجّيّة خبر الواحد، تعبّدنا بحجّيّة خبر الواحد ولا يمنعنا عن ذلك احتمال استحالة حجّيّة خبر الواحد، إلّا أنّ الكلام فيما نحن فيه لا يجري وإن كان متينًا في مثل هذين المثالين؛ وذلك لأنّ ما نحتمل استحالته في مورد هذين المثالين وشبههما هو ما دلّ عليه الدّليل الّذي تعبّدنا به من تكلّم الميّت، أو حجّيّة خبر الواحد أو نحو ذلك، وأمّا نفس التّعبّد بهذه الأمور الّذي هو ثابت بالوجدان لا بالتّعبّد فلم نكن نحتمل استحالته. وأمّا في المقام فنفس التّعبّد بعدم وجوب المقدّمة الرّاجع _بناء على مباني صاحب الكفاية_ إلى عدم فعليّة وجوبها قد فرض احتمال استحالته، وهذا التّعبّد ليس المفروض: أنّه شيء نتعبّد به وإنّما المفروض أنّه شيء ثابت بالوجدان. وليس كالتّعبّد بتكلّم الميّت أو حجّيّة خبر الواحد في المثالين السّابقين، وما تحتمل استحالته لا يعقل ثبوته بالوجدان ولو قام دليل قطعيّ في المقام على الاستصحاب أوجب ذلك القطع بعدم الاستحالة وعدم الملازمة بين الفعليّتين ولم نحتج إلى نفي الفعليّة تعبّدًا بالأصل".

برچسب ها: مقدمه واجب

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است