وجوب المقدمة (الدرس ۹۵)

نوشته شده توسط السيد حمزة عيسی الموسوي. ارسال شده در تقریر عربی اصول

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كنّا قدّمنا الوجه الأوّل الّذي استدلّ به المحقّق الآخوند على وجوب المقدّمة وهو الوجدان.[1] وقد قلنا إنّ مقصوده من الوجدان هو الوجدان اللّغويّ، لكنّنا نعود لنقول إنّ مقصوده من الوجدان هو الإحساس لا ما يرتبط بوضع اللّغة. فإنّ المراد من أنّ الوجدان شاهد على أنّ من أراد شيئًا أراد مقدّمته هو أنّه كما تتعلّق إرادة مولويّة بذي المقدّمة تتعلّق على النّحو نفسه إرادة مولويّة بمقدّمته، والكلام فعلًا عن الإرادة التّشريعيّة.

فلو عدنا لندقّق في الوجوبات والأوامر المولويّة لوجدنا أنّ خلف كلٍّ منها مصلحة وحبًّا، وهذا صحيح لكنّ الأخيرين يشكّلان منشأ الحكم ومبدأه فيما حقيقة الحكم هو ذاك الجعل المولويّ الّذي هو في كنهه إرادة وطلب مولويّ. فليست حقيقة الحكم هو أنّه ما فيه المصلحة ولا ما هو محبوب للمولى، بل حقيقته هو تلك الإرادة والطّلب المولويّ الّذي يعبّر عنه بالبعث والجعل.

وهذا يقع في مقابل الأوامر الإرشاديّة الّتي يطلق عليها لفط الأوامر تسامحًا، لأنّها خالية عن حقيقة الحكم أي الإرادة المولويّة، كالأوامر الصّادرة عن الأطّبّاء والخالية عن أيّ نحو من المولويّة لخلّوها عن حقيقتها هي الإرادة الصّادرة عن المولى بل قوامها إرادة إرشاديّة لا غير. وهنا، إذا بحثنا عن تعلّق وجوب مولويّ بالمقدّمات، فإنّ بحثنا في الحقيقة هو عن تعلّق إرادة مولويّة بتلك المقدّمات على وزان ما تعلّقت بذيها إلّا من حيث النّفسيّة والغيريّة.

إذا عرفت هذا ظهر لك ما رمى إليه الشّيخ الآخوند من الاستدلال بالوجدان من أنّنا نحسّ أنّه كما نشأت إرادة مولويّة وجعل مولويّ ملزم بالاتيان بذي المقدّمة، فقد نشأت إرادة وجعل من الحيثيّة المولويّة نفسها يلزم بملاك غيريّ بالاتيان بالمقدّمة. أمّا منشأ تلك الحيثيّة فهي أنّ المحرّك مولى ومستحقّ للعبادة والطّاعة، لذا لو صدرت الأوامر من غير الموالي لم تكن حائزة على صفة الإلزام بالاتيان بها. وهذه الإرادة المقصودة هنا هي غير المصلحة وغير الحبّ الواقعين في مبادئ الحكم بل هذه هي الحكم عينه. ومن هنا تعلم أنّ حقيقة التّكليف تحصل من دون حاجة إلى مصلحة، إذ حقيقته الإرادة المولويّة، لكنّ المولى الحكيم لا يجعل التّكليف من دون مصلحة، وإلّا فليس قوام التّكليف بالمصلحة وهذا مشهود في الموالي العرفيّين.

هذا، وقد تبيّن أيضًا أنّ المقصود من وجوب المقدّمة المبحوث عنه هو اللّابدّيّة الشّرعيّة الّتي تختلف عن اللّابدّيّة العقليّة والتّكوينيّة. فاللّابدّيّة العقليّة هي حكم العقل بأنّ وجوب الاتيان بذي المقدّمة يستدعي وجوبًا عقليًّا للاتيان بالمقدّمة بحيث يحكم بعدم معذوريّة المكلّف عن ترك ذي المقدّمة من ناحية ترك المقدّمة، لماذا؟ لإدراك العقل للّابدّيّة التّكوينيّة الحاكية عن توقّف ذي المقدّمة على المقدّمة وجودًا، فاللّابدّيّة التّكوينيّة هي إدراك للتّوقّف التّكوينيّ فعلًا. والثّنتان الأخيرتان خاليتان عن المولويّة فيما الأولى قوامها بالمولويّة كما لا يخفى. نعم، هذا لا ينافي القول بأنّ الوجدان اللّغويّ يقتضي وجوب المقدّمة، بحيث إذا أمر المولى بذيها كان لأمره دلالة التزاميّة بيّنة بالمعنى الأخصّ مفادها وجوب المقدّمة، أي وجوب استلزمه واستدعاه الوجوب الأوّل النّاشئ عن الأمر المولويّ. وهذا يختلف عن كلام المحقّق الإيروانيّ[2] الّذي ادّعى أنّ وجوب المقدّمة هو عين وجوب ذيها كما أنّ وجوب الأجزاء هو عين وجوب المركّب، ببيان أنّ المطلوب مولويًّا من المكلّف هو تحصيل غرض المولى، وغرضه يتوقّف على ذي المقدّمة والمقدّمة، لا على خصوص ذي المقدّمة. فغرض النّهي عن الفحشاء والمنكر يتوقّف على الصّلاة وعلى مقدّماتها، والوجوب المولويّ الدّاعي إلى أحدهما هو عين الدّاعي إلى الآخر. وبالتّالي خرج بقوله هذا عن الذّهاب إلى وجوب المقدّمة بالاستلزام وقال به بملاك العينيّة.[3]

وفي الرّدّ على هذا الوجه ذكرنا إشكال السّيّد الخوئيّ بأنّ وجداننا لا يقضي بأنّ من أراد شيئًا أراد مقدّمته، بل يستحيل إرادة المقدّمة لأنّها لغو. فالعقل حاكم ولا داعي لإعمال المولويّة وحكمه كافٍ للدّاعويّة، أي إنّ المقدّمة صارت كما لو كانت مضمونة التّحقّق. [والشّيء بالشّيء يُذكر: هذا نظير ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ من أنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم محذور أن يصير ذو المقدّمة مقدّمة المقدّمة، لأنّ المقدّمة الواجبة هي المقيّدة بالإيصال فتحقّقها متوقّف على تحقّق ذيها، وهذا يعني أنّ وجود ذي المقدّمة مقدّمة لتحقّق المقدّمة، فيكون ذو المقدّمة واجبًا وجوبًا غيريًّا. هناك المحقّق الأصفهانيّ أجاب بأنّه لا محذور في أن يكون ذو المقدّمة مقدّمة للمقدّمة، لكنّه مقدّمة غير واجبة بوجوب مقدّميّ لأنّه مضمون التّحقّق من ناحية تحقّق مقدّمة ذي المقدّمة، فلا حاجة لأن يوجب المولى ذا المقدّمة بوجوب غيريّ.] فماذا يريد المولى من إيجابها بوجوب غيريّ؟ أن يدعو إلى ذيها؟ فلا حاجة لتعلّق أمر نفسيّ به؛ أو أن يدعو إلى المقدّمة؟ فلا حاجة لتعلّق وجوب عقليّ بها.

بعد ذلك نعود إلى ثمرة وجوب المقدّمة، فنقول: بناءً على ما تقدّم من معنى وجوب المقدّمة في الدّرس السّابق فقد سقطت الثّمرة الّتي تمسّكنا بها أي ثمرة السّيّد الرّوحانيّ[4] ولم يعد معنى للتّفصيل بين وجوب المقدّمة وعدم وجوبها الشّرعيّ من جهتها، والقول بالتّعارض على الأوّل والتّزاحم على الثّاني. فقد مرّ أنّه يكفي للقول بالتّعارض جعل المولى وجوبًا مطلقًا شاملًا لحالة المقدّمة المحرّمة ليتهافت مع جعل حرمة تلك المقدّمة. كما لو أمر المولى بإنقاذ النّفس ولو بالدّخول في أرض الغير ومع ذلك حرّم الدّخول في أرض الغير، فإنّ هذين الجعلين متهافتان متنافران. فلم نحتج لتصوير التّعارض إلى وجوب مولويّ للمقدّمة كما ترى، بل كفى إطلاق دليل الوجوب لينافي خطاب الحرمة؛ فتقدير الخطابان: أنقذ النّفس ولو بالدّخول في أرض الغير ولا تدخل في أرض الغير، وإن كان معنى "ولو بالدّخول" قد استفدناه من إطلاق دليل الإنقاذ، بحيث لا يبيح المولى تفويته لأجل ترك المقدّمة المحرّمة.

ولا يقال: إنّ هذا وارد في كلّ موارد التّزاحم بين ضدّين بحيث لن يبقى موردًا للتّزاحم ويتنقلب النّسبة بين الكلّ إلى التّعارض.

لأنّنا نقول: هذا غير تامّ، إذ ما يخرج بهذا البيان عن التّزاحم هي خصوص الموارد الّتي تكون فيها نسبة المتزاحمَين نسبة المقدّمة إلى ذي المقدّمة، أمّا حيث لا مقدّميّة بينهما فيتزاحمان لا يتعارضان، إذ لا توقّف لأحد الضّدّين على ترك الآخر، وهذا يرجع إلى عدم القبول بمسلك المقدّميّة بين الضّدّين. فقد بقيت موارد الضّدّين اللّذين ليسا من باب المقدّمة الّذي نحن بصدده تحت حالات التّزاحم. مثلًا قول المولى: أزل النّجاسة وصلّ، مع كونهما واردين في حصّة زمان واحدة على نحو يتضادّان؛ فهنا ضدّان ليس ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر لأنّ المكلّف ولو ترك الآخر قد لا يأتي بالفعل إذ ما زال لإرادته أثر في البين. وفي المقام، يجري قانون التّزاحم وهو تقديم الأهمّ وتأخير المهمّ مع جعله مشروطًا على وجه التّرتّب. ولا ينفع أن يقال إنّ "أزل النّجاسة" مطلق، ومفاده أزلها ولو بترك الصّلاة تمامًا كما قيل في المقدّمة أنقذ النّفس ولو بالدّخول في أرض الغير، فعدنا إلى التّعارض أو أخرجنا ما ادّعي دخوله في التّعارض وأعدناه إلى التّزاحم؛ لأنّنا سنقول: فرق بينهما، في مثال وجوب الإنقاذ وحرمة الدّخول في الأرض المغصوبة، المشمول بالإطلاق (أي ولو بالدّخول) هي مقدّمة يتوقّف عليها اتيان ذي المقدّمة، فلو دُعي مولويًّا إلى تركها مع لابدّيّتها العقليّة وشمول إطلاق الدّليل المولويّ لها لوقع التّهافت. لكن في مثال الإزالة والصّلاة، المشمول بالإطلاق هو ترك ضدّ مزاحم في مقام الامتثال على نحو لا فعله ولا تركه ممّا يتوقّف عليه تحقّق المطلوب الأهمّ أي الإزالة في الفرض.[5] وتتمّة البحث وبيان الفروق يأتي في بحث الضّد والتّرتّب، فانتظر ولا تملّ.

لكن تتحصّل ثمرتان جديدتان لوجوب المقدّمة:

الأولى: صحّة المقدّمة: إذا قلنا بوجوب المقدّمة المطلقة، فإنّ للمكلّف الاتيان بالمقدّمة بقصد أمرها الغيريّ ولو لم يكن قاصدًا الاتيان بذي المقدّمة بل ولو عازمًا على التّرك، لأنّه قد جاء بها لأمرها وتقع منه صحيحة. فلو توضّأ المكلّف كمقدّمة للصّلاة لكن عازمًا على ترك الصّلاة، وإنّما جاء بالوضوء لأجل مسّ القرآن، وقع وضوؤه صحيحًا. نعم لا بدّ أن نفترض أنّه جاء بالوضوء الصّلاتيّ لا بالوضوء للكون على الطّهارة، فالوضوء المأتيّ به هو الواقع بعد فعليّة وجوب الصّلاة ليكون مقدّمة مشروعة.

الثّانية: المقرّبيّة بواسطة الأمر الغيريّ المقدّميّ، فمن توضّأ امتثالًا للأمر الغيريّ المولويّ فقد انقاد لمولاه. ولا يقال إنّه عازم على التّرك لأنّ الفرض هو القول بوجوب المقدّمة المطلقة لا الموصلة. وكذا لا يقال إنّه قد سبق أنّ المقرّبيّة ممكنة ولو لم تكن المقدّمة واجبة وجوبًا شرعيًّا ويكفي لذلك وجوبها العقليّ، لأنّنا سنقول كان الفرض من حيث يؤتى بها بقصد ذي المقدّمة لا عازمًا على تركه.

 

[1]  الكفاية،ج1،ص177.

[2]  أنظر حاشية المحقّق الإيروانيّ على الكفاية،ج1،ص468:"الوجدان حاكم بأنّ المولى بما هو مولى لا يريد سوى ما هو مطلوبه الأوّليّ الذّاتيّ، وأمّا مطلوبه الثّانويّ العرضيّ فذلك مطلوبه بما أنّه أحد العقلاء وبتلك الجهة الّتي يشاركه فيها عبده وسائر العقلاء فيكون أمره بالمقدّمات وطلبه لها إرشاديًّا محضًا ولذا ربّما ينفي إرادة غير ذي المقدّمة ويصرّح ب"أنّي لا أريد منك إلّا الكون على السّطح" وأمّا ما عداه فالاتيان به وعدمه على حدّ سواء".

[3]  [المحقّق الإيروانيّ لا يقول بوجوب المقدّمة رأسًا لا أنّه يقول بوجوبها بملاك العينيّة، نعم هو لحظ العينيّة في كلامها لكن لا ليجعلها ملاك إثبات الوجوب.(المقرّر)].

[4]  منتقى الأصول،ج2،ص327.

[5]  [هذا من جهة. ومن جهة ثانية، إنّ في الأمر بالصّلاة شرط وهو عدم امتثال الأهمّ وقد أُخذ في خطابه وجعله، فإذا أُمر بالصّلاة فقد أُمر بها على وجه التّرتّب وإذا كان إطلاق أزل النّجاسة داعيًا إلى ترك الصّلاة عرفًا فهو لم يدعُ إلّا إلى إعدام شرط فعليّة وجوب الصّلاة، فهو موافق للأمر التّرتّبي المشروط لأنّه أمر يرجع إلى قضيّة شرطيّة مفادها إذا لم تمتثل الأهمّ فامتثل المهمّ، والقضيّة الكائنة على هذا النّحو يدور جزاؤها مدار شرطها وجودًا وعدمًا ويكون الجعل الدّاعي إلى وجود الشّرط موافقًا لجعله كما يكون الدّاعي إلى إعدام شرطه موافقًا لجعله التّرتّبيّ الشّرطيّ.(المقرّر)].

برچسب ها: مقدمه واجب

چاپ