وجوب المقدمة (الدرس ۹۶)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كان آخر كلامنا في ثمرتين ذكرهما شيخنا الأستاذ للقول بوجوب المقدّمة الشّرعيّ، الأولى منهما أنّه إذا جاء المكلّف _بناءً على القول بوجوب المقدّمة مطلقًا_ بذات المقدّمة ولو مع عدم قصد التّوصّل بل ولو مع قصد عدم التّوصّل، فإنّ المقدّمة مع ذلك تكون مجزية سواء كانت تعبّديّة أم توصّليّة. فلو أتى بالمقدّمة العباديّة كالطّهارة مقدّمةً للصّلاة أمكنه أن يمسّ المصحف ولو لم يمتثل الصّلاة أي ذا المقدّمة ولم يكن قاصدًا لامتثالها والتّوصّل إليها من أوّل الأمر. فهذه ثمرة في تصحيح العمل المقدّمي. وأمّا الثّمرة الثّانية فهي حصول المقرّبيّة بواسطة الأمر الغيريّ، بحيث يتمشّى من المكلّف الاتيان بالمقدّمة بقصد أمرها، فيتحقّق من ذلك قصد القربة. وبالتّالي، تصحّح المقدّمات العباديّة بأوامرها الغيريّة من دون حاجة إلى افتراض أمر نفسيّ ولا قصد توصّل إلى ذي المقدّمة ليتأتّى التّقرّب من الأمر الغيريّ من حيث الوقوع في طريق الاتيان ذي المقدّمة.

وبالعود إلى الوجوه الّتي ذكرها الشّيخ الآخوند ليستدلّ على وجوب المقدّمة، نصل إلى الوجه الثّالث المحكيّ عن أبي الحسن أو الحسين البصريّ؛[1] ومفاده: أنّه لا بدّ من القول بوجوب المقدّمة وإلّا لاستلزم ذلك المحال، إذ لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها أي ترك طبيعيّها وصرف وجودها بحيث لا يؤتى بأيّ حصّة منها، و"حينئذٍ" نسأل عن حال ذي المقدّمة: فإمّا أن يكون ما زال على وجوبه فيكون تكليفًا بالمحال؛ وإمّا أن يسقط تكليفه فيكشف ذلك عن كون التكليف بذي المقدّمة مشروطًا بالاتيان بالمقدّمة، وهذا خلف تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها اشتراطًا وإطلاقًا، إذ لو التزمنا بالتّبعيّة هنا لكان وجوب المقدّمة مشروطًا بالاتيان بالمقدّمة، وهذا من الأمر بتحصيل الحاصل وهو قبيح.

وفي الجواب على هذا الاستدلال[2] توقّف الشّيخ الآخوند على جواز التّرك الّذي جعله المستدلّ لازمًا للقول بعدم وجوب المقدّمة، واحتمل كون مراده أحد أمرين: إمّا أن يكون جواز التّرك بمعنى عدم الممنوعيّة عن التّرك أي لا مانع في البين؛ وإمّا أن يكون جواز التّرك بمعنى الرّخصة في التّرك أي الإباحة الفعليّة بحيث يكون هذا هو حكمها الشّرعيّ . واستقرب الشّيخ الآخوند الاحتمال الأوّل لوضوح سقوط الاحتمال الثّاني. ثمّ بناءً على الاحتمال الأوّل توقّف على الظّرفيّة _"حينئذٍ"_ الّتي رتّب على أساسها الفرضين فهي وإن كانت ظاهرة في : حين جواز التّرك، لكنّ المحذورين المفترضين لا يترتّبان على ما اخترناه من معنى الجواز وهو عدم الممنوعيّة بوضوح، فلا بدّ من اختيار ما هو الأنسب، فنقول: حينئذٍ بمعنى "حين التّرك فعلًا".

لكن مع ذلك يأتي النّقاش في الاستلزام المدّعى، فترك المقدّمة:_ 1._ لا يستدعي كون التّكليف بذي المقدّمة غير مقدور كما أنّه_ 2._لا يستدعي سقوط التّكليف بذي المقدّمة.

أمّا الأوّل، فلأنّ ترك المقدّمة بحيث يخسر المكلّف التّمكّن من اتيان ذي المقدّمة وإن كان مستلزمًا للعجز بالحمل الشّائع إلّا أنّه عجّز نفسه بتركه للمقدّمة بسوء اختياره، فهي وإن لم تكن واجبة شرعًا إلّا أنّ العقل قاضٍ بلا ريب بلزوم اتيانها موافَقةً لحكم العقل بوجوب الطّاعة للوجوبات المولويّة، ومنها وجوب ذي المقدّمة. بل ويمكن القول إنّ الكلام ليس في ظرف ما بعد التّرك بل في ظرف التّرك أي حينه، حيث يتحقّق منه ترك ويكون قادرًا على الفعل كما هو قادر على التّرك وإلّا لكان مضطرًّا. وفي هذه الحالة لا حاجة لأزيد من حكم العقل الدّاعي إلى عدم ترك المقدّمة في ظرف التّرك وحيث هو متمكّن من الفعل، إذ هذا ترك منجرّ إلى ترك ذي المقدّمة عصيانًا وطغيانًا. وحين العصيان أي في ظرفه، أي حيث يتأتّى منه عدم العصيان يكون مأمورًا بذي المقدّمة بلا حزازة ولا محذور ولا يلزم التّكليف بغير المقدور كما هو بيّن، وإلّا لما كان قادرًا على التّرك بل كان مضطرًّا عليه وهذا خلف.

وأمّا الثّاني، فالفرض أنّ جواز التّرك بمعنى عدم المانع من التّرك لا أنّه بمعنى وجوب التّرك، فإذا لم يكن مانع من ترك المقدّمة من حيث هي لم يستحل القول بوجوب ذي المقدّمة إذ يمكن الجمع بينهما.

إذا عرفت هذا بان فساد الملازمة المستدَلّ بها، إذ ولو على تقدير التّرك لا تكليف بغير المقدور ولا سقوط لوجوب ذي المقدّمة إلّا عصيانًا.

هذا كلّه على الاحتمال الأوّل أي كون جواز التّرك بمعنى عدم الممنوعيّة عن التّرك، أمّا على الاحتمال الثّاني وكونه بمعنى الرّخصة والحلّيّة والّذي يظهر من كلام البصريّ، فيكون عدم وجوب المقدّمة معيّنًا لكون الشّارع قد رخّص في تركها وحلّل ذلك بالإذن منه. فتكون الظّرفيّة "حينئذٍ" الواردة بمعنى حين التّرخيص بالتّرك يلزم المحذوران المذكوران، وترتّب المحذورين صحيح. لكنّ الملازمة باطلة، أي إنّه إذا لم تجب المقدّمة لم يتعيّن كونها مباحة قد رخّص الشّارع في تركها جاعلًا لها إباحة فعليّة. لأنّ معنى عدم وجوب المقدّمة هو عدم الحاجة إلى جعل مولويّ للوجوب لأجل التّحرّك والانبعاث للاتيان بها امتثالًا لذي المقدّمة. وإن قلت: إنّ ذلك يستلزم خلوّها من الحكم، قلنا لا إشكال في ذلك ما لم يكن هذا الخلوّ مسلتزمًا للتّحيّر في المقام العمل. فهنا وإن ارتفع حكم الشّرع بالوجوب إلّا أنّ العقل قاضٍ باللّابدّيّة الكافية لرفع التّحيّر، بحيث يكون المكلّف ملزمًا بالاتيان لكن لا إلزامًا شرعيًّا. فظهر أنّ ما يقال من المنع عن خلوّ الواقعة عن حكم هو بملاك منع تحيّر المكلّف في مقام العمل، أمّا مع فرض عدم التّحيّر لوجود حكم عقليّ فإنّه لا محذور من جهة الخلوّ لارتفاع مناط المنع في مورده.

ولكن حتّى مع الالتزام بضرورة ثبوت حكم للواقعة بحيث يمتنع خلوّها عن حكم، فإنّ الإباحة المحكوم بها هي إباحة حيثيّة أي من حيث ذات المقدّمة، لكنّها ليست إباحة فعليّة بحيث يكون المكلّف في مقام العمل مرخَّصًا له التّرك بالفعل، لأنّ في البين حيثيّات أخرى لا بدّ أن يترخّص من جهتها حتّى يُحكم بالإباحة الفعليّة، وهي مفروضة العدم هنا من حيث الاتيان بذي المقدّمة.

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص178:"ولا بأس بذكر الاستدلال الّذي هو كالأصل لغيره ممّا ذكره الأفاضل من الاستدلالات، وهو ما ذكره أبو الحسين البصريّ، وهو أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التّكليف بما لا يطاق، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبًا".

[2]  المصدر نفسه:"وفيه _بعد إصلاحه بإرادة "عدم المنع الشّرعيّ" من التّالي في الشّرطيّة الأولى، لا "الإباحة الشّرعيّة"، وإلّا لكانت الملازمة واضحة البطلان، وإرادة "التّرك" عمّا أضيف إليه الظّرف، لا "نفس الجواز"، وإلّا فبمجرّد الجواز بدون التّرك لا يكاد يتوهّم صدق القضيّة الشّرطيّة الثّانية_ ما لا يخفى؛ فإنّ التّرك بمجرّد عدم المنع شرعًا لا يوجب صدق إحدى الشّرطيّتين، ولا يلزم أحد المحذورين؛ فإنّه وإن لم يبق له وجوب معه إلّا أنّه كان ذلك بالعصيان؛ لكونه متمكّنًا من الإطاعة والاتيان، وقد اختار تركه بترك مقدّمته بسوء اختياره مع حكم العقل بلزوم اتيانها إرشادًا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.

نعم، لو كان المراد من الجواز جواز التّرك شرعًا وعقلًا للزم أحد المحذورين، إلّا أنّ الملازمة على هذا في الشّرطيّة الأولى ممنوعة؛ بداهة أنّه لو لم يجب شرعًا لا يلزم أن يكون جائزًا شرعًا وعقلًا؛ لإمكان أن لا يكون محكومًا بحكم شرعًا وإن كان واجبًا عقلًا إرشادً، وهذا واضح".

برچسب ها: مقدمه واجب

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است