وجوب المقدمة (الدرس ۹۷)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الدرس ۹۷

السيد حمزة عيسی الموسوي

كان الكلام في استدلال أبي الحسن أو الحسين البصريّ على وجوب المقدّمة، وبقي لنا نكتة في محاولة لتتميم استدلاله وردّ ذلك. مفاد كلامه هو أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها، وعلى تقدير التّرك: فإن كان وجوب ذي المقدّمة ثابتًا للزم التّكليف بغير المقدور وهو محال؛ وإن كان وجوبه ساقطًا للزم تقيّد وجوب ذي المقدّمة باتيان المقدّمة وهو باطل للتّبعيّة في الاشتراط والتّقييد بين الوجوبين على البيان الّذي تقدّم.

ويمكن أن يقال: إنّه إذا كان مقصوده من قوله "حينئذٍ"  هو "حين جواز التّرك الشّرعيّ" _وهو ظاهر كلامه_، فإنّه لا ينبغي أن يقول يلزم التّكليف بما لا يطاق، لأنّ جواز التّرك لا يساوق وجوب التّرك كما هو واضح. بل لا بدّ أن يقول "وحينئذٍ" _أي حين جواز التّرك_ يلزم التّهافت في التّكليف. فمن جهة، ذو المقدّمة واجب ومن جهة أخرى يجوز تركه من ناحية جواز ترك مقدّمته، وهذا تهافت. ولعلّ هذا هو مراد المستدلّ بحيث يرتّب محذور التّهافت في الجعل، وإن لم تساعد على ذلك العبارة المذكورة في الكفاية.

والجواب على ذلك: بأنّ عدم وجوب المقدّمة شرعًا لا يستلزم التّرخيص الفعليّ في التّرك، نعم لو استلزم التّرخيص الفعليّ للزم التّهافت. فالقائل بعدم وجوب المقدّمة إنّما هو قائل بعدم الوجوب الشّرعيّ المولويّ مع الحفاظ على اللّزوم العقليّ. هذا، وإذا تأمّن المكلّف من الوجوب الشّرعيّ لزم التّرخيص الحيثيّ أي من حيث المقدّمة لكنّه غير مرخّص بتركها من حيث ذو المقدّمة. ومن هنا يتبيّن أنّ التّرخيص الفعليّ يترتّب حيث لا محذور فيه من كلّ الجهات لا من جهة دون أخرى وإلّا لصار حيثيًّا، ولك أن تقول هو ترخيص فعليّ لولا اللّزوم العقليّ من جهة ذي المقدّمة.

وما ذكرناه من عدم الإشكال في خلوّ الواقعة من الحكم ذكره الشّيخ الآخوند هنا وذكره في مبحث الضّدّ[1] وفرّق بين الواقع والفعليّة، فقال بعدم الخلوّ في الواقع وإن كان لا إشكال في خلوّها فعليًّا، وهذا هو معنى التّرخيص الحيثيّ لا الفعليّ أي هذا ترخيص من جهة دون سائر الجهات، أي ترخيص من حيث المقدّمة من جهة شرعيّة، وبقي اللّزوم من حيثها من جهة عقليّة، أو قل بقي اللّزوم العقليّ الجائي من حيث ذو المقدّمة والمترشّح على المقدّمة، إذ يكفي القول بالوجوب العقليّ لكي تنتفي فعليّة التّرخيص.

إذن، ذهب الشّيخ الآخوند إلى القول بوجوب المقدّمة وهذا القول على مسالك كنّا بيّناها، ويقابله القول بعدم وجوب المقدّمة. وأمّا بعد، فقد تعرّض الشّيخ الآخوند للقول بالتّفصيل بين السّبب وغيره،[2] بحيث هناك من ادّعى أنّ التّلازم بين وجوبي المقدّمة وذيها إنّما يتمّ في المقدّمات الّتي من قبيل الأسباب دون غيرها، أي في المقدّمات التّوليديّة الّتي يترتّب عليها ذو المقدّمة، مع عدم كون المسبّب من حيث هو مقدورًا عليه. فلو قيل بوجوب الإحراق لوجبت مقدّماته الّتي من قبيل الأسباب كإيقاد النّار. وفي الحقيقة أنّ الأمر قد تعلّق بالسّبب لعدم مقدوريّة المسبّب فلا يُطلب من حيث هو. أمّا في غير الأسباب، فالمقدّمات تحتاج إلى عزم مستقلّ كما في مثل الوضوء وتتوقّف على الإرادة ولا يترتّب ذو المقدّمة على مقدّماته قهرًا.

وجواب الشّيخ الآخوند:[3]

أوّلًا: هذا الاستدلال لا ينتج التّفصيل بين السّبب وغيره بل هذا قول بأنّه في موارد الأسباب والمسبّبات يتعلّق تكليف نفسيّ بالأسباب لاستحالة تعلّقه بالمسبّبات، بحيث إذا كان الطّبخ مطلوبًا لما أمكن الأمر به بل أُمر بمقدّماته المولّدة له أي بأسبابه. وبالتّالي ولو تعلّق التّكليف ظاهرًا بالمسبّب أحيانًا إلّا أنّ المأمور به المقدور عليه هي أسبابه لا غير. وهذا خلف فرضنا وبحثنا، إذ الكلام في الأوامر الغيريّة لا النّفسيّة.

ثانيًا: ولكنّ القول بأنّ المسبّب ليس بمقدور بعد القدرة على السّبب غير صحيح؛ فالقدرة على الشّيء أعمّ من القدرة مباشرة أو بالواسطة. وبالتّالي، الصّحيح إمكان تعلّق التّكليف بالمسبّب، فإن شُكّ في المحصّل وجب الاحتياط. وهذا على خلاف القول بأنّ التّكليف متعلّق بالأسباب فإنّه لو شُكّ في مقداره أهو الأقلّ أو الأكثر جرت البراءة عن الزّائد، لأنّه راجع إلى الشّكّ في التّكليف لا في المكلّف به ولم يجر الاحتياط، إذ بالأقلّ قد جيء بمحصّل التّكليف الأقلّ المعلوم والزّائد مؤمَّن عنه.

ثمّ ذكرقولًا آخر بالتفصيل بين الشّرط الشّرعيّ وغيره[4] أي بين المقدّمات الشّرعيّة والمقدّمات التّكوينيّة، بحيث يقال بالوجوب لخصوص المقدّمات الشّرعيّة الّتي لا تُعلم مقدّميّتها إلّا من بيانات الشّارع، ومعنى ذلك أنّه إن لم يثبت لها الوجوب لم يثبت كونها مقدّمةً، لأنّه لا معنى للشّرطيّة ولا للمقدّميّة في المركّبات الشّرعيّة إلّا من حيث كونها واجبة، أي إنّ معنى شرطيّة شيء لشيء شرعًا هو وجوبه لصحّة الفعل الشّرعيّ. ولكنّ الأمر ليس كذلك في غير الشّرعيّات كما في نصب السّلّم للكون على السّطح، فلا معنى للوجوب المولويّ والقضيّة ترجع إلى حكم العقل وهو قادر على الكشف عن ذلك.

وقد أجاب صاحب الكفاية عن ذلك:[5]

أوّلًا: سبق في بحث تقسيم المقدّمات أنّ الشّروط الشّرعيّة مردّها إلى شروط عقليّة. [6] وهذا لا يتنافى مع كون أصل جعلها شرعيًّا لكن بعد الجعل يكون دخلها في الواجب عقليًّا. ويحكم العقل بالمقدّميّة بعد إيجاب المولى للطّبيعة المقيّدة بقيد بحيث تكون حصّة معيّنة، ويكون تحصيصها بالقيد الشّرعيّ كتحصيص الواجب بالقيد العقليّ بلا فرق.

ثانيًا: إذا كانت المقدّميّة متوقّفة على الأمر لاستلزم ذلك الدّور، لأنّ الأمر متوقّف على ثبوت موضوعه وهو المقدّمة أي من حيث هي مقدّمة يتوقّف عليها الواجب بالحمل الشّائع.

لا يقال: إنّه لا مناص من حكم الشّرع في المقدّمات الشّرعيّة وإلّا عقلًا لا توقّف لذي المقدّمة المتفترض على المقدّمة المفترضة، لأنّنا نقول: إنّ المقدّميّة لا تنشأ عن حكم الشّارع بوجوب المقدّمة بل تنشأ عن حكم الشّارع بالوجوب النّفسيّ للحصّة المعيّنة من ذي المقدّمة[7] المقيّدة، بحيث يدخل التّقيّد في الواجب، وليس التّقيّد إلّا معلول القيد أي المقدّمة فتكون المقدّمة مقدّمة وجود للتّقيّد وعلّته العقليّة.

وفي المحصّلة، تمّم الشّيخ الآخوند القول بوجوب مطلق المقدّمة في مقابل القائلين بلغويّة جعل المولى لوجوب لها مع حكم العقل بلزوم الاتيان بها، وعلى الأقلّ لو سلّمنا عدم اللّغويّة فإنّه لا كاشف عن الجعل المولويّ. بيان عدم اللّغويّة: قد يقال إنّ جعل الشّارع للوجوب يحرّك في حين أنّ حكم العقل قد لا يكون محرّكًا وقد لا يكون كافيًا للمحرّكيّة، فيتدخّل الشّارع لمؤازرته لضمان عدم فوات أغراضه. لكنّ هذا لا ينتج القول بجعل الشّارع للوجوب، بل ينتج إمكان جعل الشّارع للوجوب. وليس المطلوب في المقام البحث عن إمكان جعل المولى لأمر غيريّ مقدّميّ بل البحث في إثبات الوجوب وهو ما ذهب إليه الشّيخ الآخوند، وهذا يعني أنّه ولو سلّمنا بالإمكان إلّا أنّ الجعل بالفعل يحتاج إلى كاشف ودليل وهو مفقود في البين.[8]

بعد ذلك، بيّن صاحب الكفاية مطلوبيّة مقدّمة المستحبّ ثم مبغوضيّة مقدّمة الحرام والمكروه.

أمّا الكلام في مقدّمة المستحبّ[9] فهو بعينه ما مرّ في الواجب مع كون مقتضى الحال رفع الإلزام عن المطلوبيّة وأخذ السّعة والتّرخيص في الفعل، ويكون عمدة الأدلّة هو الوجدان. وعليه، إذا استحبّ الشّيء استحبّت مقدّمته لسريان المحبوبيّة من المطلوب النّفسيّ إلى مقدّماته. وهنا أيضًا يرد بحث التّزاحم، إذ لا اختصاص له بحالات تزاحم وجوبين بل يشمل تزاحم واجب ومستحبّ أو حرام ومستحبّ وهكذا؛ فما قيل هناك يقال هنا. بل نزيد الطّين بلّة، ونقول إنّه قد يتعلّق وجوب نفسيّ بمقدّمة المستحبّ على ما هي عليه من ملاكها الغيريّ، أي هي غير حاوية لملاك نفسيّ بل لها ملاك مقدّميّة المستحبّ، لكن مع ذلك يتعلّق بها وجوب نفسيّ ليكون الحال بأنّ المقدّمة واجبة وذا المقدّمة مستحبّ. مثاله وجوب التّعلّم بمعنى الاجتهاد، بحيث يجب الاجتهاد في طلب الأحكام من المصادر ومنها تلك الأحكام المستحبّات، بل قد يقال ذلك في حقّ العامّيّ أيضًا لكن لا بمعنى الاجتهاد، فهذه مقدّمة واجبة لفعل مستحبّ. وكذا كما لو قلنا بوجوب تعلّم القرآن لقراءته، بحيث يكون التّعلّم واجبًا والقراءة مستحبّة. وهذا نظير المقدّمة المفوّتة الّتي قال الشّيخ الآخوند بوجوبها وجوبًا نفسيًّا لكن بملاك غيريّ لا غير.

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص186:"وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم فهو إنّما بحسب الحكم الواقعيّ لا الفعليّ، فلا حرمة للضّدّ من هذه الجهة أيضًا، بل على ما هو عليه _لولا الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعليّ_ من الحكم الواقعيّ".

[2]  المصدر نفسه:"وأمّا التّفصيل بين السّبب وغيره: قد استدلّ على وجوب السّبب بأنّ التّكليف لا يكاد يتعلّق إلّا بالمقدور، والمقدور لا يكون إلّا هو السّبب، وإنّما المسبّب من آثاره المترتّبة قهرًا ولا يكون من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته، فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إليه عنه إلى سببه.

[3]  المصدر نفسه:" ولا يخفى ما فيه من أنّه ليس بدليل على التّفصيل، بل على أنّ الأمر النّفسيّ إنّما يكون متعلّقًا بالسّبب دون المسبّب، مع وضوح فساده؛ ضرورة أنّ المسبّب مقدور المكلّف وهو متمكّن منه بواسطة السّبب ولا يعتبر في التّكليف أزيد من القدرة، كانت بلا واسطة أو معها كما لا يخفى".

 

[4]  المصدر نفسه:"وأمّا التّفصيل بين الشّرط الشّرعيّ وغيره: فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل بأنّه لولا وجوبه شرعًا لما كان شرطًا؛ حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلًا أو عادة".

[5]  المصدر نفسه:"وفيه _مضافًا إلى ما عرفت من رجوع الشّرط الشّرعيّ إلى العقليّ_ أنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيريّ إلّا بما هو مقدّمة الواجب، فلو كانت مقدّميّته متوقّفة على تعلّقه بها لدار".

[6]  المصدر نفسه،ص132:"ولكنّه لا يخفى رجوع الشّرعيّة إلى العقليّة؛ ضرورة أنّه لا يكاد يكون مستحيلًا ذلك شرعًا إلّا إذا أخذ فيه شرطًا وقيدًا واستحالة المشروط والمقيّد بدون شرطه وقيده يكون عقليًّا".

[7]  المصدر نفسه،ص180:"والشّرطيّة وإن كانت منتزعة عن التّكليف إلّا أنّه عن التّكليف النّفسيّ المتعلّق بما قيّد بالشّرط لا عن الغيريّ، فافهم".

[8]  [أكرّر هنا للفائدة تعليقًا مرّ في الدّرس 94 مفاده: أنّ الإشكال باللّغويّة غير وارد، لأنّ الكلام هو في التّرتّب القهريّ للوجوب احتيج إليه لأجل المحرّكيّة أم لم يُحتج إليه بلا فرق بناءً على الملازمة، فلا تصل النّوبة للسّؤال عن الفائدة والغرض.

على أنّ هذا الإشكال يستبطن اعترافًا بوجود المقتضي أي أصل الملازمة، وهو دعوى لابتلائها بمانع اللّغويّة، ومتى دُفع هذا المانع:إمّا ببيان أنّ المقام ليس مقام ترتّب اختياريّ ليتأتّى الحديث عن أغراض اختياريّة؛ وإمّا ببيان فائدة ما بل ببيان احتمالها فإنّه يكفي لانتفاء إشكال اللّغويّة، ومنها ما لو أراد المولى إضافة داعويّة مولويّة تكون مؤازرة للدّاعويّة العقليّة لينقدح في نفوس المكلّفين عزم على الطّاعة، وما أكثر العقلاء الّذين لا يتحرّكون عن محرّكيّة عقولهم ويتحرّكون عن أوامر المولى خوف النّار والعذاب الأليم أو طلبًا للنّعيم أي دفعًا للضّرر الأخرويّ أو جلبًا للمصلحة الأخرويّة، وهذه كافية لانتفاء اللّغويّة.

ولو أُريد نقض أصل الملازمة لاحتاج المقام إلى بيان محذور يرجع إلى كشف تهافت الملازمة واستلزامها لاجتماع النّقيضين _إذ هي إن كانت فهي أزليّة الكون وإن لم تكن فهي أزليّة العدم_، كما لو قيل باستلزمها للدّور المحال أو التّسلسل، لكنّ أيًّا من هذين المحذورين غير نافذ ها هنا، فلم يبق إلّا البحث في الموانع ولا يُتصوّر إلّا اللّغويّة وهي مدفوعة ممنوعة.(المقرّر)].

[9]  أنظر الكفاية،ج1،ص180:"لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحبّ كمقدّمة الواجب، فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة".

برچسب ها: وجوب مقدمه

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است