مقدمة الحرام و المکروه (الدرس ۹۸)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

انتهى بنا الكلام إلى مقدّمة الحرام والمكروه بحيث نسأل: هل تترشّح حرمة على مقدّمات الفعل الحرام كما ترشّح وجوب على مقدّمات الفعل الواجب بناءً على القول بالملازمة؟

ذهب الشّيخ الآخوند إلى التّفصيل في مقدّمات الحرام[1] بين ما كان من قبيل الأسباب بحيث يترتّب المسبّب الحرام عليه قهرًا، وبين سائر المقدّمات الّتي تتوسّط إرادة للفاعل بين المقدّمات وذيها.

وعلى هذا، يجرج جلّ مقدّمات الحرام عن محلّ البحث ولا يثبت لها حرمة تبعًا لحرمة ذيها، لأنّها ليست من قبيل الأسباب للمسبّبات بل يتوقّف ذوها على إرادة مستقلّة تُضاف إلى الإرادة  المتعلّقة بالمقدّمات. لذا نستطيع أن نضرب قاعدة عامّة تقول بأنّ عموم مقدّمات الحرام ليست بمحرّمة وأنّ الحرمة تنحصر بحالات كون المقدّمات علّة تامّة لذيها أو الجزء الأخير من العلّة التّامّة. الفعل الحرام يستند بحسب الدّقّة العقليّة إلى كلّ مقدّماته بحيث يكون معلولها، إلّا أنّ العرف لا يُسند الفعل إليها جميعًا بعُدت أم قرُبت، وإنّما يُسند الحرام إلى ما تسبّب عنه مباشرة، أي حيث يترتّب الحرام قهرًا بلا توسّط إرادة تتعلّق بالحرام مباشرة. وليس قولنا هذا قولًا بأنّ العرف لا يلتفت إلى تلك الدّقّة العقليّة، بل المراد أنّ العرف لا يعتني إلّا بما كان آخر أجزاء العلّة التّامّة، ويحكم عليه بكونه سبب التّحقّق. فلو ضرب رجل رجلًا ضربة فلم يمت، ثمّ ألحقه رجل ثانٍ بأخرى فمات على إثرها، لكان الموت عرفًا يستند إلى ضربة الثّاني بحيث يكون هو المسبّب، وإن كان العرف يفهم ولا يعمى عن كون الضّربة الأولى مؤثّرة بحيث لو لم تكن لم يكن الموت.

وفي الحقيقة يرجع هذا التّفصيل في مقدّمة الحرام إلى عدم تحقّق النّكتة الّتي على أساسها حكمنا بوجوب مقدّمة الواجب. والنّكتة هي التّوقّف بمعنى أنّ التّوصّل إلى ذلك الواجب ليس بممكن لولا هذه المقدّمة فتجب. وهذه النّكتة متوفّرة في جميع مقدّمات الواجب سواء القريبة أو البعيدة، العلّة التّامّة وكذا العلّة النّاقصة، أي إنّ الوجوب يسري إلى كلّ المقدّمات وإلى كلّ أجزائها لتوقّف ذي المقدّمة عليها جميعًا، فتقع جميعها محبوبة لا بقيد المجموع بل واحدة واحدة، إذ محبوبيّة الشّيء تستدعي محبوبيّة جميع ما يقع عنه. أمّا في الحرام، فالمبغوض هو ما يسبّب الحرام لا أكثر، وغالبًا _أي في غير التّوليديّات_ ما يبقى مجال للارتداع عن فعل الحرام ولو وُجدت جميع المقدّمات. وبالتّالي، إنّ مبغوضيّة الشّيء لا تستلزم مبغوضيّة جميع مقدّماته، بل المبغوض والممنوع هو خصوص المسبّب للحرام، وهذا لا يحصل من كلّ المقدّمات كما هو واضح. وذلك لأنّه يبقى مجال للإرادة، ومادام للإرادة مجال فلا ممنوعيّة لأنّه لا تسبّب قهرًا من جهة المقدّمات.

ولو دقّقنا، فإنّ المولى يريد أن لا يحصل الفعل الحرام في الخارج وهو يبغضه نفسيًّا، فإن قلنا بالملازمة بين الشّيء ومقدّماته لم يكن في البين صلاحيّة لترشّح المبغوضيّة على سوى الجزء الأخير من العلّة المسبّبة إلى الحرام، فإنّه يكفي إعدامها لانعدام الحرام في الخارج وهو الغرض. والمبغوضيّة التّشريعيّة ليست إلّا دفعًا إلى إعدام ذلك الجزء المسبّب حيث توفّر، أمّا المطلوب في الواجب فهو إيجاده وهو لا يوجد إلّا بكلّ المقدّمات فلا بدّ من محبوبيّة للكلّ جزءًا جزءًا. وليس التّمكّن من الحرام مبغوضًا ليقع كلّ ما كان ممّكّنًا كذلك، بل المبغوض هو خصوص التّسبيب إليه، وإلّا فإنّ التّمكّن حاصل قبل المقدّمات حتّى بما وهب الخالق من قدرة، فهل يكون مبغوضًا؟ وإنّما الحاصل بالمقدّمات هو تحصيل تمكّن أقرب من الأسبق. من صنع الخمر بقصد شربه لم يقع صنعه مبغوضًا إذ المبغوضيّة لا تسري إلّا إلى السّبب، نعم يثبت في مثل المقام تجرٍّ من حيث قصد الشّرب. وبتعبير آخر: إنّ المقدّمة الموصلة المتوئمة للحرام هي المحرّمة لا مطلق المقدّمة الموصلة فضلًا عن مطلق المقدّمة ولو غير الموصلة، في باب مقدّمات الحرام. مع الالتفات إلى أنّ هذا كلّه بغضّ النّظر عن الأدلّة الخاصّة بالموارد، كحرمة غارس الخمر بقصد شرب الخمر، حيث دلّ الدّليل على حرمتها لكن النّفسيّة. وبالمناط نفسه الّذي ذكرنا لا تحرم مقدّمة مقدّمة الحرام لأنّه لا تسبيب فيها، بل تمكين وملاك الحرمة هو التّسبيب لا التّمكين.

إن قلت:[2] ما من حادث إلّا وله سبب، فلا يصحّ ما قيل من خروج جلّ المقدّمات عن البحث، إذ كلّها حوادث معلولة فعادت لتدخل جميعًا.

قلت:[3] إنّ من جملة المقدّمات الإرادة، بحيث لا يتمّ المعلول الحادث إلّا بسبب ومنها الإرادة. ولكنّ هذه الإرادة ليست اختياريّة، وهذا لا ينتهي إلى الجبر كما توهّم بعض واتّهم به الشّيخ الآخوند، بل معنى ذلك أنّها ليست مسبوقة بإرادة لأنّها إن تعلّقت بها إرادة للزم التّسلسل. ومناط تعلّق التّكليف بفعل عند صاحب الكفاية هو تعلّق الإرادة به وهذا مفقود في مورد الإرادة، وعليه فلا تقع الإرادة مكلّفًا بها. إذ إنّ التّكليف يعني وجوب صرف الإرادة في المكلّف به لكن إن كانت الإرادة هي المكلّف به للزم صرف الإرادة في ذاتها. وهذا مطلب ذكره الشّيخ الآخوند في مقدّمة الواجب ثمّ أعاده هنا، وترى الشّيخ الآخوند ينحت عبارته بدقّة معبّرًا عن أنّ اختياريّة كلّ شيء بالإرادة واختياريّة الإرادة بذاتها.

ومن هنا فإنّ الجزء الأخير في جلّ المحرّمات خارج عن الاختيار وهو الإرادة فخرجت عن محلّ البحث. وبقيت فيه التوليديّات والتّسبيبيّات فقط، من قبيل إطلاق الرّصاص المسبّب للقتل، فإنّه بعد إطلاقه يعجز المكلّف عن إيقافه بالقدرة ويقصر عن دفع تولّد القتل عن سببه الاختياريّ، فتكون هذه المقدّمة محرّمة.

هذا، إلّا أنّ الإشكال على كلام الشّيخ الآخوند بحسب شيخنا الأستاذ يقع في ما جعله ملاكًا لتعلّق التّكليف، وهو كون الفعل مسبوقًا بالإرادة. والصّحيح كون الملاك هو قدرة المكلّف على الاتيان بالفعل وعلى تركه. وبهذا المعنى الإرادة نفسها مقدور عليها أي مقدور على فعلها أو تركها، وهذا كافٍ لصحّة التّكليف بها. على أنّنا لا نسلّم عدم إمكان تعلّق الإرادة بالإرادة كما ذكرنا في الرّدّ على إشكالات السّيّد الصّدر في المورد سابقًا.

والكلام في مقدّمة المكروه هو ما مرّ بعينه في مقدّمة الحرام، وبهذا يتمّ الكلام في بحث مقدّمة الواجب ويصل الكلام إلى بحث الضّدّ وبيانه بعونه تعالى.

 

 

 

 

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص180:"وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة؛ إذا منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارًا كما كان متمكّنًا قبله، فلا دخل له أصلًا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه فلم يترشّح من طلبه طلب ترك مقدّمتهما. نعم ما لم يتمكّن معه من التّرك المطلوب لا محالة لا يكون مطلوب التّرك ويترشّح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدّمة، فلو لم يكن للحرام مقدّمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتّصف بالحرمة مقدّمة من مقدّماته".

[2]  المصدر نفسه:"لا يقال: كيف ولا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدّمة لا محالة معها يوجد ضرورة أنّ الشّيء ما لم يجب لم يوجد".

[3]  المصدر نفسه:"فإنّه يقال: نعم، لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام، لكنّه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدّمات الاختياريّة، بل من المقدّمات غير الاختياريّة كمبادئ الاختيار الّتي لا تكون بالاختيار وإلّا لتسلسل فلا تغفل وتأمّل".

برچسب ها: مقدمه حرام, مقدمه مکروه

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است