اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۱)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ما زال البحث في مناقشة الشّيخ الآخوند بوجوه ثلاثة لمقدّميّة ترك الضّدّ لوجود ضدّه بحيث يكون التّرك جزء العلّة من حيث إنّه عدم المانع.

الوجه الثّالث:[1] استلزام القول بمقدّميّة ترك الضّدّ لوجود ضدّه للدّور؛ بيانه: إذا توقّف وجود الضّدّ الأوّل على عدم ضدّه _توقّف الشّيء على عدم مانعه_، فإنّ عدم الضّدّ الثّاني يتوقّف على وجود الضّدّ الأوّل _توقّف عدم الشّيء على وجود المانع_، فالتّمانع مفروض من طرفي الضّدّين بحيث يكون كلّ منهما مانعًا عن وجود الآخر، وعدم كلّ منهما هو عدم المانع الّذي يُعدّ جزءًا من علّة وجود الآخر. لكنّ علّة العدم هي عدم علّة الوجود، فإذا كان عدم المانع علّة لوجود الضّدّ، فإنّ عدم عدم المانع أي وجود المانع علّة لعدم الضّدّ. وبالتّالي، كما أنّ وجود الضّدّ موقوف على علّته ومنها عدم ضدّه، فإنّ عدم الضّدّ الثّاني موقوف على علّته ومنها عدم عدم المانع أي عدم عدم الضّدّ الأوّل أي وجود الضّدّ الأوّل. وعلى هذا، فكما توقّف وجود الضّدّ الأوّل على عدم الضّدّ الثّاني، فقد توقّف عدم الضّدّ الثّاني على وجود الضّدّ الأوّل، فتوقّف وجود الضدّ الأوّل على نفسه، وهذا دور وهو محال.

وعلى المثال:إذا توقّف وجود السّواد على عدم البياض _توقّف الشّيء على عدم مانعه_، لكنّ وجود السّواد يمنع وجود البياض، فوجوده وجود مانع عن وجود البياض وعدم السّواد هو عدم مانع بالنّسبة لوجود البياض. وعلى هذا، فإنّ وجود السّواد هو عدم عدم المانع أي وجود المانع عن وجود البياض، أي هو علّة عدم البياض. فتوقّف عدم البياض على وجود السّواد لكنّ وجود السّواد متوقّف على عدم البياض، فتوقّف الشّيء على نفسه، وهو دور محال.

وتفصّيًّا عن إشكال الدّور نقل صاحب الكفاية جوابًا منسوبًا إلى المحقّق الخوانساري؛[2] ومحصّله: إنّ في المقام فرقًا بين التّوقّف من جهة الوجود وبينه من جهة العدم، فالتّوقّف من طرف الوجود هو توقّف فعليّ لوجود الضّدّ على عدم المانع، لكنّ توقّف عدم الضّدّ على وجود ضدّه شأنيّ تقديريّ. وذلك لأنّه لا يتوقّف عدم الضّدّ على وجود ضدّه أي وجود المانع بل يتوقّف على عدم المقتضي، وإن شئت قلت إنّ هذا العدم ثابت لأجل استحالة تحقّقه ذاتًا أو وقوعًا في ظرف تحقّق ضدّه، فيما إسناد الممنوعيّة إلى وجود المانع هو فرع إمكان الممنوع. أي إنّ إسناد انعدام الصّلاة إلى منع الإزالة هو فرع إمكان الصّلاة في فرض تحقّق الإزالة، لكنّ إمكان الصّلاة غير ثابت إذ هي مستحيلة في فرض الإقدام على الإزالة هذا من جهة ويستحيل تعلّق إرادة بها في فرض تعلّق إرادة بضدّها أي الإزالة. والحال هذا، إنّما يستند عدم الصّلاة إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع، أي يستند إلى كون أصل تحقّقه محالًا وكونه لم ينقدح في نفس الفاعل المختار إرادة تعلّقت بهذا الفعل الإراديّ أي  الصّلاة الواقعة ضدًّا للإزالة.

بيانه: لو فرضنا تحقّق السّواد في محلّ وزمان معيّنين فلا بدّ من فرض انعدام البياض في ذلك المحلّ وذلك الزّمان، إذ إنّ الضّدّين لا يجتمعان على موضوع واحد في زمان واحد. والقائل بالمقدّميّة يقول بأنّ عدم البياض مقدّمة لوجود السّواد وهذا فعليّ، أي إنّ الوجود الفعليّ  للسّواد متوقّف على عدم البياض لأنّه عدم مانع. لكنّ ما يتوقّف عليه عدم البياض ليس وجود السّواد بالفعل، بل هو يتوقّف فعلًا على شيء آخر. إذ إنّ العدم يتحقّق بانعدام أحد أجزاء علّة الوجود، فالعدم المتحقّق بسبب عدم علّة الوجود، قد يستند إلى انعدام المقتضي تارةً وقد يستند أخرى إلى انعدام عدم المانع أي وجود المانع. والمقتضي هنا هو تعلّق إرادة الفاعل بإيجاده، فقد يستند عدم الضّدّ إلى عدم وجود إرادة أو وجود إرادة بعدمه، وقد يستند إلى وجود المانع أي الضّدّ. وقد يجتمعا فينتفي المقتضي ويتحقّق المانع، لكنّه حال الاجتماع يستند العدم إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع، إذ رتبة المقتضي أسبق من رتبة عدم المانع. فلو لم تحترق الورقة الرّطبة حال عدم وجود النّار لم يستند عدم الاحتراق إلى وجود الرّطوبة بل إلى عدم وجود النّار.

لكنّه كلّما ثبت عدم الضّدّ حال وجود ضدّه كان ذلك مجامعًا لعدم المقتضي ولوجود المانع، أي كان مجامعًا لعدم إرادة للضّدّ المعدوم لاستحالتها ولوجود مانع وهو إرادة ضدّ الضّدّ المعدوم المستتبعة لإيجاد ذاك الضّدّ في الخارج. فيسند بالفعل عدم الضّدّ إلى عدم المقتضي دائمًا، ولذلك توقّف عدم الضّدّ على وجود ضدّه أي مانعه هو توقّف فرضيّ _أي على فرض وجود المقتضي_ لا يتحقّق دائمًا لدوام استناده إلى عدم المقتضي أي عدم إرادةٍ متعلّقةٍ به، إذ لا يمكن تعلّق إرادة بوجود الضّدّ وكذا إرادة بوجود ضدّه من فاعل مريد واحد، بل لا بدّ من انتفائها في الثّاني أو ثبوت إرادة لعدمه.

بعد ذلك أشكل المحقّق الخوانساريّ على نفسه وردّ الإشكال، ومحصّلهما:

إن قلت:[3] إنّ ما ذكرته من أنّ عدم الصّلاة يستند إلى عدم المقتضي أي عدم الإرادة لا إلى وجود المانع أي الإزالة، إنّما يتمّ في المريد الواحد بحيث لا يتمشّى من مريد واحد إرادة للإزالة وكذا إرادة للصّلاة في زمان واحد، لأنّ إرادة الإزالة تكون مع عدم إرادة الصّلاة أو مع إرادة عدم الصّلاة، لكنّها لا تجتمع مع إرادة الصّلاة وإلّا لاجتمع الضّدّان. إلّا أنّ هذا الكلام لا يتأتّى حيث يكون المريد متعدّدًا، بحيث تنقدح في نفس مريد أوّل إرادة الصّلاة، وفي نفس مريد ثانٍ إرادة الإزالة. فإنّه حالها، لن يكون في البين تلازم بين إرادة الضّدّ الأوّل وعدم إرادة الضّدّ الثّاني أو إرادة عدمه بنكتة استحالة اجتماع الضّدّين، فلا وحدة محلّ في البين. ولكن، ولأجل التنافي والتّضادّ بينهما في مقام الامتثال، فإنّه لن يتأتّى امتثال لهما معًا في زمان واحد، لكنّ عدم أحدهما لن يستند إلى عدم المقتضي أي عدم تعلّق إرادة به كما صوّرنا في المريد الواحد، بل سيستند إلى وجود المانع أي إلى وجود ضدّه، فعاد الدّور وتوقّف الشّيء على نفسه. فتلخّص: أن لا دور في المريد الواحد لتوقّف وجود الضّدّ على عدم ضدّه وتوقّف عدم ضدّه على عدم مقتضيه أي عدم إرادته، فيما يلزم الدّور في حال تعدّد المريد بحيث يتوقّف وجود الضّدّ على عدم ضدّه ويتوقّف عدم الضّدّ على وجود ضدّه من حيث إنّه وجود للمانع.

وفي الحقيقة لا داعي لردّ هذا الإشكال، إذ إنّ محلّ كلامنا هو وحدة المريد وهو المولى الواحد إلّا أنّ المستدلّ أكمل ولم يتباطأ في السّعي لردّه ودفعه.

قلت:[4] إنّنا لا نسلّم التّوقّف والدّور حتّى في مورد تعدّد المريد، وذلك لأنّ عدم الضّدّ لم يستند إلى وجود مانعه أي وجود ضدّه، بل يستند إلى عجز المكلّف وقصوره عن فعل ذلك الضّدّ. وحيث قصر المكلّف عن فعل محبوبه انتفت الإرادة لأّنّ المقصود بالإرادة هو الشّوق الشّديد الأكيد المستتبع لتحريك العضلات مع وجود القدرة. أمّا حيث لا قدرة لا إرادة تستتبع تحريك العضلات، فعاد عدم الضّدّ ليستند إلى عدم القدرة وقصورها المستلزم لعدم الإرادة الكافية أي إلى عدم المقتضي الكافي والمناسب لا إلى وجود الضّدّ الآخر أي وجود المانع. نعم نفترض هنا إرادة لكنّها إرادة ضعيفة، ففي الحقيقة هنا إرادة كان ينبغي أن تكون مقتضيًا لكنّها قاصرة ومغلوبة، فعادت كأنّها معدومة، وصارت حبًّا وشوقًا وعزمًا لكن لا يستلزم تحريك العضلات ولا يقع جزءًا أخيرًا لعلّة وجود الفعل الاختياريّ.

وقد علّق شيخنا الأستاذ على ذلك بأنّه لعلّ القائل يرمي إلى أنّ الشّارع لأحكامنا متعدّد، ويمكن أن يتأتّى تعدّد لإرادات تنقدح في نفوس الأئمّة عليهم السّلام، بحيث يريد المعصوم الأوّل الإزالة ويريد المعصوم الثّاني الصّلاة، فيكون عدم أحد الضّدّين مستندًا في الحقيقة إلى غلبة إرادة على إرادة أخرى قصرت عن التّحريك في الخارج، لا إلى وجود المانع ولا إلى عدم إرادة من رأس، بل هنا إرادة متعلّقة بوجود الضّدّ الآخر لكنّها مغلوبة. إلّا أنّ هذا منفيّ بحكمة الأئمة المعصومين عليهم السّلام فهم كالنّفس الواحدة الّتي لا ينقدح فيها إرادات متضادّة.

 

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص183:"كيف؟ ولو اقتضى التّضادّ توقّف وجود الشّيء على عدم ضدّه _توقّف الشّيء على عدم مانعه_ لاقتضى توقّف عدم الضّدّ على وجود الشّيء _توقّف عدم الشّيء على مانعه_؛ بداهة ثبوت المانعيّة في الطّرفين وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح".

[2]  المصدر نفسه:"وما قيل في التّفصّي عن هذا الّدور بأنّ التّوقّف من طرف الوجود فعليّ، بخلاف التّوقّف من طرف العدم فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي له مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضدّه، ولعلّه كان محالًا لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضّدّين _مع وجود الآخر_ إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به، وتعلّقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائمًا مستندًا إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستندًا إلى وجود المانع كي يلزم الدّور".

[3]  المصدر نفسه:"إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد. وأمّا إذا كان كلّ منهما متعلّقًا لإرادة شخص، فأراد _مثلًا_ أحد الشّخصين حركة شيء وأراد الآخر سكونه، فيكون المقتضي لكلّ منهما حينئذٍ موجودًا، فالعدم _لا محالة_ يكون فعلًا مستندًا إلى وجود المانع".

[4]  المصدر نفسه:"قلت: ها هنا أيضًا مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته _وهي ممّا لا بدّ منه في وجود المراد، ولا يكاد يكون بمجرّد الإرادة بدونها_ لا إلى وجود الضّدّ؛ لكونه مسبوقًا بعدم قدرته، كما لا يخفى".

برچسب ها: الضد الخاص

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است