اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۲)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كلامنا في الوجه الثّالث من الوجوه الّتي بيّنها الشّيخ الآخوند لإنكار مقدّميّة عدم الضّدّ لوجود ضدّه، كما بين الإزالة والصّلاة بحيث يكون وجود الإزالة مترتّبًا على عدم الصّلاة ترتّب الشّيء على عدم مانعه، ليُحكم بعدها بمبغوضيّة وجود الضّدّ الثّاني عند طلب الضّدّ الأوّل، من باب مبغوضيّة المانع عن المطلوب، وتصل النّوبة عندها إلى القول بكون الحرمة مقتضيةً لبطلان العبادة، الّتي لو نُهي عنها لم يجز تصحيحها حتّى على التّرتّب وإلّا فجاز.

ومفاد هذا الوجه الثّالث[1] على ما بيّنّا هو أنّ الإزالة تتوقّف على ترك الصّلاة ويتوقّف ترك الصّلاة على فعل الإزالة، فتوقّف فعل الإزالة على نفسه وهو دور محال. وقد ردّ ذلك المحقّق الخوانساريّ[2] بأنّ التّوقّف حاصل من طرف واحد وهو طرف الوجود دون حصوله من طرف العدم، وذلك بمعنى أنّ التّوقّف فعليّ من جهة الضّدّ الموجود لكنّه شأنيّ فرضيّ من جهة الضّدّ المعدوم. وسبب هذه الشّأنيّة هو توقّف الضّدّ المعدوم على عدم المقتضي أو على مقتضي العدم كما لو تعلّقت إرادة بعدمه فيكون مستحيلًا ممتنعًا. في حين أنّ المانعيّة فرع إمكان الممنوع أي الضّدّ المعدوم، ولكن إذا تعلّقت إرادة بعدمه كان ممتنعًا لا ممكنًا.[3] فهنا احتمال للامتناع وهو كافٍ لانتفاء المانعيّة بحيث لا يكون وجود الضّدّ مانعًا عن وجود ضدّه. وبالتّالي، لا يستند عدم الصّلاة إلى وجود المانع أي فعل الإزالة بل يستند إلى عدم المقتضي أو مقتضي العدم.

أشكل الشّيخ الآخوند[4] على هذا الدّفع للدّور بعبارة مشوّشة بعض الشّيء، فهو من جهة وصف هذا الدّفع بالتّوهّم[5] ومن جهة أخرى سلّم باندفاع الدّور به، وإن كانت الغائلة النّاتجة عن هذا الدّفع أعوص من الدّور نفسه. لكنّ معنى كلامه هو أنّه وإن اندفع عنوان الدّور إلّا أنّه لم تندفع نكتة الدّور وملاكه، فإنّ هذا الجواب نفى العلّيّة الفعليّة لكنّه أثبت العلّيّة الشّأنيّة الإمكانيّة.

وبيانه: إنّ وجود الإزالة ليس مانعًا فعليًّا عن وجود الصّلاة فلا يستند عدم الصّلاة إلى وجود المانع بل يستند إلى عدم المقتضي كما ذكرنا، إلّا أنّه لو كان المقتضي موجودًا _ولو بالفرض_ لاستند عدم الضّدّ هذا _عدم الصّلاة مثلًا_ إلى وجود المانع. فالإزالة على فرض وجود مقتضي الصّلاة تمنع عن وجود الصّلاة، وعلى التّقريب المذكور الاستناد الفعليّ لعدم الضّدّ هو دائمًا إلى عدم المقتضي لكنّ مجرّد صلوح وإمكان كون عدمه مستندًا إلى وجود المانع أي وجود ضدّه يعني إمكان تعلّله عن وجود ضدّه. وهذا وإن كان رفعًا لتوقّف الوجود الفعليّ للشّيء على نفسه، لكنّها لم تندفع غائلة توقّف وتعلّل الشّيء بالفعل على ما يصلح أن يتوقّف عليه بالقوّة، أي توقّف وجود الإزالة بالفعل على عدم الصّلاة الّذي يصلح ويمكن أن يكون متوقّفًا على وجود الإزالة. إلّا أنّ الصّالح للعلّيّة أي وجود الإزالة لا يصلح ولا هو من شأنه أن يكون معلولًا لعلّته الفعليّة أي عدم الصّلاة. فالنّار العلّة الفعليّة للحرارة لا يمكن أن تكون معلولًا للحرارة ولو شأنًا وبالقوّة، لأنّ معنى ذلك هو صلاحيّة وإمكان أن يكون الشّيء علّة لنفسه أي إمكان اجتماع النّقيضين، والنّقيضان لا يجتمعان جزمًا ولا يجتمعان احتمالًا وفرضًا، ولأجل هذه النّكتة كان الدّور محالًا. من هنا ردّ المحقّق الأصفهانيّ[6] الدّور إلى هذه الغائلة بحيث يمتنع ترتّب وجود شيء بالفعل على نفسه لأنّه لا يمكن ترتّب وجود الشّيء على نفسه، أي إنّ وجود المحال ممنوع لأنّ إمكان المحال محال وقول بالانقلاب في استحالته.

وبالمحصّلة: إنّه يلزم من صلاحيّة _أي إمكان_ كون الإزالة مانعًا عن وجود الصّلاة، أن يكون الموقوف بالفعل على عدم الصّلاة _أي وجود الإزالة_ موقوفًا عليه _أي علّة لعدم الصّلاة_، ليلزم من ذلك كون المعلول علّة والعلّة معلولًا. وهذا معنى كون المعلول لا معلول والعلّة لا علّة وهو قول بجواز وإمكان اجتماع النّقيضين، والنقيضان لا يجتمعان بالفعل ولا يمكن أن يجتمعا لامتناع ذلك ذاتًا، فالدّور لا يتحقّق بالفعل ولا يمكن أن يتحقّق لأنّه من الممتنعات الذّاتيّة.

إشكال:[7] الصّلوح للمانعيّة هو صلوح للعلّيّة وصلوح لأن يكون الشّيء علّة لنفسه، إلّا أنّ هذه الصّلاحيّة ليست فعليّة بل هي صلاحيّة مشروطة، بحيث لو كان مقتضي الصّلاة موجودًا _وهو لا يكون حال كون مقتضي الإزالة موجودًا_ لكان فعل الإزالة مانعًا. وصدق الشّرطيّة لا يلزم منه صدق طرفيها فهي صلاحيّة مشروطة لا تتحقّق بالفعل.

وجوابه:[8] إنّ نفي الصّلاحيّة هو نفي للمانعيّة، وهو قول بأنّ الضّدّ لا يصلح فعلًا لأن يكون مانعًا وهذا هو المطلوب. فانتفت المانعيّة ومعها المقدّميّة، إذ الأخيرة مترتّبة بملاك المانعيّة. وبالتّالي، انتفت حرمة الضّدّ، كحرمة الصّلاة في المثال من حيث إنّها مانعة عن وجود الإزالة.

إشكال آخر:[9] إنّ التّمانع  بين الضّدّين ممّا لا يمكن إنكاره، فهو كالنّار على المنار، ومهما تُعُمّل وتُحُكّم إلّا أنّ السّفسطة لا تبدّل هذه الحقيقة المعلومة.

جوابه:[10] التّنافر والتّضادّ هو المعلوم لا التّمانع المدّعى، وفرق بينهما. فالضّدّان لا يجتمعان فيتنافران لكن ليس بملاك المانعيّة. بل نترقّى ونقول إنّ لنا دليلًا على عدم المانعيّة وهو لزوم الدّور أو ما يرجع إليه. فليس معنى المانع هو مجرّد عدم الاجتماع بل وبمعنى التّأثير المعطّل للمقتضي، وهذا غير ثابت بين الضّدّين. بل الثّابت أنّهما لا يجتمعان من دون سبق رتبيّ لعدم أحدهما على وجود الآخر، وكمال الملاءمة يتحقّق بين العلّة والمعلول وكذا يتحقّق بين المتلازمين في الوجود غير العلّيّين، كما بين معلولي علّة واحدة كحرارة النّار وضوئها.

وإذا أبيتَ إلّا القول بالمانعيّة فهي من جهة مقتضي الضّدّ الموجود،[11] لا من جهة الضّدّ الموجود نفسه. فإرادة الصّلاة تمانع فعل الإزالة لا أنّ فعل الصّلاة يمانع فعل الإزالة. ومثاله ما أورده الشّيخ الآخوند من أنّ شدّة الشّفقة على الولد تكون مانعًا عن إنجاء الأخ الغريق مع كون إنجائه ذا مقتضٍ وهي المحبّة والشّفقة به أيضًا، لكنّ عظم المقتضي الأوّل عطّل المقتضي الثّاني ومنعه عن التّأثير، فحصل تمانع لكن بين المقتضيين لا بين الضّدّين.

 

[1]  الكفاية،ج1،ص183.

[2]  المصدر نفسه.

[3]  [لو كان المقصود تعلّق إرادة ما بعدمه لكان وجود الضّدّ ممتنعًا بالغير وهذا يجتمع مع كونه ممكنًا بالذّات. لكن لعلّ المقصود هو تعلّق إرادة أزليّة من قِبل البارئ بعدم هذا الضّدّ كما تعلّقت إرادة أزليّة بعدم اجتماع النّقيضين فيرجع هذا إلى الممتنع المحال لا الممكن الّذي لم تحضر علّته، فتنبّه.

وإلى هذا الإشكال أشار المحقّق الأصفهانيّ لكنّه لم يحلّه كما ذكرنا بقيد "الأزليّة" وبهذا البيان لمعنى الإرادة؛ قوله في نهاية الدّراية،ج1،436-438:"إلّا أنّ الاستناد في احتمال الاستحالة إلى تعلّق الإرادة الأزليّة بوجود أحدهما وعدم تعلّقها بالآخر لا يخلو عن شيء لأنّ عدم وجود شيء بعدم أسبابه وإن كان ممّا تعلّقت الإرادة الأزليّة بضدّه ولم تتعلّق به لا يوجب استحالته ما لم يكن في حدّ ذاته مستحيلًا بل لا بدّ من استحالته ذاتًا أو وقوعًا في تعلّق الإرادة الأزليّة بعدمه". (المقرّر)].

[4]  المصدر نفسه،ص184:" وما قيل [...] غير سديد، فإنّه وإن كان قد ارتفع به الدّور إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشّيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها؛ لاستحالة أن يكون الشّيء الصّالح لأن يكون موقوفًا عليه الشّيء موقوفًا عليه؛ ضرورة أنّه لو كان في مرتبة يصلح لأن يُستند إليه لما كاد يصحّ أن يستند فعلًا إليه".

[5]  [لم يذكر الشّيخ الآخوند كون جواب المحقّق الخوانساريّ توهّمًا، بل قال إنّه غير سديد.(المقرّر)].

[6]  نهاية الدّراية،ج1،ص439:"مع أنّ علّيّة الشّيء لنفسه من المحالات الذّاتيّة لا المحال بالغير حتّى يستند عدم فعليّة المقدّميّة إلى عدم المقتضي لاحتمال استحالته. فليس لازم هذا القول لزوم الدّور، إذ لا توقّف فعليّ من الطّرفين إلّا أنّ لازمه إمكان توقّف الشّيء على نفسه والحال أنّ توقّف الشّيء على نفسه محال بالذّات لا بالغير، ولا فرق في النّتيجة بين القول بوجود المحال أو بإمكان المحال بل لعلّ مرجع الأول إلى الثّاني".

[7]  الكفاية،ج1،ص184:"والمنع عن صلوحه لذلك بدعوى: أنّ قضيّة كون العدم مستندًا إلى وجود الضّدّ _لو كان مجتمعًا مع وجود المقتضي_ وإن كانت صادقة، إلّا أنّ صدقها لا يقتضي كون الضّدّ صالحًا لذلك؛ لعدم اقتضاء صدق الشّرطيّة صدق طرفيها، مساوق [...]".

[8]  المصدر نفسه:"مساوق لمنع مانعيّة الضّدّ، وهو يوجب رفع التّوقّف رأسًا من البين؛ ضرورة أنّه لا منشأ لتوهّم توقّف أحد الضّدّين على عدم الآخر إلّا توهّم مانعيّة الضّدّ _كما أشرنا إليه_ وصلوحه لها".

[9]  المصدر نفسه،185:"إن قلت: التّمانع بين الضّدّين كالنّار على المنار، بل كالشّمس في رابعة النّهار، وكذا كون عدم المانع ممّا يتوقّف عليه ممّا لا يقبل الإنكار، فليس ما ذُكر إلّا شبهة في مقابل البديهة".

[10]  المصدر نفسه:"قلت:التّمانع بمعنى التّنافي والتّعاند الموجب لاستحالة الاجتماع ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إلّا أنّه لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع وعدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الّذي هو بديل وجوده المعاند له، فيكون في مرتبته لا مقدّمًا عليه ولو طبعًا. والمانع الّذي يكون موقوفًا على عدمه الوجود هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشّيء ويزاحمه في وجوده".

[11]  المصدر نفسه:"نعم، العلّة التّامّة لأحد الضّدّين ربّما تكون مانعًا عن الآخر ومزاحمًا لمقتضيه في تأثيره، مثلًا: تكون شدّة الشّفقة على الولد الغريق وكثرة المحبّة له تمنع من أن يؤثّر ما في الأخر الغريق ن المحبّة والشّفقة لإرادة إنقاذه مع المزاحمة، فيُنقذ به الولد دونه، فتأمّل جيّدًا".

برچسب ها: نهی از ضد, ضد خاص

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است