اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۳)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ما زال الكلام في دفع مانعيّة الضّدّ عن وجود ضدّه الخاصّ. وبعد أن نفاها الشّيخ الآخوند بالدّور، وبعد اللّتيّا والّتي، ذكر اعتراضًا مفاده أنّ التّمانع بين الضّدّين كالنّار على المنار[1] فلا تضرّه السّفسطة ولا يمكن التّفصّي عن المانعيّة الواضحة بحيث يمنع وجود الضّدّ عن وجود ضدّه. وكان الجواب أنّ المعلوم المسلّم هو التّنافي والتّنافر بين الضّدّين بحيث لا يتحقّقان معًا، إلّا أنّ التّمانع ليس ثابتًا ولا مسلّمًا، بل هو محال بدليل استلزامه للدّور.

واستدرك الشّيخ الآخوند بما مفاده: أنّ العلّة التّامّة للضّدّ قد تكون مانعة عن تحقّق الضّدّ الآخر،[2] لكن على نحو أحيانيّ اتفاقيّ لا دائميّ. وبذلك لا ملازمة بل مقارنة اتّفاقيّة بين وجود الضّدّ ومانعيّة علّته عن تأثير مقتضي ضدّه. وبالتّالي، إنّ الضّدّين لا يتمانعان وإن كانا لا يجتمعان في الوجود، لأنّ التّمانع ليس مجرّد عدم الاجتماع وجودًا بل هو بمعنى أن يكون الشّيء لاغيًا لتأثير المقتضي معطّلًا له، وهو منتفٍ بين الضّدّين. لكنّ بعض العلل التّامّة للأضداد تمنع وتلغي تأثير مقتضيات الأضداد الأخرى. وذلك كالمثال الّذي ذكره الشّيخ الآخوند من أنّ شدّة الشّفقة على الولد الغريق تمنع تأثير مقتضي الشّفقة على غيره الغريق، فيُقدم المكلّف على إنقاذ ولده خاصّة، ويتخلّف عن إنقاذ الثّاني حال التّزاحم. نعم، لا بدّ من أن نفترض كون إنقاذ الولد مهمًّا وإنقاذ الآخر أهمّ حتّى يتأتّى إسناد الإنقاذ إلى شدّة الشّفقة.[3]

ولنا أن نترقّى ونقول: إنّ عدم التّمانع بين الضّدّين وجدانيّ ولا يحتاج إلى دليل وبرهان. إذ إنّ قوام المانعيّة هو بوجود مقتضي الآخر لتتحقّق مانعيّة فعليّة على المعنى المصدريّ،[4] لكنّ الفرض أنّ المقتضي مفقود دائمًا، فعن أيّ شيء يمنع المانع المفترض؟ أليس من الممكن المسلّم أن لا تتحقّق الصّلاة ولا الإزالة معًا؟ فإذا ارتفع الضّدّ المفروض كونه مانعًا بالفعل ومع ذلك لم يتحقّق ضدّه، لما كان السّبب إلّا عدم وجود المقتضي،[5] ولكان شاهدًا لنا على أنّ الضّدّ ليس بمانع بالفعل.

وهذا التّقريب يجري بعينه في الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما. فليس وجود أحدهما بمانع عن وجود الآخر، بل كلّ منهما يستند إلى علّته. وليس امتناع ارتفاعهما لتمانعهما بل لنكتة عدم وجود ثالث لهما. ويشهد لعدم التّمانع في هذا المورد عدم التّمانع في مورد الأضداد المتكثّرة، ففي موردها أمكن ارتفاع الضّدّ ومع ذلك لا يتحقّق ضدّه، مع ضمّ مقدّمة مفادها أنّ دخل أعدام الأضداد في وجودات أضدادها على نسق واحد في الكلّ سواء انحصر التّضادّ في اثنين أم لم ينحصر.

وقد رتّب شيخنا الأستاذ على ذلك بأنّه يظهر ممّا مرّ أنّ مانعيّة المانع قهريّة، وحيث كان المانع اختياريًّا لم يكن مانعًا. وذلك كما في مثال شدّة محبّة الولد، فإنّه لا يكون مقتضي الأوّل في مورد واحد مؤثّرًا المنع عن تحقّق مقتضى المقتضي الثّاني البتّة. وهنا أشار المحقّق الخوانساريّ أنّه في مثل هكذا مورد يرجع العدم فعلًا إلى ضعف المقتضي الثّاني لا إلى قوّة المقتضي الأوّل. مع أنّ المقتضي في أمثال الموارد لا يكون إلّا الإرادة، والتّعبير عن الشّفقة والحبّ والمصلحة بالمقتضي هو من باب التّسامح، بل هذه في الحقيقة دواعٍ والمقتضي هو الإرادة لا غير، بحيث يبقى الفعل والتّرك ممكنين ولو توفّرت كلّ المبادئ ما عدا الإرادة. فقد تكون الشّفقة أعظم ما يكون دون أن تؤثّر ضعفًا في المقتضي. فمتى وقع المكلّف المتشرّع بين تزاحم إنقاذ الإمام وإنقاذ الولد، قدّم إمامه على ولده ولو كانت شفقته على ولده أعظم. فلو سلّمنا كون الشّفقة الأعظم مقتضيًا  لكن لِمَ لم تعطّل إرادة إنقاذ الإمام؟[6]

بعد ذلك، قال الشّيخ الآخوند:"وممّا ذكرنا ظهر: أنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والضّدّ المعدوم في أنّ عدمه الملائم للشّيء المناقض لوجوده المعاند لذاك لا بدّ أن يجامع معه من غير مقتضٍ لسبقه بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه".[7]

وبيانه: إنّه من حيث قلنا بأن لا مانعيّة ولا مقدّميّة بين الضّدّين، يتبيّن أنّه لا فرق في عدم التّوقّف بين الضّدّ المعدوم والضّدّ الموجود. فكما أنّ عدم الصّلاة لا تتوقّف على وجود الإزالة فكذلك وجود الإزالة لا يتوقّف على عدم الصّلاة، على نحو تنتفي العلّيّة بينهما ولا يتحقّق الاختلاف الرّتبيّ بينهما. ومن هنا، تبيّن أيضًا أنّه لا صحّة لدفع الدّور بالقول بالتّوقّف من جهة الوجود دون توقّف من جهة العدم، والصّحيح عدم التّوقّف من الجهتين. والمراد من العبارة: لا فرق في أنّ عدمه أي عدم الضّدّ الموجود، هذا العدم الّذي يتّصف بكونه ملائمًا للضّدّ الآخر، وهذا العدم المتّصف بكونه مناقضًا لوجود نفسه فهو نقيض فعل الصّلاة مثلًا، وهذا الضّدّ الموجود المتّصف  بكونه ضدًّا منافرًا لضدّه؛ لا فرق في أنّ هذا العدم يلازم وجود ضدّه من دون اختلاف رتبيّ علّيّ بينهما.

وبهذا تمّ الكلام في نفي المقدّميّة.

ثمّ تعرّض الشّيخ الآخوند لسؤال: هل تكفي الملازمة بين الضّدّين لإثبات حرمة الضّدّ؟ أي إنّه بعدم أن انتفت المقدّميّة بملاك المانعيّة فهل تنفع الملازمة وحدها لإثبات حرمة الضّدّ، بحيث يكون عدم الضّدّ واجبًا ووجوده محرّمًا؟ ببيان أنّ الواقعة لا تخلو من حكم، فعدم الصّلاة لا يمكن أن يكون محكومًا بضدّ حكم الضدّ الأوّل أي لا يصحّ أن تُحكم الإزالة بالوجوب ويُحكم عدم الصّلاة بالحرمة، بل لا بدّ أن يكون محكومًا بحكم الضّدّ، ونقيضه محكومًا بالحرمة. وقد أجاب عن ذلك بأنّ هذا لا يتمّ وخلوّ الواقعة عن الحكم بهذا المعنى ممّا لا بأس فيه، ويأتي بيانه إن شاء الله.

 

[1]  الكفاية،ج1،ص185.

[2]  المصدر نفسه.

[3]  [قد يكونان متساويين في الأهمّيّة فلا تقدّم لأحدهما على الآخر إلّا من حيث الحبّ والشّفقة.(المقرّر)].

[4]  [إنّ قوام المانعيّة هو وجود المقتضي الفعليّ أو المقدّر، ولا وجه للقول بدخول المانع في أجزاء العلّة إن منع فعلًا فقط بل ويدخل إن كان له شأنيّة المنع ولذلك نرتّب أساس الدّور على إمكان توقّف شيء على شيء كما مرّ في الدّرس السّابق. نعم، لا يصحّ إسناد عدم المعلول إليه إن لم يكن في البين مقتضٍ وهذا شيء آخر. فحكم الوجدان بأنّ هذا هو قوام المانعيّة غير تامّ. إن قلت: هذا قول بالمانعيّة الشّأنيّة الّتي تقدّمت وتقدّم الجواب عليها. قلت: نعم تقدّمت وتقدّم جوابها ولم يكن جوابها الوجدان، بل كان استلزام الدّور أو ما يرجع إليه الدّور من توقّف الشّيء على نفسه إمكانًا وصلاحيّة ولم يكفنا الوجدان، فيعود الاستدلال بالوجدان على هذا بلا ثمرة لأنّه احتاج إلى متمّم هو بنفسه دليل مستقلّ.(المقرّر)].

[5]  [إذا ارتفع المانع المعيّن _وهو الضّدّ_ ومع ذلك لم يتحقّق ضدّه، لم يعنٍ ذلك أنّ عدم تحقّقه مستند بالضّرورة إلى عدم المقتضي، إذ قد يكون المقتضي موجودًا لكنّه ممنوع من مانع آخر، فلا فردانيّة للمانع. نعم، إن ثبت كون المانع المتصوّر أو المفروض واحدًا ثبت عدم المقتضي، لكن من أين لنا ذلك في المقام؟(المقرّر)].

[6]  [هذا فرض جديد بملابسات جديدة. ما يفترضه الشّيخ الآخوند رحمه الله هو أن يكون في البين مقتضيان ولنفرضهما الإرادتين، قد تعلّل كلٌّ منهما عن الشّفقة خاصّة من دون دخالة أيّ دواعٍ أخرى، فتكون الإرادتان متماثلتين من كلّ جهة، مختلفتين من جهة مبدأ الشّفقة، أفلا تكون الإرادة المترشّحة عن شفقة أعظم أقوى وأكثر استحكامًا من الإرادة المترشّحة عن شفقة أضعف؟ بلى بلا ريب. فلو فرضنا وجود هذه المبادئ في النّفس معًا، لغلب أقواها وأثّر وتعطّل أضعفها، بمعنى أنّ المبادئ الأقوى أنتجت إرادة من سنخها فيما المبادئ الأضعف لم تنتج إرادة لانغلابها، ولو أنتجت لكانت إرادة لا تصلح لمزاحمة الإرادة الأقوى.

ثمّ، إنّ لنا أن نسأل ما المناط في عدم وقوع انغلاب مقتضٍ بمقتضٍ آخر؟ هل هو استلزام وقوع ذلك للانقلاب في المانعيّة بحيث تخرج عن قهريّة ترتّب المقتضى إلى اختياريّة ذلك؟ فهنا تعليقان: أوّلًا: هذا قول بما تقدّم من كون المانع هو الفعليّ لا غير وتقدّم جوابه. ثانيًا:إنّ منع الشّفقة عن التّأثير هو منع عن الإرادة بالواسطة، فالإرادة وإن كانت مبدأ الاختيار إلّا أنّها محكومة بمبادئ بعضها قهريّ وبعضها اختياريّ. والنّقض بوجود الشّفقة بالولد ومع ذلك تتحقّق إرادة بإنقاذ الإمام يرجع في الحقيقة إلى أنّ مبادئ إرادة إنقاذ الإمام من علم وشوق أقوى من الشّفقة على الولد، فعطّلت تأثيرها في الإرادة وصدرت إرادة المبادئ الأقوى دون الأضعف.(المقرّر)].

[7]  الكفاية،ج1،ص186.

برچسب ها: نهی از ضد, ضد خاص

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است