اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۵)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كان آخر كلامنا في الأمر الثّالث من الأمور الّتي ذكرها الشّيخ الآخوند في مبحث الضّدّ والّذي يرتبط بالضّدّ العامّ، ولكنّنا سنرجع القهقرى شيئًا ما لنعود ونقف على بعض براهين نفي المقدّميّة، ومنها بعض الّتي أشار إليها بعض العلماء كالسّيّد الصّدر لنشبع المطلب من جهتها، خصوصًا لما في بعضها من إبهام قد يوجب تشوّشًا.

كنّا بيّنّا الوجوه الثّلاثة الّتي ذكرها الشّيخ الآخوند على نفي المقدّميّة وعمدتها برهان استلزام الدّور.

وادّعينا وجدانيّة عدم توقّف الشّيء على عدم ضدّه، بحيث إنّ البداهة العقليّة قاضية بأنّ وجود الضّدّ متوقّف على علّته وليس منها عدم وجود ضدّه المعاند له. ففعل الإزالة يتوقّف على الإرادة وينتفي بانتفائها. إلّا أنّه حال وجود الصّلاة لن يتحقّق وجود الإزالة، لكن لا لوجود الصّلاة بل لعدم وجود الإرادة المتعلّقة بالإزالة. إذ لا مانع يمنع المكلّف الفاعل المختار عن أن يصرف إرادته في أيّ من الضّدّين، فإن شاء فعل الإزالة وإن شاء فعل الصّلاة. نعم، متى صرف إرادته في أحدهما لم يمكن صرفها في الآخر ولذلك يرتفع الضّدّ الآخر،[1] أي يرتفع الضّدّ الآخر لعدم وجود إرادة تُصرف فيه، وليس لوجود الضّدّ وتلبّسه بالمنع فعلًا. ولو عكسنا وأراد المكلّف الضّدّ الآخر المعدوم لأوجده دون أن يحول وجود الضّدّ عن أن تؤثّر إرادته، ولذلك سيقع الضّدّ المعدوم وينعدم الضّدّ الموجود بمجرّد أن يبدّل الفاعل إرادته ويصرف قدرته في مختاره. إذا تبيّن هذا، فإنّ المانعيّة المنتظرة سالبة بانتفاء موضوعها وهو مقتضي الضّدّ الآخر. فمتى كان الضّدّ موجودًا كان مقتضي ضدّه معدومًا، ومعه لا سبيل للكلام عن مانعيّة، إذ هي تتقوّم بوجود الممنوع، أمّا إن كان الممنوع معدومًا، فالمنع معدوم بانعدام ممنوعه. وهذا الوجدان هو من أعظم البرهان، إذ به تنتفي المقدّميّة بالبداهة الّتي يُترقّب إرجاع كلّ الاستدلالات إليها. هذا وجه أوّل لشيخنا الأستاذ.

وإذا أبيت عن التّسليم للوجدان وبداهة العقل وعارضت ذلك بادّعاء وجدان آخر، فإنّ لنا في المقام برهانًا نساعد فيه على إزالة الشّبهة، يكون وجهًا ثانيًا لشيخنا الأستاذ وهو تتميم لبرهان ورد في كلام السّيّد الصّدر؛مفاده: أنّنا نسلّم بكون معنى المانعيّة أعمّ من المنع بالفعل حال وجود المقتضي والمنع شأنًا حال عدم وجود المقتضي. ثمّ، إنّه من المسلّم عند الجميع أنّه حال عدم وجود الضّدّ فلا مقتضي أي لا إرادة لإيجاده، والنّزاع يقع في أنّه هل إضافة لعدم وجود المقتضي هناك مانع هو وجود الضّدّ؟

وتوصّلًا إلى الجواب عن هذه الإشكاليّة نتمسّك بالمسّلم وهو عدم وجود المقتضي، وعليه فإنّ الضّدّ الّذي لا مقتضي له هو ضدّ ممتنع بالغير أي ممتنع لانعدام علّته، ولا مقتضى من دون مقتضي ولا معلول من دون علّة. فلو وُجدت الصّلاة لكانت الإزالة ممتنعة بالغير لانعدام علّتها، وحال انعدامها مع علّتها لم يكن من المعقول الذّهاب إلى تحقّق مانعيّة لمقتضيها من قبل الصّلاة، إذ المانعيّة فرع إمكان الشّيء الممنوع. فإذا كان الشّيء ممتنعًا فما معنى أن يضاف إليه منع من مانع ما. وهذا يرجع إلى تحصيل الحاصل، فما يُطلب هو منع الأثر وهو ممنوع ومنع المقتضي عن التأثير لكنّه معدوم فهو ممنوع أيضًا. فهل يُنتظر تعليل المعلّل؟ فإنّ الامتناع حاصل، فعلى أيّ شيء ترد علّة المنع المفترضة؟[2]

وبالجملة: فإنّ لازم القول بالمانعيّة مع فرض امتناع الأثر والمؤثّر يلزم منه تحصيل الحاصل وتعليل المعلّل وهو محال.

إلى هنا، بيّنا ثلاثة وجوه للشّيخ الآخوند واثنين لشيخنا الأستاذ فتمّت الحسبة على خمسة.

الوجه السّادس: وهو الوجه الأوّل المنقول عن السّيّد الصّدر في البحوث[3] ولم يقبله مقرّره السّيّد الهاشميّ، لكنّنا نقول بتماميّته ونردّ إشكال السّيّد الهاشميّ عليه. بيانه: نفي المقدّميّة منوط بأمرين:

الأمر الأوّل: إذا فرضنا وجود مقتضيي الضّدّين فرضًا للمحال، كما لو اجتمع مقتضي السّواد ومقتضي البياض، وفرضنا تساويهما في التّأثير بحيث لا غلبة لأحدهما، لكان لا بدّ من القول بأنّ كلّ واحد منهما يمنع الآخر عن التأثير أي إنّ مقتضي البياض يمانع مقتضي السّواد وبالعكس. إذ من المسلّم أنّهما لا يؤثّران حال تساويهما لأنّه: إن أثّرا معًا للزم اجتماع الضّدّين؛ وإن أثّر أحدها للزم خلف كونهما متساويين وترجّح أحدهما بلا مرجّح. فلا يبقى إلّا أن لا يؤثّرا معًا. والحال أنّه لا يمكن إرجاع المانعيّة إلى وجود الضّدّ أي معلول أحدهما، إذ الفرض أنّه لا سواد ولا بياض وأنّهما معدومان، فهل يُنتظر تأثير المعدوم منعًا؟ إذا تقرّر هذا ظهر أنّه لا مانعيّة إلّا من جهة كلّ منهما بحيث يمانع أحدهما الآخر.[4]

أمّا إذا كان أحدهما غالبًا وأقوى فإنّ المانعيّة تختصّ به لأقوائيّته بحيث يمنع المقتضي الآخر عن التأثير. ومن هنا نقول: إذا كانت المانعيّة للمقتضي مقبولة حال التّساوي بحيث الواحد منهما مانع بالفعل، فبأيّ وجه يسقط منعه للمقتضي الآخر عن التأثير حال الغلبة؟ وكيف يكون حال غلبته وتأثيره بحيث يوجد معلوله مغلول اليد عن منع المقتضي الآخر ويكون المنتظر هو أن يؤثّر معلوله أي الضّدّ الموجود في منع مقتضي الضّدّ المعدوم عن التأثير؟

الأمر الثّاني: إذا وجد أحد الضّدّين، فالمدّعى أنّ الضّدّ الموجود يمنع عن الضّدّ المعدوم. إلّا أنّ ذلك لا يُعقل لأنّ مقتضي الضّدّ المعدوم ممنوع في رتبة أسبق من قبل مقتضي الضّدّ الموجود ولأجل ذلك وُجد وتحقّق. فما لم يوجد ممنوع من قبل المقتضي الأقوى والمنع عن الممنوع سلفًا هو تحصيل للحاصل.

تتمة الكلام تأتي إن شاء الله تعالى.

 

[1]  [ولعلّه من هنا يمكن القول: إنّ عدم إمكان صرف الفاعل لإرادته في الضّدّ المعدوم بعد صرفها في الضّدّ الموجود بالفعل هو لعجز وقصور في قدرته. أي إنّ حقّ العبارة أن تكون متى صرف الفاعل قدرته في الضّدّ الأوّل عجز عن صرفها في الضّدّ الثّاني وما بقي له من قدرة لا يقوم بما يلزم للإيجاد. فإن تمّ هذا، كان نقلًا للكلام من المقتضي والعجز عن الإرادة إلى القدرة ووقوع العجز فيها، والقدرة شرط تأثير المقتضي لا المقتضي بعينه. وعليه، لجاز القول بوجود مقتضيين لضدّين بالفعل لكن تقصر القدرة عن جمعهما في مقام الوجود والامتثال. لكنّك كما ترى، هنا تبدّل معنى الإرادة عن معناها الّذي لا يمكن أن يجتمع على أساسه إرادتان متعلّقتان بضدّين. إذ الّتي لا تجتمع مع الأخرى هي الإرادة بمعنى الجزء الأخير للعلّة المستتبعة لتحريك العضلات والّتي لا يبقى برهة بعدها ولا تخلّل ولا تخلّف من حيث الشّروع في المعلول، ففيها لا يمكن الاجتماع لأنّه يرجع إلى اجتماع علّتي ما لا يجتمعان. أمّا هنا فقد صارت الإرادة بمعنى الحبّ والعزم الّذي إن اشتدّ صار الجزء الأخير من العلّة، وإلّا فهو من مبادئ الجزء الأخير للعلّة.(المقرّر)].

[2]  أنظر البحوث،ج2،ص301:"وهذا ما يدّعى بداهته في نفسه أو يبرهن عليه بأنّ المانع إنّما يمنع عمّا يكون ممكنًا لا ما يكون ممتنعًا ولو بالغير، وفي رتبة وجود المانع في المقام يكون الآخر ممتنعًا بالغير في رتبة سابقة لأنّ التّوقّف من الطّرفين فلا بدّ من عدم الضّدّ المعدوم ولو بعدم علّته حتّى يتحقّق الضّدّ الموجود ومعه كيف يمكن أن يكون مانعًا عنه".

[3]  المصدر نفسه،ص298-299:"البرهان الأوّل  ويتألّف من مقدّمتين:

الأولى: أنّ مقتضي الضّدّ إذا كان مساويًا أو أرجح من مقتضي الضّدّ الآخر فهو مانع عنه، وذلك ببرهان: أنّه لو اجتمع المقتضيان معًا _وهو أمر ممكن إذ لا تضادّ بينهما بحسب الوجدان كما سوف يتّضح أكثر بما يأتي في البراهين القادمة [المقتضي الّذي وقع محلًّا للكلام يختلف عن المقتضي الّذي حكم الوجدان باجتماعه مع مقتضٍ آخر، إذ ما يقبلان الاجتماع بلا حزازة هما المقتضيان بمعنى الحبّ، فقد يحبّ المرء المتضادّات كلّها ولا وجه لامتناع ذلك. لكن ما لا يقبلان الاجتماع هما المقتضيان بمعنى الإرادة الّتي تقع الجزء الأخير من العلّة المستتبعة لتحريك العضلات، وهذه الإرادة هي الّتي وقع عليها الكلام في كلّ الأبحاث الّتي تقدّمت فما عدا ممّا بدا؟!(المقرّر)] _ وكانا بدرجة واحدة من حيث الفاعليّة والتأثير فإمّا أن يفترض تأثيرهما معًا أو يفترض تأثير أحدهما دون الآخر أو يفترض عدم تأثيرهما وعدم وجود شيء من الضّدّين. لا مجال للأوّل لأنّه يستلزم اجتماع الضّدّين، ولا للثّاني لأنّه ترجيح أحد المتساويين على الآخر دون مرجّح وهو محال، فيتعيّن الثّالث وهو يعني مانعيّة المقتضي المساوي لأحد الضّدّين عن الضّدّ الآخر إذ لا يوجد غيره ما يمكن أن يكون مانعًا في هذا الفرض، _[ولماذا انحصر البحث عن مانع من أوّل الأمر حتّى أخذنا نحصي الاحتمالات ونستبعد؟ هنا احتمال آخر وهو أن يكون المقتضيان فاقدين لشرط أثّر فيهما قصورًا لا منعًا! كيف استبعد هذا الاحتمال وانحصر الخيار بمانعيّة المقتضيين لبعضهما البعض؟(المقرّر)] _ والمانع لا بدّ أن يكون موجودًا لكي يمكن أن يستند المنع إليه.

[...] الثّانية: إنّ نفس الضّدّ لا يكون مانعًا ولو في عرض مانعيّة مقتضيه وذلك باعتبار أنّ منعه عن الضّدّ الآخر إن كان قبل وجوده فهو مستحيل، إذ المانعيّة فرع وجود المانع، وإن كان بعد وجوده، فوجوده موقوف على تماميّة مقتضيه الّذي يعني وجود ذات مقتضيه وأن يكون راجحًا على مقتضى الضّدّ الآخر كي يكون مانعًا عن تأثيره بحكم المقدّمة السّابقة".

[4]  [كلّ الكلام من أوّل بحث الضّدّ إلى هنا كان مبتنيًا على تضادّ الوجودين الضّدّين وعلى تضادّ إرادة كلّ منهما مع الأخرى، ولذلك أخذنا ورددنا في كلام كثير يمكن مراجعته في التّقريرات السّابقة ومنه كلام المحقّق الخوانساري. ولو لم نقل بالتّضادّ بينهما واقتصرنا على التّمانع لم يكن لنا أن نعيّن كون عدم الضّدّ مستندًا إلى عدم مقتضيه كما تقدّم ولكان علينا أن نردّد علّة عدمه بين عدم مقتضيه ووجود مانع عطّل المقتضي الموجود، لكنّنا لم نفعل لأجل التّضادّ المفترض على المعنى الّذي قدّمنا من المقتضي، والّذي يرجع إلى معناه اللّغويّ لا الاصطلاحيّ وإلّا لتبدّلت صغراه ولما كانت الإرادة الّتي تقع جزءًا أخيرًا للعلّة التّامّة. وبناءً على التّضادّ بين المقتضيين الّذي على أساسه يفترض امتناع اجتماعهما (وليس لأجل امتناع ارتفاعهما كما في الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما، إذ ولو سلّمنا بذلك هناك إلّا أنّ الكلام ليس فيهما) فإنّ إشكال الدّور بعينه وارد هنا. فإذا فرضنا كون عدم المقتضي الأوّل علّة لتأثير المقتضي الثّاني من باب عدم المانع، وكون عدم المقتضي الثّاني علّة لتأثير المقتضي الأوّل من باب عدم المانع أيضًا، وضممنا كون عدم العلّة علّة لعدم المعلول، لنتج عندنا أنّ عدم عدم المقتضي الأوّل علّة لعدم المقتضي الثّاني أي إنّ وجود المقتضي الأوّل علّة لعدم المقتضي الثّاني، مع أنّنا فرضنا أنّ عدم المقتضي الثّاني علّة لتأثير المقتضي الأوّل، فتوقّف وجود المقتضي الأوّل على عدم المقتضي الثّاني وتوقّف عدم المقتضي الثّاني على وجود المقتضي الأوّل، وهو الدّور المحال. ولا بدّ أن نرجع عدم التأثير إلى مانع آخر أو إلى انعدام شرط وجوديّ من دونه لا يؤثّر المقتضي. فإن قلت: لا يُتصوّر فرق بين المقتضيين حال اجتماعهما وحال افتراقهما إلّا من جهة الاجتماع، قلت: كشف ذلك عن أنّ فرض المحال هذا محال لأنّه يستلزم الدّور وهو يستلزم ارتفاع الضّدّين في الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما.(المقرّر)].

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است