اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۹)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصل بنا الكلام إلى ثمرة بحث الضّدّ. وقلنا إنّهم رتّبوا على نتيجة البحث الثّمرة المعروفة؛ إمّا القول بصحّة الضّدّ العباديّ أو القول ببطلانه، بحيث إن تمّت حرمة الضّدّ الخاصّ نتج عن ذلك بطلانه إن كان عبادة وإن لم تتمّ الحرمة وبالتّالي لم يكن الضّدّ العباديّ منهيًا عنه وقع صحيحًا لو أتى به المكلّف.

والمثال المعروف والمتكرّر هو مثال الإزالة والصّلاة، على نحو تكون الإزالة هي الأهمّ ويضادّها وينافيها ويعاندها فعل الصّلاة، فلا يمكن للمباشر للصّلاة أن يزيل النّجاسة بحيث يشتغل بالعملين معًا، فتزاحما.

وهنا ادّعاءان: الأوّل أنّه بناء على النّهي عن الضّدّ الخاصّ تكون العبادة باطلة. وهذا يتوقّف على إثبات النّهي وكذا على إثبات كون النّهي مقتضيًا للفساد، فلو سلّم النّهي كما هو الفرض بقي مجال للنّقاش في اقتضاء الفساد. والثّاني أنّه بناءً على عدم النّهي عن الضّدّ الخاصّ فإنّه يقع صحيحًا لو كان عبادة.

ومتابعة للشّيخ الآخوند نسلك طريق الادّعاء الثّاني ومناقشة الثّمرة على أساسه. وإن كان هناك كلام على الادّعاء الأوّل ويُحتاج إلى مناقشة اقتضاء الفساد كما فعل المحقّق النّائينيّ.

أنكر الشّيخ البهائيّ كما تقدّم الثّمرة بناء على عدم النّهي.[1] فهو قد قبل بالادّعاء الأوّل وثبوت البطلان بناء على النّهي لكنّه لم يقبل بثبوت الصّحة بناء على عدمه والتزم بكون العبادة المأتيّ بها حال عدم النّهي فاسدة أيضًا. إذ لا نحتاج لإثبات البطلان إلى نهي بل يكفي أن لا تكون العبادة مأمورًا بها حتّى لا يكون امتثالها مشتملًا على شرط الصّحّة وهو اتيانها بقصد امتثال أمرها. وهذا معنى افتقادها لمصحّح وهو أمرها. أي سواء نُهي عن العبادة أم كانت بلا مصحّح فإنّها محكومة بالبطلان. وبهذا تنتفي الثّمرة.

وقد ردّ الشّيخ الآخوند اعتراض الشّيخ البهائيّ[2] قائلًا بكفاية وجود الملاك في العمل العباديّ ليُحكم بصحّته ولو لم يكن مأمورًا به فعلًا. أي إنّ مصحّح العبادة لا ينحصر في الأمر بل وكذا الملاك يكون مصحّحًا. لكنّه لا بدّ من إثبات وجود الملاك وله في المقام بيان ينفي ما أشكل به السّيّد الخوئيّ[3] عليه من أنّه كيف تثبت الملاك، وكأنّ الشّيخ الآخوند قد غفل رأسًا عن بيان طريق لإثبات الملاك.

وبيانه: إنّنا نلتزم بعدم وجود أمرين بالضّدّين في المقام لكون ذلك مستلزمًا للأمر بغير المقدور وهو محال. ونلتزم بانتفاء  الملاك حال النّهي عن العبادة إذ لا تكون العبادة المبغوضة محبوبة. لكنّنا بناءً على القول بعدم النّهي فلا مبغوضيّة تنفي المحبوبيّة بل ونثبت وجود الملاك. وذلك من حيث إنّ هذا العمل العباديّ لولا المزاحمة لكان مأمورًا به، فهو غير مأمور به بالفعل لوجود المانع وهو التّزاحم، ونرفع اليد عن الأمر بمقدار المانع، والمانع يرفع فعليّة الأمر دون أن يرفع الملاك إذ الضّرورات تقدّر بقدرها، والضّرورة الجائية من جهة التّزاحم لا تقتضي أكثر من رفع فعليّة الأمر بالمهمّ على حساب فعليّة الأمر بالأهمّ المضادّ. أي وإن لم يكن هناك أمر فعليّ يكون كاشفًا عن الملاك إلّا أنّه لنا أمر لولائيّ يكشف عن الملاك.

ولا بدّ هنا أن نلحظ نكتة عدم وجود الأمر لنعرف مستوى رفع اليد عنه، فهل هي البدعة مثلًا حتّى نقول لا مقتضي أصلًا في المقام وانعدام الأمر من باب انعدام مقتضيه، أم أنّ انعدامه هو من حيث وجود مانع يمنع عن تأثير المقتضي الموجود؟ لو دقّقنا النّظر لرأينا أنّ التّزاحم هو المانع عن الأمر بالصّلاة، وهو ليس إلّا مانعًا من تأثير المقتضي الموجود لا مزيلًا له ومعدمًا لأصله. وهذا ما يستدعيه عدّ المورد من التّزاحم لا من التّعارض، فعلى التّعارض نشكّ في وجود مقتضي المعارَض لكنّنا على التّزاحم نعلم بوجود مقتضيي المتزاحمين بل التّزاحم فرع وجود المقتضي، ولا يسري التّزاحم إلى إزالة الملاك وإنّما يعطّل فعليّة الأمر لا أكثر.

في مثل صلّ ولا تصلّ، نجزم بكذب أحدهما وهذا معنى التّعارض وحينها نجزم بعدم ملاك أحدهما ونشكّ في مورد كلّ منهما بوجود المقتضي، فإذا كان الحال هكذا لما أمكن التّمسّك بوجود المقتضي على نحو البتّ في أيّ من الموردين. لكنّنا في مثل وجوب الإزالة ووجوب الصّلاة وتقدّم الإزالة على الصّلاة للأهمّيّة والتّزاحم، نجزم بوجود ملاكي الإزالة والصّلاة ونجزم بعدم فعليّة الوجوب المهمّ أي وجوب الصّلاة لمانع المزاحمة لا لوجود مفسدة قلبت المقتضي مثلًا.

ومن هنا أورد الشّيخ الآخوند قيدًا في عبارته هو أنّ رفع اليد عن الأمر يكون بملاك المزاحمة الّتي تقتضي عدم الأمر فعلًا لا عدم الأمر اقتضاء وملاكًا. وبالتّالي لا فرق بين هذه الحصّة من الصّلاة وسائر الحصص من حيث الملاك وإنّما الفرق هو من حيث فعليّة أمرها، وكما أنّ الحصّة غير المزاحَمة واجدة للملاك فكذلك الحصّة المزاحَمة واجدة للملاك، إذ المانع المفروض يعطّل الفعليّة ولا يزيل المقتضي. البحث إذن بحث تزاحم ولذلك ينجرّ الكلام للقول بالتّرتّب وتصحيح الأمر بالمهمّ على فرض عدم امتثال الأهمّ. وسيأتي الكلام على تماميّة هذا البيان. ولكن كيف كان فقد تمّم به الشّيخ الآخوند ثمرة بحث الضّدّ، فبناءً على النّهي لا تصحّ الصّلاة، وبناءً على عدم النّهي تصحّ ولو لم يكن هناك أمر بل لأجل الملاك.

وقد فصّل المحقّق الكركيّ في الثّمرة على خلاف الشّيخ البهائي الّذي أنكرها رأسًا. ومفاد تفصيله: أنّ التّزاحم قد يقع بين واجبين مضيّقين وقد يقع بين واجب مضيّق وآخر موسّع. ومثال الواجبين المضيّقين وجوب إنقاذ الغريق ووجوب الصّلاة في آخر وقتها أو وجوب صلاة الآيات الموقّتة بما قبل الانجلاء مثلًا، ومن الواضح أنّ الأهمّ ملاكًا هو وجوب إنقاذ الغريق فيسقط الأمر بالصّلاة لأجله. ومثال الواجبين اللّذين أحدهما مضيّق والآخر موسّع، هو أن يكون المضيّق كوجوب أداء الدّين والموسّع هو وجوب الصّلاة بين الحدّين. يقول المحقّق الكركيّ، في حال كون التّزاحم بين مضيّقين يقدّم الأهمّ ملاكًا ويسقط الأمر بالواجب الثّاني، فلو كان واجبًا عباديًّا لما أمكن الاتيان به عن أمره، وبالتّالي وقع فاسدًا. وأمّا في حال كون التّزاحم بين مضيّق وموسّع فيكون للمضيّق الأهمّ أمر وكذا يكون للموسّع أمر بالجامع بين الحصص الواقعة بين الحدّين مثلًا، وتكون الحصّة المزاحَمة بالأهمّ مشمولة للأمر بالجامع من حيث إنّها مصداق من مصاديقه وإن لم يكن قد أُمر بها بعينها وشخصها وعنوانها من حيث هي. وهذا يعني أنّه يمكن الاتيان بها في فرض مزاحمتها للأهمّ وعصيان الأهمّ وتكون صحيحة لأجل الأمر بالجامع. وقد أحسن المحقّق النّائينيّ[4] بيان هذا التّفصيل للمحقّق الكركيّ.

فالأمر الموجود الّذي نستكشف به الملاك هو أمر بالجامع وإطلاق الأمر شامل لهذه الحصّة، إذ الإطلاق هو رفع القيود لا جمعها. نعم، لو لم يكن للجامع مصداق إلّا هذه الحصّة المزاحَمة لخرج عن فرضه واجبًا موسّعًا ولعدنا إلى الصّورة الأولى حيث الواجب مضيّق.

 

[1]  راجع الكفاية،ج1،ص188:"وعن البهائي ره أنّه أنكر الثّمرة بدعوى أنّه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النّهي عن الضّدّ بل يكفي عدم الأمر به؛ لاحتياج العبادة إلى الأمر".

[2]  المصدر نفسه:"وفيه: أنّه يكفي مجرّد الرّجحان والمحبوبيّة للمولى كي يصحّ أن يتقرّب به من ه كما لا يخفى. والضّدّ بناء على عدم حرمته يكون كذلك؛ فإنّ المزاحمة على هذا لا توجب إلّا ارتفاع الامر المتعلّق به فعلًا مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة كما هو مذهب العدليّة أو غيرها أيّ شيء كان كما هو مذهب الأشاعرة، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيّته وخروجه عن قابليّة التّقرّب به كما حدث بناءً على الاقتضاء.

[3]  المحاضرات،ج2،ص360:"وغير خفيّ أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام الواقعيّة وجهات المصالح والمفاسد في متعلّقاتها مع قطع النّظر عن ثبوت تلك الأحكام. نعم في لحظة ثبوتها نستكشف اشتمال متعلّقاتها على الملاك بناء على ما هو الصّحيح من تبعيّة الأحكام لما في متعلّقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيّتينه. وأمّا إذا سقطت تلك الأحكام فلا يمكننا إحراز أنّ متعلّقاتها باقية على ما كانت عليه من الاشتمال على الملاك، إذ كما نحتمل أن يكون سقوطها من جهة المانع منع ثبوت المقتضي لها نحتمل أن يكون من جهة انتفاء المقتضي وعدم ثبوته، فلا ترجيح لأحد الاحتمالين [...] وعلى الجملة: حكم العقل بأنّ فعلًا ما مشتمل على الملاك منوط بأحد أمرين لا ثالث لهما، الأوّل: ما إذا كان الشّيء بنفسه متعلّقًا للأمر، فإنّ تعلّق الأمر به يكشف عن وجود ملاك فيه لا محالة. الثّاني: ما إذا كان مصداقًا للمأمور به بما هو مأمور به، فإنّه يكشف عن أنّه وافٍ بغرض المأمور به وواجد لملاكه، وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا ملاك لحكمه أصلًا. والفرد المزاحم في المقام كذلك _على الفرض_ فإنّه ليس متعلّقًا للأمر ولا مصداقًا للمأمور به بما هو مأمور به. إذن فلا يحكم العقل بأنّ فيه ملاكًا وأنّه وافٍ بغرض المأمور به كبقيّة الأفراد، بل هو حاكم بضرورة التّفاوت بينهما في مقام الامتثال والإطاعة كما هو واضح".

[4]  راجع الفوائد،ج2،ص313:"وحاصل ما يمكن من توجيه ما أفاده المحقّق هو أنّه: لمّا تعلّق الأمر بالطّبيعة على نحو صرف الوجود لا على نحو السّريان كما في النّهي عن الطّبيعة كانت القدرة على إيجاد الطّبيعة ولو في ضمن فرد ما كافية في تعلّق الامر بالطّبيعة، لخروجه بذلك عن قبح التّكليف بما لا يطاق، ولا يتوقّف الأمر بالطّبيعة على القدرة على جميع أفرادها بل يكفي صحّة تعلٌّ الأمر بالطّبيعة تمكّن المكلّف من صرف الإيجاد حتّى لا يلزم التّكليف بما لا يطاق، وبعد تعلّق الأمر بالطّبيعة تكون جميع الأفراد متساوية الأقدام في الانطباق، لأنّ انطباق الكلّيّ على أفراده قهريّ، وبعد الانطباق يكون الإجزاء عقليًّا، وحينئذٍ لا مانع من الاتيان بذاك الفرد من الصّلاة المزاحم للإزالة مثلًا بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالطّبيعة، ولا يتوقّف صحّته على تعلّق الأمر بالخصوص حتّى يقال: بعد الأمر بالإزالة لا يمكن الأمر بذاك الفرد المزاحم لاستلزامه الأمر بالضّدّين بل يكفي في صحّته تعلّق الأمر بالطّبيعة وبعد ذلك يكون الانطباق قهريًّا والإجزاء عقليًّا. فلو قلنا: إنّ صحّة العبادة تتوقّف على الأمر بها كان الضّدّ الموسّع صحيحًا إذا كان عبادة، نعم لو قلنا: إنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه كان ذلك الفرد من الصّلاة المزاحم للإزالة منهيًّا عنه، وبعد تعلّق النّهي به يخرج عن قابليّة انطباق الطّبيعة المأمور بها عليه، فلا يصلح أن يؤتى به بداعي الأمر بالطّبيعة لأنّ هذا الدّاعي إنّما يصحّ في الأفراد المنطبقة لا الأفراد غير المنطبقة".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است