اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۱۰)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الكلام في ثمرة بحث الضّدّ المعروفة الرّاجعة إلى ادّعاءين كما أسلفنا، أحدهما بناءً على القول بالنّهي عن الضّدّ الخاصّ والثّاني بناءً على عدم القول بالنّهي. والكلام فعلًا في الادّعاء الثّاني متابعة للشّيخ الآخوند.

حكى صاحب الكفاية عن الشّيخ البهائيّ إنكاره للثّمرة رأسًا وحكمه بالبطلان سواء استدعى الأمر بالضّدّ النّهي عن ضدّه الخاصّ أم لا، إذ لا نحتاج للحكم بالبطلان إلى النّهي خاصّة بل يكفي في ذلك ألّا يكون الضّدّ العباديّ مأمورًا به ليكون فاقدًا لشرط صحّته وهو قصد أمره، لأنّه لا أمر له ليُقصد. وقد أجاب الشّيخ الآخوند عن ذلك بأنّ الملاك يكفي للحكم بالصّحّة ولا نحتاج إلى أمر، مستفيدًا وجود الملاك من حيث إنّ المقام مقام تزاحم يبتني على وجود ملاكي المتزاحمين وثبوتهما. وقانون التّزاحم هو تقديم الأهمّ على المهمّ على نحو تتعطّل فعليّة المهمّ ومطلوبيّته مقابل الأهمّ، وإلّا حيث لا ملاك للضّدّ المزاحَم المغلوب لا تزاحم أي خروج عن الفرض، وهو خلف. ويشهد لوجود الملاك وتعطّل الفعليّة فقط ما ذهب إليه بعض العلماء من تصحيح لامتثال المهمّ بناءً على الأمر التّرتّبيّ، إذ لا يتأتّى الكلام على التّرتّب حيث لا ملاك للمترتّب على الأهمّ.

وأمّا في ردّ كلام الشّيخ الآخوند فقد ذكرنا ردّ السّيّد الخوئيّ ومفاده تصحيح الكبرى وإنكار الصّغرى، أي إنّه يتحصّل تصحيح العمل العباديّ بالملاك حيث ثبت لكن أنّى له إثبات ذلك؟

وقلنا في الجواب عليه: إنّ هذا الكلام لم يعالج النّكتة الّتي أثبت بها صاحب الكفاية الملاك، وغضّ الطّرف عن ذلك كما لو كان لم يذكر طريقًا إلى إثباته. والصّحيح كما بيّنّا أنّ الشّيخ الآخوند نظّر للإثبات من حيث إنّ المقام مقام تزاحم يقوم على مفروغيّة وجود الملاك بالبيان الّذي تقدّم هنا وكذا في الدّرس السّابق.

لكنّه مع عدم تماميّة ردّ السّيّد الخوئيّ إلّا أنّ كلام الشّيخ الآخوند غير تامّ أيضًا بحسب شيخنا الأستاذ، ونكتة إثباته للملاك مردودة وهي مبتنية على توهّم؛ وذلك ببيان: إنّه نعم، المقام مقام تزاحم لكنّ التّزاحم في بحث الضّدّ ليس بمعنى أن نحرز ملاك المهمّ من حيث إحزازنا الأمر بالأهمّ، بل ما نحرزه من الأمر بالأهمّ هو عدم فعليّة الأمر بالمهمّ فقط لا غير، فزوال فعليّة الأمر بالمهمّ هي النّتيجة المستقاة من الأمر بالأهمّ. إذ إنّنا نسأل هل يمتنع عقلًا أن يكون عدم الأمر بالأهمّ قيدًا من قيود ملاك المهمّ بحيث إنّه متى وُجد الأمر بالأهمّ ارتفع قيد الملاك وشرطه  فلا ملاك رأسًا؟ على هذا الاحتمال  سوف لن يتّصف المهمّ بالمصلحة وبكونه ذا ملاك حال الأمر بالأهمّ بالفعل، وسيكون ممنوعًا مغلوبًا فاقد الفعليّة لا من حيث وجود مانع منع تأثير مقتضيه فحسب، بل ومن حيث انعدام مقتضيه وملاكه. فإذا سقط الأمر بالأهمّ بأيّ مسقط كان، يكون قد انعدم فيتحقّق شرط اتّصاف المهمّ بالملاكيّة ويصير فعليًّا، وحيث إنّ الفرض عدم وجود مانع من جهة أخرى يصير وجوبه فعليًّا.

من هنا نقول:

تارةً يكون مراد الشّيخ الآخوند أنّ المهمّ من حيث ذاته مقطوعًا النّظر عن وجود وعدم وجود الأهمّ وبلا قياس إليه هو واجد للملاك والمصلحة، فهذا صحيح ومسلّم، إذ الفرض من أوّل الكلام في عمل عباديّ مقرّب لولا المزاحمة. وأخرى يكون مراده اشتماله على الملاك ولو مع الالتفات إلى الأهمّ، فالأهمّ ذو ملاك ومأمور به بالفعل وفي المقابل المهمّ هو ذو ملاك لكنّه غير مأمور به بالفعل لأجل التّزاحم. وهذا إنّما يتمّ إن أحرزنا عدم كون عدم الأمر بالأهمّ قيدًا في اتّصاف المهمّ بالمصلحة، أمّا ما لم نحرز ذلك ستبقى عدم فعليّة الأمر بالمهمّ مردّدة بين كونها من حيث وجود مانع عطّل المقتضي الموجود وبين كونها من حيث عدم وجود المقتضي رأسًا.

فقد تبيّن أنّ محور ردّ تنظير الشّيخ الآخوند لإثبات الملاك يرجع إلى تفنيد المعنى المراد من التّزاحم، فهل التّزاحم قائم على مفروغيّة وجود الملاك مع الالتفات إلى فعليّة الأمر بالأهمّ كما ادّعى صاحب الكفاية، وبالتّالي يكون ملاك المهمّ مطلقًا من حيث الأمر بالأهمّ ولم يقيّد بعدمه؟ أم أنّه قائم على مفروغيّة وجود ملاك بغضّ النّظر عن فعليّة الأمر بالأهمّ، على نحو لو أُمر بالأهمّ تعطّل الأمر بالمهمّ من حيث الفعليّة وتعطّلت كاشفيّته عن وجود ملاك فلا ندري: أوجود الأمر بالأهمّ عطّل المقتضي الموجود وحسب أم أزاله وأعدمه من رأس لكون عدمه مأخوذًا في قيود الاتّصاف؟

معنى هذا الكلام هو أنّ خطاب الأهمّ الفعليّ قد رفع ملاك المهمّ لا فعليّة أمره فحسب. وهذا المنفيّ له نظير في بعض موارد الورود الّتي نظّر لها السّيّد الصّدر[1] حيث يكون خطاب ما بفعليّته رافعًا لفعليّة خطاب آخر، الرّافع هو الخطاب لا امتثاله كما في موارد التّزاحم الاصطلاحيّ حيث نقول إنّ الخطاب ينفي بامتثاله فعليّة خطاب آخر لعدم قدرة المكلّف على الجمع امتثالًا بين الضّدّين. مثلًا، خطاب وجوب الوفاء بالنّذر المتعلّق بصغرى صحيحة لا إشكال فيها، إذا استلزم مخالفة للشّرع كمخالفة وجوب الحجّ الأهمّ مثلًا، فإنّه يرتفع موضوع وجوب الوفاء بالنّذر ولو لم يذهب إلى الحجّ، أي ارتفعت فعليّة الوجوب بفعليّة الوجوب لا بالامتثال.

إذا تبيّن هذا، فنحن نتمسّك باحتمال كون المقام من قبيل تقييد المهمّ من حيث أمره ومن حيث ملاكه بالأمر بالأهمّ، وهذا الاحتمال يبطل الاستدلال ولا يثبت الملاك، نعم قد يكون في المقام ملاك لكن هذا ليس طريقًا صحيحًا لإثباته. ونفرض محالًا، مفاده: لو فرضنا عدم قدرة المكلّف على الضّدّين وفي ذلك الفرض صار للمكلّف قدرة على الجمع من حيث إنّه لا قدرة له _فهو قادر وغير قادر_ لما وجب على المكلّف الجمع بين الضّدّين لأنّه مع عدم القدرة على الضّدّين لا أمر بالمهمّ ولا خطاب وارتفعت فعليّته، ومع ذلك نقول قد تكون القدرة شرطًا للملاك فلا ملاك أيضًا وقد لا تكون فيكون في المقام ملاك لكن من دون أمر فعليّ. وعلى هذا، فالذّات المأمور بها هي ذات معلومة المصلحة أمّا الذّات غير المأمور بها نشكّ في كونها ذات مصلحة رأسًا وهذا يرجع إلى كونها مغايرة للذّات المأمور بها، فهذه ليست تلك.

في مورد التّزاحم الاصطلاحيّ نفترض أنّه حال عدم الأمر بالأهمّ يكون للمهمّ أمر، وحال عدم إطاعة الأمر بالأهمّ يكون للمهمّ أمر بناء على التّرتّب، لكن ليس ممّا يفترض ويُسلّم في مورد التّزاحم أنّه ولو لم يكن هناك أمر بالمهمّ وكان أمره معطّل الفعليّة فإنّ في مورده ملاكًا؛ هذا غير صحيح ولا مسلّم، بل قد يكون مشتملًا على ملاك وقد لا يكون، ومجرّد دخوله في باب التّزاحم لا يكون دليلًا هو بنفسه على اشتماله على الملاك حال عدم الأمر.

من هنا تعلم أنّ ما نسلّم به هو أنّ التّزاحم في باب التّرتّب يقتضي أن يكون للمهمّ أمر على تقدير عصيان الأهمّ، أي إنّ عدم امتثال الأهمّ قيد في فعليّة المهمّ. وأنّ التّزاحم في بحث الضّد هو أنّه على تقدير عدم وجوب الأهمّ يكون امتثال المهمّ واجبًا ويكون أمره فعليًّا. أمّا ما يراد الذّهاب إليه من أنّه حتّى لو لم يكن أمر يثبت الملاك فهذا ليس من مقتضيات التّزاحم في مبحث الضّدّ. إذ نحتمل أن تكون فعليّة الأمر بالأهم رافعة لملاك المهمّ كما هي رافعة لموضوع أمره، وهذا يكفي لإبطال الاستدلال.

كلام الشّيخ الآخوند كان دقيقًا إلى حدّ أنّه خفي على المحقّق النّائينيّ[2] ما فيه من مغالطة.

 

[1]  راجع المباحث،ج5 من القسم الثّاني،ص573:"إنّ الورود بالمعنى الأعمّ الشّامل للتّخصّص ينقسم إلى خمسة أقسام، فإنّ أحد الحكمين قد يكون بمجرّد جعله رافعًا لموضوع الآخر، وأخرى يكون بفعليّته رافعًا لموضوع الآخر، وثالثة يكون بوصوله رافعًا لموضوع الآخر، ورابعة يكون بتنجّزه رافعًا له، وخامسة يكون بامتثاله رافعًا له.

أمّا الخامس، فمن قبيل المتزاحمين بناءً على إمكان التّرتّب، فبامتثال الأهمّ أو المساوي يرتفع موضوع الآخر، ومن قبيل دليل وجوب صوم شهر رمضان، ودليل الكفّارة على المفطر...

وأمّا الرّابع فمن قبيل المتزاحمين بناءً على استحالة التّرتّب...

وأمّا الثّاني فكتقدّم دلالة الكتاب أو السّنّة على حرمة شيء على دليل وجوب الوفاء بالشّرط إلّا شرطًا خالف الكتاب والسّنّة، وكتقدّم دليل عدم رجحان شيء أو مرجوحيّته على دليل الوفاء بالنّذر أو اليمين المشروط بالرّجحان أو عدم المرجوحيّة على الأقلّ".

[2]  راجع الفوائد،ج2،ص316:"بل يكفي في صحّة العبادة اشتمالها على الملاك التّامّ سواء أمر بها فعلًا كما إذا لم يتزاحم ما هو أهمّ منها أو لم يؤمر بها فعلًا كما في صورة المزاحمة، فوجود الأمر وعدمه سيّان في ذلك".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است