اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۱۳)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

حكم العلّامة في القواعد ببطلان صلاة الشّخص المديون حال سعة الوقت، وعلّق على ذلك المحقّق الكركيّ في جامع المقاصد[1] ببيان عدم صحّة القول بالبطلان على نحو مطلق ولابدّيّة التّفصيل في المقام. ومفاد تفصيله: أنّه بناءً على عدم النّهي عن الضّدّ الخاصّ، فإنّ الضّدّ العباديّ يكون صحيحًا في حال السّعة، لأنّه يكون مأمورًا به. أي إذا كان التّزاحم بين واجب مضيّق وآخر موسّع، فإنّ الواجب الموسّع لو كان عبادة لصحّت لأنّها تكون عبادة مأمورًا بها. وذلك من قبيل التّزاحم بين وجوب أداء الدّين المضيّق ووجوب أداء الصّلاة الموسّع بين الحدّين، فيكون  _حال المزاحمة_ هناك أمر ثابت للواجب الموسّع أي الصّلاة. في المقابل، عندما يكون التّزاحم بين واجبين مضيّقين يكون الأهمّ مأمورًا به فقط دون المهمّ، وبالتّالي إذا كان المهمّ عبادة كانت بلا أمر، وبناءً على توقّف صحّة العبادة على وجود أمر بها تقع في المورد باطلة.

في الحقيقة، يهمّنا تصوير الصّحّة على فرض كون المهمّ عبادة موسّعة، وبيان ذلك: أنّ الوجوب في الواجبات الموسّعة يتعلّق بالطّبيعيّ الجامع بين جميع حصصه سواء المقدور عليها أو غير المقدور عليها، وبالتّالي الجامع بين المزاحَمة بأهمّ وغير المزاحَمة. والأمر بالجامع يشمل بإطلاقه جميع الحصص فتكون جميعها مصداقًا له بحيث متى أُتي بأيّ حصّة منها كان المكلّف ممتثلًا، على الرّغم من أنّ المأمور به أي الّذي تعلّق به الأمر هو الجامع وأنّ الحصّة من حيث عنوانها الخاصّ والشّخصيّ هي غير مأمور بها، وهذا شيء (أي عدم تعلّق الأمر بعنوانها) وسقوط الأمر والتّكليف بامتثالها من حيث إنّها مصداق للجامع شيء آخر. وعلى المثال، نقول لا أمر بالحصّة المزاحَمة من الصّلاة من حيث هي بل هناك أمر بالجامع المطلق الّذي يشمل بذاته جميع الحصص على نحو يكون الاتيان بأيّ منها امتثالًا، وهذا الإطلاق يشمل الحصّة المزاحَمة أيضًا، فيكون للصّلاة من حيث هي طبيعة أمر بها في الحصّة الأولى للزّمان حيث يكون أداء الدّين وجوبًا أهمّ. فالإطلاق هو رفع القيود لا جمعها ولذلك يعطي للأمر صلاحية الانطباق على مختلف الحصص بالسّويّة وبلا فرق، ومن هنا قالوا إنّ انطباق الطّبيعة على أفرادها قهريّ. والحال هذا، تقع الصّلاة الموسّعة المضادّة للأهمّ كالإزالة في زمان التّزاحم صحيحة لا باطلة لأجل شمول الأمر لها.

ولا يخفى أنّ الطّبيعة وإن كانت لا تقع في الخارج إلّا ضمن خصوصيّات معيّنة لكنّ تلك الخصوصيّات ليست جزءًا من المأمور به وليست ممّا ينطبق متعلّق الأمر عليه، فالصّلاة في الزّمان والمكان المعيّن هي مصداق لطبيعيّ الصّلاة من حيث إنّها صلاة لا من حيث إنّها صلاة في مكانها المعيّن وزمانها، وإلّا من جاء بالصّلاة مدخلًا لوازم وجودها في المأمور به أي ممتثلًا أمرًا بها بعنوانها فقد شرّع أمرًا بها ولا أمر وليست صلاته مصداقًا للواجب بل هي باطلة.

نعم لا يتمشّى هذا الكلام في الواجبين المضيّقين، إذ لا يمكن أن يكون الضّدّ المضيّق مأمورًا به لأنّه لا يكون إلّا حصّة وهذا معنى كونه مضيّقًا، والحصّة لا يمكن أن تكون معروضًا للأمر من حيث هي حصّة حال كونها مزاحَمة بالأهمّ.

أجاب المحقّق النّائينيّ[2] عن كلام المحقّق الكركيّ بأنّه صحيح في الجملة، فهو يصحّ على مبنى دون آخر. بيانه: فصّل المحقّق الكركيّ بين الواجبين المضيّقين فحكم بعدم الأمر للمهمّ وبالتّالي يقع باطلًا إن كان عبادة، أمّا في التّزاحم بين الموسّع والمضيّق فكلامه تامّ إن كانت القدرة معتبرة بحكم العقل دون حكم الشّرع.

إذا كانت القدرة معتبرة بحكم العقل أي لم يأت شرط القدرة في لسان الدّليل، بل استفيد من قبح التّكليف بغير المقدور، فالحقّ مع المحقّق الكركيّ بحيث يكون هناك أمر بالجامع ولا إشكال في شموله للحصّة المزاحَمة. وبحسب هذا الشّرط ينبغي أن يكون متعلّق الأمر مقدورًا للمكلّف أي الجامع، وهذا يكون مقدورًا بالقدرة على بعض حصصه لا كلّها بالضّرورة، إذ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور. وأمّا انطباقه على حصصه فقهريّ ونسبته إليها نسبة واحدة. فهنا أمر يصحّح العمل العباديّ المفروض كونه مزاحَمًا.

لكن إذا كانت القدرة شرطًا بحكم الشّرع واقتضاء الخطاب، بحيث إنّ الخطابات تحكي عن فرض القدرة وهي قاصرة عن شمول حالات العجز، وهذا المبنى يتمّ على كلام الأشعريّ الّذي لا يقول بإدراك العقل للحسن والقبح. هنا أمر بالصّلاة بداعي البعث والتّحريك، لكنّ الصّلاة المزاحَمة غير المقدورة لا يمكن أن تكون متعلّقًا للأمر لأنّه لا يمكن الانبعاث والتّحرّك عن ذلك الأمر، أي إنّ الخطاب قاصر عن شمولها من حيث إنّه خطاب بداعي البعث والتّحريك وهو لا يكون إلّا كذلك. على هذا، فإنّ الأمر بالصّلاة مأخوذ فيه القدرة الشّرعيّة فيحكي الخطاب بنفسه عن شرطيّة القدرة.

وعليه إذا لم يكن المكلّف قادرًا على كلّ حصّة، فإنّ الخطاب يقصر عن شمول الحصص غير المقدورة، فلا تكون الحصّة غير المقدورة مشمولة للأمر. وعلى هذا يُردّ كلام المحقّق الكركيّ ويتمّ كلام الشّيخ البهائيّ.

ولكن بحسب شيخنا الأستاذ لا يتمّ ما ذكره المحقّق النّائينيّ، فلا فرق في اشتراط القدرة بين العقليّة والشّرعيّة. وذلك أنّ القدرة شرط في متعلّق الأمر سواء كان ذلك بمناط العقل أو الشّرع، فإذا كان الجامع هوالمتعلّق، لزم أن يكون هو مقدورًا عليه لا الحصص وخصوصيّاتها فهي غير دخيلة في المأمور به وليست بمتعلّق للأمر حتّى يلزم القول بالقدرة عليها.

وبالمحصّلة، القدرة الشّرعيّة الرّاجعة إلى قصور في شمول وإطلاق الخطاب لموارد العجز تقتضي خروج الطّبائع غير المقدورة عن الأمر بحقّ العاجز، أمّا حيث قلنا بتعلّق الخطاب بالجامع المقدور على بعض حصصه لم يبق مجال للقول بعدم شمول الخطاب لحصصه، فالانطباق قهريّ بعد تعلّق الأمر بالجامع.

 

 

[1]  جامع المقاصد،ج5،ص13:" قوله: (و لا تصح صلاته في أول وقتها.)

لأنّ الأمر بالأداء على الفور يقتضي النهي عن ضده، و النهي في العبادة‌ يقتضي الفساد، و كل من المقدمتين تبين في الأصول. و في الأولى كلام، فإن الذي يقتضي الأمر بالأداء النهي عنه هو ترك الأداء، و هو الضد العام الذي يسميه أهل النظر النقيض، أما الضد الخاص كالصلاة مثلا فلا.

فان قيل: الضد العام إنما يتقوم بالأضداد الخاصة، فيكون الضد الخاص أيضا منهيا عنه.

قلنا: المطلوب في النهي هو الكف عن الشي‌ء، و الكف عن الأمر العام غير متوقف على شي‌ء من الأمور الخاصة، حتى يكون شي‌ء منها متعلق النهي، لإمكان الكف عن الأمر الكلي من حيث هو هو، و ليس ذلك كالأمر بالكلي، لأن إيجاد الكلي بدون أحد جزئياته ممتنع، على أن المحقق بين حذاق الأصوليين: أن الأمر بالكلي ليس أمرا بشي‌ء من جزئياته و إن توقف عليها من باب المقدمة، لأن وجوبه حينئذ من باب المقدمة، لا من نفس الأمر.

فإن قيل: يمكن الاحتجاج بأنّ أداء الدين مأمور به على الفور، و لا يتم إلا بترك العبادة الموسعة، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، و ما وجب تركه ففعله منهي عنه، فتثبت الصغرى.

قلنا: في قوله: و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بحث، فإنه إن أريد بذلك العموم منع، لأنّ الواجب الموسع لم يقم دليل على أن تركه يكون مقدمة لواجب آخر مضيق. و ظاهر الأوامر الواردة به: الإطلاق في جميع وقته، إلا ما أخرجه دليل.

و إن أريد به ما سوى ترك الواجب فهو حق، إلا أنّ المتنازع فيه من قبيل ما كان ترك الواجب فيه هو المقدمة.

فإن قيل: وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسع، لأنه حين وجوب الصلاة إذا تحقق وجوب القضاء على الفور يلزم تكليف ما لا يطاق، و هو باطل، و إن لم يبق خرج الواجب عما ثبت له من صفة الوجوب‌ الفوري.

قلنا: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع:

أوجبت عليك كلا من الأمرين، لكن أحدهما مضيق، و الآخر موسع، فان قدمت المضيق فقد امتثلت [و سلمت من الإثم، و إن قدمت الموسع فقد امتثلت] و أثمت بالمخالفة في التقديم.

و الحاصل: أن الأمر يرجع الى وجوب التقديم، و كونه غير شرط في الصحة، و الامتثال مع انتقاضه بتضيق الوقت، فإنه إن بقي الوجوب لزم ما سبق، و إن خرج لزم خروج الواجب عن صفة الوجوب، مع أنه لا دليل على الترجيح، إذ هما واجبان مضيقان قد تعارضا.

فلا بد من خروج أحدهما عن صفة الوجوب، لئلا يلزم المحذور، و الدلائل تدل على خلافه، و مع تسليمه فلا دليل يقتضي خروج واحد بعينه من الصلاة في آخر الوقت و قضاء الحق المضيق، فالحكم بصحة الصلاة في آخر الوقت أيضا باطل، لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح، و لانتقاضه بمناسك يوم النحر، فان الترتيب فيها واجب، و لو خالف أجزأت عن الواجب الذي في الذمة.

و إنما تجزئ ان لو كانت واجبة مع عدم الترتيب، لامتناع اجزاء غير الواجب عن الواجب، و إنما يعقل الوجوب على التقديرين، و التأثيم على تقدير واحد بخصوصه بناء على ما قدمناه.

فلو كان وجوب شي‌ء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه و إن كان مقابله واجبا، لامتنع الإجزاء هنا و في كل موضع أشبهه، و هذا من غوامض التحقيقات، و هذا أصل تبتني عليه كثير من المسائل، فيجب التنبيه له.

و لا شك أن الحكم بعدم الصحة أحوط، و أزجر للنفوس عن التهاون في أداء الحقوق الفورية، و إن كان الفقه هو القول بالصحة".

 

[2]  راجع الفوائد،ج2،ص314:"ولكن لا يخفى عليك ما فيه، فإنّه لو كان وجه اعتبار القدرة في التّكاليف هو مجرّد حكم العقل بقبح تكليف العاجز لكان الأمر كما ذكر، حيث إنّه يكفي في صحّة التّكليف بالطّبيعة القدرة على إيجادها ولو في ضمن فرد ما، ولكن هناك وجه آخر في اعتبار القدرة وهو اقتضاء الخطاب ذلك، حيث إنّ البعث والتّكليف إنّما يكون لتحريك إرادة المكلّف نحو أحد طرفي المقدور بل حقيقة التّكليف ليس إلّا ذلك، فالقدرة على المتعلّق ممّا يقتضيه نفس الخطاب بحيث إنّه لو فرض عدم حكم العقل بقبح تكليف العاجز وقلنا بمقالة الأشاعرة من نفي التّحسين والتّقبيح العقليّين لقلنا باعتبار القدرة في متعلّق التّكليف لمكان اقتضاء الخطاب والبعث ذلك، حيث إنّ حقيقة الخطاب هي البعث وتحريك الإرادة نحو أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفيه وحينئذٍ يدور سعة دائرة المتعلّق وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها ولا يمكن أن يكون دائرة المتعلّق أوسع من دائرة القدرة، فالفرد المزاحم لواجب ضيّق لا يمكن أن يعمّه سعة المتعلّق لعدم سعة قدرته ذلك حسب الفرض، حيث إنّ الممتنع الشّرعيّ كالممتنع العقليّ، ومجرّد انطباق طبيعة الصّلاة على ذلك الفرد لا ينفع بعد عدم انطباق الصّلاة المتعلّقة للطّلب عليه. فدعوى أنّه لا يحتاج الفرد إلى القدرة عليه بعد القدرة على إيجاد الطّبيعة ولو في ضمن فرد ما_لأنّ الانطباق يكون قهريًّا والإجزاء عقليًّا_ ممّا لا يستقيم، بعد ما كان الخطاب يقتضي القدرة على المتعلّق بحيث يدور سعة دائرة المتعلّق أو ضيقه مدارة سعة القدرة وضيقها، وبعد عدم القدرة على إيجاد الطّبيعة عن متعلّق الأمر، فلا يمكن إيجاد الفرد امتثالًا للأمر المتعلّق بالطّبيعة، فلو قلنا بتوقّف العبادة على الأمر يبطل ذلك الفرد المزاحم ولا يمكن تصحيحه".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است