اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۱۴)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

لم يقبل المحقّق النّائينيّ تفصيل المحقّق الكركيّ لأنّه يبتني على كون اعتبار القدرة عقليًّا في التّكاليف كما هو المعروف، أمّا إذا كان شرعيًّا فالحصّة المزاحَمة غير داخلة في الخطاب فلا يتمّ ما أراده المحقّق الكركيّ من إثبات الأمر بالموسّع واستفادة التّصحيح منه. إذ يختصّ الخطاب بأمر مقدور سواء من حيث أصل الطّبيعة أو من حيث فصلها من حصص وخصوصيّات. ونكتة ذلك أنّ الخطاب لا يكون إلّا بداعي البعث والتّحريك وهذا لا يتمّ في مورد غير المقدور بحيث لا يمكن البعث والتّحريك إليه، وهذا يعني أنّ الخطاب بحدّ نفسه يقتضي اختصاصه بالمقدور دون سواه فيكون إطلاقه قاصرًا عن شمول غير المقدور ومنها الحصّة المزاحَمة.

لكن هذا لا موجب له بل المعتبر كون متعلّق الحكم أي الطّبيعة مقدورة بحسب شيخنا الأستاذ. وقد أشكل السّيّد الخوئيّ على المحقّق النّائينيّ بإشكالات ثلاثة:

الأوّل:[1] فصّل المحقّق النّائينيّ بين كون القدرة شرطًا بمناط العقل وبين كونها باقتضاء الخطاب، فسلّم بناءً على كونها بمناط العقل وجود أمر على تفصيل المحقّق الكركيّ. وهذا لا يتمّ على مبناه نفسه؛ بيانه: ذهب الميرزا وجملة من الأعلام إلى عدم معقوليّة الواجب المعلّق بحيث لا يمكن التّكليف بشيء ما في حين أنّه لا يمكن التّحرّك للاتيان بالمتعلّق والانبعاث عن الأمر، فلا يصحّ التّكليف بصلاة الظّهر مثلًا من الصّبح في حين هي معلّقة الامتثال على الزّوال الّذي ليس تحت اختيار المكلّف.

كلامنا في المقام يرجع إلى نكتة الواجب المعلّق، نعم ليس المقام من صغريات الواجب المعلّق لكنّ النّكتة الّتي قال على أساسها بعدم المعقوليّة هناك ينبغي أن يقول بعدم المعقوليّة هنا. وذلك أنّه إذا حان الزّوال فقد تحقّق شرط فعليّة الصّلاة ولكنّه مأمور في الحصّة الأولى بعد الزّوال بإزالة النّجاسة من المسجد، وبالتّالي وإن كان شرط الفعليّة فعليًّا إلّا أنّه مأمور بضدّ الصّلاة بحيث لا يمكنه الجمع بينهما. وإذا لاحظنا سنرى أنّ الواجب المعلّق ممنوع عنده بنكتة عدم إمكان الانبعاث مع وجود الأمر بالفعل، وهي هنا متحقّقة فهو يجب عليه امتثال الأهمّ وبالاشتغال به لا يكون قادرًا على الصّلاة، وبالتّالي لا يصحّ أن يكون مأمورًا بهذه الحصّة منها لعدم إمكان الانبعاث المتّصل بالأمر والبعث، فكيف يقول المحقّق النّائينيّ إنّه على فرض اعتبار القدرة العقليّة يمكن تصحيح الأمر؟

وكما علمت، في المقام نكتتان: الأولى ضرورة أن يكون المكلّف قادرًا على المتعلّق والثّانية ضرورة اتّصال القدرة بفعليّة التّكليف بحيث متى صار التّكليف فعليًّا أمكنه التّحرّك عنه.

نعم يختلف الكلام فيما لو كان للواجب الموسّع حصص عرضيّة[2] وكان قادرًا على بعضها؛ كما لو كانت الإزالة مزاحمة  للصّلاة لكن لخصوص الحصّة التّامّة منها دون حصّة القصر، كأن يكون المكلّف في أحد الأماكن الأربعة مخيّرًا بين القصر والتّمام بحيث يمكنه أن يأتي بالقصر من دون أن يحصل مزاحمة للإزالة. إلّا أنّ هذا خارج عن فرض كلام المحقّق الكركيّ؛ ففرضه وجود مزاحمة بين الأهمّ وبين حصص المهمّ جميعًا في الزّمان الأوّل مع عدم مزاحمة له مع الحصص اللّاحقة في الزّمان الثّاني. وهذا الإشكال تامّ وصحيح بحسب شيخنا الأستاذ وإن كان قد ناقش فيه السّيّد الصّدر[3].

الإشكال الثّاني:[4] إنّه لو سلّم المحقّق النّائينيّ بجواز الواجب المعلّق فمع ذلك لا يمكن أن يصحّح ثمرة المحقّق الكركيّ في مورد الواجب الموسّع، وذلك أنّ الميرزا قائل بأنّ النّسبة بين الإطلاق والتّقييد هي نسبة الملكة والعدم. ببيان أنّ الشّارع لا يمكن أن يقيّد أمره بخصوص الحصّة الأولى المزاحَمة من الصّلاة لأنّ ذلك ينتهي إلى الأمر بالضّدّين بحيث يأمر بالصّلاة وبالإزالة من حيث هما متضادّان وهو محال. وبما أنّ التّقييد غير ممكن فإنّ الإطلاق غير ممكن أيضًا، إذ حيث لا يمكن التّقييد لا يمكن الإطلاق فلا أمر مطلق مرسل في جميع حصص الطّبيعة ليتأتّى أمر بالضّدّ المزاحَم حال كونه مزاحَم من حيث هو مصداق للطّبيعة.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ عن ذلك بما مفاده: إنّ هذا الإشكال عجيب من السّيّد الخوئيّ، فقد عكس جهة التّقييد. إذ التّقييد هو المنع عن الحصص الأخرى، فيرجع معنى "صلّ هذه الحصّة الخاصّة" إلى "لا تصلّ سائر الحصص الأخرى"، وهذا ممكن وتحت الاختيار وإن رجع إلى أن يلغي الصّلاة.

وعليه لا إشكال في أن يمنع المكلّف عن سائر الحصص، وإن لم يفعل فهذا معناه أنّ التّكليف مطلق أي لم يقيّد بأوّل الوقت ولا بآخره، وهذا يعني أنّ الأمر شامل للحصّة أوّل الوقت؛ ما يعني أنّ السّيّد الخوئيّ قد طبّق قاعدة المحقّق النّائينيّ بالعكس هنا. فلو لم يتمكّن الشّارع من تقييد الصّلاة بحصّة آخر الوقت لصحّ كلامه لكن والحال أنّه يمكنه ذلك، فعدم التّقييد موجب للإطلاق. نعم يمتنع جعل الصّلاة من أوّل الأمر مقيّدة بحصّة أوّل الوقت وهذا لا يعني أنّ جعل الصّلاة مقيّدة بقيد يمنع من وقوعها وامتثالها ممتنع. وقاعدة "إذا كان التّقييد محالًا فالإطلاق محال" موردها ما إذا كان التّقييد المانع عن سراية الحكم غير ممكن فسريان الحكم ليس بممكن، وفيما نحن فيه القيد المانع من سريان الحكم هو منع المكلّف عن الحصص في آخر الوقت لا إيجاب خصوص الحصّة الأولى.

ولعلّ هذا مراد السّيّد الصّدر[5] من إشكاله على السّيّد الخوئيّ.

 

[1]  راجع المحاضرات،ج2،ص348:"أمّا النّقطة الأولى فيرد عليها: أنّ ما أفاده قدس سرّه من التّفصيل بين القول بأنّ منشأ الاعتبار القدرة شرطًا للتّكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز، والقول بأنّ منشأ اعتباره اقتضاء نفس التّكليف ذلك الاعتبار، فيسلّم ما ذكره المحقّق الثّاني قدس سره على الأوّل دون الثّاني، لا يرجع إلى معنى محصّل، بناءً على ما اختاره قدس سره من استحالة الواجب المعلّق وتعلّق الوجوب بأمر متأخّر مقدور في ظرفه. بيان ذلك: أنّ الأمر في الواجب الموسّع وإن تعلّق بالطّبيعة وبصرف الوجود منها، إلّا أنّه أيضًا مشروط بالقدرة عليها، ومن الواضح أنّ القدرة عليها لا يمكن إلّا بأن يكون بعض وجوداتها وأفرادها _ولو كان واحدًا منها_ مقدورًا للمكلّف، وأمّا لو كان جميع أفرادها ووجوداتها غير مقدورة له، لو كان ذلك في زمان واحد دون بقيّة الأزمنة، فلا يمكن تعلّق التّكليف بنفس الطّبيعة وبصرف وجودها في ذلك الزّمان الّذي فرضنا أنّ الطّبيعة غير مقدورة فيها بجميع أفرادها، إلّا على القول بصحّة الواجب المعلّق، وحيث إنّ الواجب الموسّع في ظرف مزاحمته مع الواجب المضيّق غير مقدور بجميع أفراده، فلا يعقل تعلّق الطّلب به عندئذٍ ليكون انطباقه على الفرد المزاحم في الخارج قهريًّا وإجزاؤه عن المأمور به عقليًّا إلّا بناء على صحة تعلّق الطّلب بأمر متأخّر مقدور في ظرفه، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلّق التّكليف حكم العقل بقبح تكليف العاجز وأن يكون منشؤه اقتضاء نفس التّكليف ذلك".

[2]  المصدر نفسه،ص350:"نعم إذا كان للواجب أفراد عرضيّة وكان بعض أفراده مزاحمًا بواجب مضيّق دون جميعها، لتمّ ما أفاده قدس سره إذ حينئذٍ يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالطّبيعة المقدورة بالقدرة على بعض أفرادها بناء على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل بقبح خطاب العاجز، كما إذا وقعت المزاحمة بين بعض الأفراد العرضيّة للصّلاة مثلًا وإنقاذ الغريق كما في مواضع التّخيير بين القصر والإتمام فإنّه قد يفرض أنّ الصّلاة تمامًا مزاحمة مع الإنقاذ لعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما في مقام الامتثال دون الصّلاة قصرًا فيما إذا تمكّن المكلّف من الجمع بينها وبين الإنقاذ".

[3]  راجع المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص55:"ولكنّه لا يقول بالاستحالة من هذه النّاحية، وإنّما يقول بالاستحالة من ناحية كون الواجب المعلّق مستلزمًا للشّرط المتأخّر وما يتوهّم كونه شرطًا متأخّرًا في المقام هو القدرة على الواجب المتأخّرة عن زمان الفرد المزاحم، إلّا أنّ اشتراط القدرة قد فرض أنّه إنّما يكون على أساس حكم العقل بقبح تكليف العاجز".

[4]  المصدر نفسه،ص351:"ولو تنزّلنا عن ذلك أيضًا وسلّمنا الفرق بين القولين، فمع هذا لا يتمّ ما أفاده بناءً على ما اختاره قدس سره من أنّ التّقابل بين الإطلاق والتّقييد من تقابل العدم والملكة فكلّما لم يكن المورد قابلًا للتّقييد لم يكن قابلًا للإطلاق، فإذا كان التّقييد مستحيلًا في مورد كان الإطلاق أيضًا مستحيلًا فيه، لأنّ استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر. وفيما نحن فيه بما أنّ تقييد الطّبيعة المأمور بها بخصوص الفرد المزاحم مستحيل فإطلاقها بالإضافة إليه مستحيل حتّى على القول بأنّ منشأ القدرة هو حكم العقل، وبالنّتيجة لا يمكن الحكم بصحّة الفرد المزاحم لعدم إطلاق للمأمور به، ليكون الاتيان به بداعي أمره حتّى على القول بصحّة الواجب المعلّق".

[5]  راجع المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص95-96:"ويرد عليه: أوّلًا: النّقض بأنّه يلزم من ذلك أن نضرب بالشّريعة عرض الجدار بكلّ ما فيها من تكاليف؛ فإنّ إطلاق التّكليف لصورة العجز غير معقول، فتقييده بما يقابل هذا الإطلاق _وهو التّقييد بالقدرة_ أيضًا غير معقول، فيصبح أصل التّكليف غير معقول. وثانيًا: الحلّ بأنّ تلك القاعدة لو سلّمت فإنّما تعني أنّ استحالة التّقييد تستوجب استحالة الإطلاق، ولا تعني: أنّ استحالة الإطلاق تستوجب استحالة التّقييد؛ فإنّه في تقابل العدم والملكة أُخذت القابليّة للأمر الوجوديّ في موضوع الأمر العدميّ، فباستحالته يستحيل العدميّ، ولم تؤخذ قابليّة للأمر العدميّ في موضوع الأمر الوجوديّ حتّى يستحيل الوجوديّ باستحالة العدميّ، فاعمى مثلا  عبارة عن عدم البصر فيما يمكن أن يكون بصيرًا فالتّقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فالجدار الّذي يستحيل في حقّه البصر يستحيل في حقّه العمى، لكنّ الله تعالى الّذي يستحيل في حقّه العمى لا يستحيل في حقّه البصر، بل هو البصير بعباده. وفيما نحن فيه الإطلاق هو الأمر العدميّ والتّقييد هو الأمر الوجوديّ فاستحالة التّقييد مثلًا توجب استحالة الإطلاق لا العكس".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است