اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۱۵)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أنكر السّيّد الخوئيّ[1] كما تقدّم على المحقّق النّائينيّ قوله بترتّب الثّمرة على أساس مبناه القائل بتقابل الإطلاق والتّقييد من باب العدم والملكة. فبرأيه، لا يمكن على هذا المبنى أن تكون الحصّة غير المقدورة مشمولة بإطلاق الأمر، لأنّه لا يمكن أن يتقيّد الأمر بها ولا يمكن أن يأمر المولى بخصوص تلك الحصّة المزاحَمة بعنوانها لأنّ ذلك يفضي إلى الأمر بالضّدّين. وما لا يمكن التّقييد فيه فسوف لن يمكن الإطلاق أيضًا لتقابلهما من باب العدم والملكة، وهذا معناه عدم إمكان القول بشمول التّكليف لهذه الحصّة.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ عن إشكال السّيّد الخوئيّ بما مفاده أنّ هذا المحذور غير وارد؛ فهو خلط بين أمور لا ربط لها ببعضها. وذلك لأنّ التّقييد هنا ممكن من حيث إنّه يمكن أن يقيّد الأمر بالحصص المقدورة، ومتى لم يقيّد كذلك فقد ثبت الإطلاق الّذي ليس معناه إلّا أنّه لم يخصّص الأمر بالحصص المقدورة دون غير المقدورة. فيثبت سريانه إلى الحصّة غير المقدورة حال عدم التّقييد أي الإطلاق.

نعم، جعل الحكم على الحصّة غير المقدورة غير ممكن؛ كما لو أراد أن يجعل رأسًا أمرًا لخصوص العاجز أو الغافل، فهنا لا تقييد ولا إطلاق ليشمل العاجز، ولا يصحّ خطابه لا من حيث هو بعنوانه ولا من حيث سريان الحكم إليه. والسّرّ في ذلك أنّ أحدًا لم يقل بكون الخطاب موجّهًا إلى الجامع بين القادر وغير القادر أي أنّ الخطاب غير مشروط بالقدرة الّذي يرجع إلى الخطاب القانونيّ، هذا لا يتمّ ولا يُصحّح.

ويقع في مقابل ذلك، جعل الحكم على الجامع بين الحصص المقدورة وغير المقدورة. الكلام في الفرض السّابق عن الجامع بين المكلّفين العاجزين والقادرين، أمّا هنا فالجامع هو للمكلّف به. فيمكن أن يُخاطب المكلّف بالحصّة غير المقدورة لكن بواسطة الإطلاق. نعم لا يمكن التّقييد بها بخصوصها فيُجعل الأمر مقيّدًا بها لكن متى لم يمكن التّقييد كان الإطلاق ضروريًّا قهريًّا حتّى على تقابل العدم والملكة. وهذا ما صرّح به السّيّد الخوئيّ في باب التّعبّديّ والتّوصّليّ[2] وثمرته تظهر في ما لو أتى المكلّف بالفعل المأمور به غفلة أو بوجود اتّفاقيّ فيكون كافيًا ومجزيًا.

فالإشكال تارةً في الجعل فلا إطلاق ولا تقييد وأخرى في التّقييد على مستوى الحصص الّذي يُنتج في مورده عدمُ إمكان التّقييد ضرورةَ الإطلاق. هذا من قبيل تقييد الحكم بخصوص العالم، فإنّه لا إشكال بجعله على خصوص العالم ثبوتًا لكنّ الإشكال هو من جهة التّقييد، وما لم يمكن هذا كان الإطلاق ضروريًّا.

الإشكال الثّالث للسّيّد الخوئيّ[3] على المحقّق النّائينيّ: وهنا نسب السّيّد الصّدر إلى السّيّد الخوئيّ صراحة قوله بالخطاب القانونيّ المعهود كون الإمام الخمينيّ والمرحوم الدّاماد قد ذهبا إليه. وأمّا وجه نسبته القول بالخطابات القانونيّة إلى السّيّد الخوئيّ هو ما نسبه إليه من قوله بعدم اشتراط القدرة في التّكاليف لا عقلًا ولا شرعًا بحيث لا موجب لذلك، مقابل المحقّق النّائينيّ الّذي ذهب إلى اشتراطها شرعًا في التّكاليف وبالتّالي الخطابات عند الأخير لا تشمل العاجزين غير القادرين بل ولا تشمل الحصص غير المقدورة على مستوى خطاب القادر.

 نعم بعضهم نسب ذلك إلى الشّيخ الآخوند غلطًا وخلطًا ووهمًا؛ وذلك لأنّه مرّ في عبارة له في بحث العام والخاصّ ما يوهم ذلك، حيث قال بأنّ المدلول الاستعماليّ للعامّ لا يتغيّر، وأجاب في فائدة ذلك بأنّه ليُجعل قانونًا ومرجعًا عند الشّكّ في التّخصيص. فتُوُهّم من عبارة "قانونًا" قوله بالخطاب القانونيّ.

ومفاد إشكال السّيّد الخوئيّ هو أنّه لا موجب عقلًا ولا شرعًا لاشتراط القدرة وأنّ ما دفع المحقّق النّائينيّ للقول باشتراطها في التّكليف هي الجملة المشهورة بأنّ الأمر يكون بداعي البعث والتّحريك. والحال أنّه ليس معنى الأمر البعث والتّحريك بل معناه جعل التّكليف في عهدة المكلّف لا الطّلب. فإذا أمر المولى بالصّلاة لم يطلب الصّلاة بل جعلها على عهدة المكلّف. والأمر بالحمل الشّائع مساوق للطّلب لأنّ داعي مفهوم الأمر والجعل على العهدة هو انبعاث المكلّف، فيُطلق على الأمر مفهوم داعيه مع أنّه ليس مفهومه. ولازم هذا الكلام أنّ الأمر بطبيعيّ لا يقتضي تحديد وتقييد الطّلب بالحصص المقدورة لا من جهة الخطاب ولا بمناط حكم العقل، لأنّه إنّما يتأتّى الكلام عن القدرة على المطلوب إن كان الأمر بمعنى الطّلب وليس هو كذلك. وبالتّالي ثبوت شيء على العهدة خطابًا لا يستدعي تخصيص الامتثال بخصوص الحصص المقدورة، نعم لا بدّ من القدرة على الجامع.

وعليه كلّما كان المكلّف متمكّنًا من الاتيان بالمأمور به ولو من بعض حصصه، فلم يكن مانع من جعل المأمور به على عهدته، ولذلك يصحّ جعل الأمر مطلقًا. الاشتباه الّذي وقع فيه المحقّق النّائينيّ ناشئ عن تصوّره أنّ الأمر يعني الطّلب ولأنّ طلب الحصّة غير المقدورة ليس بممكن فلا يمكن أن يشملها الخطاب. والحال أنّ الأمر ليس بمعنى الطّلب بل هو جعل الشّيء في العهدة ويكفي أن يكون جامع المجعول في العهدة مقدورًا عليه، ومع ذلك الجامع ينطبق على حصصه المقدورة وغير المقدورة قهرًا وبلا فرق.

ثمّ يقول السّيّد الخوئيّ القدرة شرط في الامتثال أي إنّ العقل يحكم بوجوب الامتثال عند القدرة، ولا معنى لاختصاص الأمر بالحصص المقدورة تكليفًا وخطابًا نعم يختصّ وجوب الامتثال العقليّ بالحصص المقدورة.

هنا كأنّ السّيّد الصّدر قد فهم من هذه الجملة أنّ القدرة ليست شرطًا في التّكليف بحيث يمكن جعل التّكليف على غير القادر بل القدرة شرط في التّنجّز والامتثال[4] وهذا معنى الخطابات القانونيّة. في حين أنّ السّيّد الخوئيّ صرّح قبل عدّة صفحات بعدم قبوله للخطابات القانونيّة[5] وقال بأنّ التّكليف بنفسه لا يقتضي أكثر من أن يكون متعلّقه مقدورًا أي لا بدّ أن يكون متعلّق التّكليف مقدورًا، لا أن تكون جميع حصصه مقدورة بل تكفي القدرة على فرد وحصّة من الجامع، نعم إذا لم يكن شيء من الحصص مقدورًا لكان البعث إليها لغوًا وهو ممتنع في حقّ الحكيم.

 

[1]  راجع المحاضرات،ج2، ص351:"ولو تنزّلنا عن ذلك أيضًا وسلّمنا الفرق بين القولين، فمع هذا لا يتمّ ما أفاده بناءً على ما اختاره قدس سره من أنّ التّقابل بين الإطلاق والتّقييد من تقابل العدم والملكة فكلّما لم يكن المورد قابلًا للتّقييد لم يكن قابلًا للإطلاق، فإذا كان التّقييد مستحيلًا في مورد كان الإطلاق أيضًا مستحيلًا فيه، لأنّ استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر. وفيما نحن فيه بما أنّ تقييد الطّبيعة المأمور بها بخصوص الفرد المزاحم مستحيل فإطلاقها بالإضافة إليه مستحيل حتّى على القول بأنّ منشأ القدرة هو حكم العقل، وبالنّتيجة لا يمكن الحكم بصحّة الفرد المزاحم لعدم إطلاق للمأمور به، ليكون الاتيان به بداعي أمره حتّى على القول بصحّة الواجب المعلّق".

[2]  المصدر نفسه،ج1،ص535:"وعلى الجملة:فلازم ما أفاده قدّس سرّه من أنّ استحالة التّقييد في مورد تستلزم استحالة الإطلاق فيه_ إهمال الواقع وأنّه لا يكون مقيّدًا به ولا يكون مطلقًا وقد عرفت أنّ مرجع هذا إلى عدم علم الحاكم بحدود موضوع حكمه أو متعلّقه من حيث السّعة والضّيق وهو غير معقول، وعليه حيث استحال تقييد المأمور به كالصّلاة مثلًا بقصد الأمر على مختاره قدّس سرّه للوجوه المتّقدذمة من ناحية، واستحال تقييده بعدم قصده من ناحية أخرى حيث إنّه على خلاف الغرض من الأمر، فالإطلاق ضروريّ يعني أنّ المأمور به هو الطّبيعيّ الجامع بلا دخل لقصد الأمر فيه وجودًا وعدمًا".

[3]  المصدر نفسه،ج2،ص356_357:"وأمّا النّقطة الثّانية: وهي اقتضاء نفس التّكليف اعتبار القدرة في متعلّقه، فهي مبنيّة على ما هو المشهود من أنّ المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنّما هو الطّلب والبعث نحو الفعل الإراديّ، والطّلب والبعث التّشريعيّان عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بإرادته واختياره، وجعل الدّاعي له لأن يفعل في الخارج ويوجده ومن الضّروريّ أنّ جعل الدّاعي إنّما يمكن في خصوص الفعل الاختياريّ. إذن نفس التّكليف مقتضٍ لاعتبار القدرة في متعلّقه بلا حاجة إلى حكم العقل في ذلك. أقول: قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر وكذا في بحث الإنشاء والإخبار: أنّ ما هو المشهور من أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللّفظ لا أساس له أصلًا، والوجه في ذلك: ما ذكرناه هناك وملخّصه: أنّ المراد بإيجاد المعنى باللّفظ ليس الإيجاد التّكوينيّ بالضّرورة، فإنّ اللّفظ غير واقع في سلسلة علل الموجودات التّكوينيّة [...] فالتّحقيق: هو ما ذكرناه سابقًا من أنّ حقيقة التّكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمّة المكلّف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما، من صيغة الأمر أو ما شاكلها، ولا نتصوّر للتّكليف معنى غير ذلك، كما أنّا لا نتصوّر للإنشاء معنى ما عدا إبراز ذلك الأمر الاعتباريّ. وعلى الجملة: فإذا حلّلنا الأمر بالصّلاة مثلًا أو غيرها، نرى أنّه ليس في الواقع إلّا اعتبار الشّارع كون الصّلاة على ذمّة المكلّف وإبراز ذلك بمبرز في الخارج ككلمة صلّ أو نحوها، ولا نتصوّر شيئًا آخر غير هذين الأمرين: 1_ اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف 2_ إبراز ذلك بمبرز في الخارج نسمّيه الطّلب تارة وبالبعث أخرى وبالوجوب ثالثة. ومن هنا قلنا إنّ الصّيغة لا تدلّ على الوجوب وإنّما هي تدلّ على إبراز الأمر الاعتباريّ القائم بالنّفس ولكنّ العقل ينتزع منه الوجوب ولزوم الامتثال بمقتضى قانون العبوديّة والمولويّة ما لم تنصب قرينة على التّرخيص في التّرك".

[4]  راجع البحوث،ج2،ص323:"فالقدرة بحسب الحقيقة ليست قيدًا للخطاب لا بحكم العقل ولا من باب اشتراط إمكان الانبعاث نحو المتعلّق وإنّما هي شرط عقليّ في مقام الامتثال ولزوم الطّاعة أي قيد في مرحلة التّنجيز واستحقاق العقاب".

[5]  راجع المحاضرات،ج2،ص353:"ومن الواضح أنّ ذلك لا يقتضي أزيد من إمكان حصول الدّاعي للمكلّف، وهو يحصل من التّكليف المتعلّق بالطّبيعة المقدورة بالقدرة على فرد منها، لتمكّنه من إيجادها في الخارج ولا يكون التّكليف لغوًا وممتنعًا عندئذٍ، فإذا فرض أنّ الصّلاة مثلًا مقدورة في مجموع وقتها وإن لم تكن مقدورة في جميعها فلا يكون البعث نحوها وطلب صرف وجودها في مجموع هذا الوقت لغوًا".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است