الترتب (۴ ربیع الاول ۱۴۴۴)

مازال الكلام في إمكان التّرتّب و وقوعه بحسب كلام الشّيخ الآخوند، وقد مرّ تقرير ما جاء في كلام المحقّق النّائينيّ وبقي شيء من متمّمات البحث.

ومجمل ما مرّ هو: إنّه لا مانع عن التّرتّب وعمدة ما ادّعي من في المنع يرجع إلى ما أشار إليه الشّيخ الآخوند من أنّ القول بالتّرتّب مستلزم للجمع بين الضّدّين[1] ومن أنّه مستلزم لتعدّد العقاب[2]. أمّا الأوّل فقد أُبطل بما ذكرناه من الرّدّ على ذلك من كلام المحقّق النّائينيّ وكذا الأصفهانيّ، وخلصنا إلى أنّ التّرتّب لا يستلزم الجمع بين الضّدّين بوجه. وأمّا الثّاني الّذي يفيد باستلزم التّرتّب لما هو غير معقول وملازم غير المعقول غير معقول، فتعدّد العقاب غير معقول عند الشّيخ الآخوند في موارد عدم القدرة على الجمع وهو ملازم للتّرتّب فالتّرتّب غير معقول؛ فقد وقع محلًّا للرّدّ والإبطال أيضًا. فقد ذهب المحقّق النّائينيّ إلى عدم وجود إشكال رأسًا في تعدّد العقاب بل هو واقع في موارد منها الواجبات الكفائيّة، وهو في رأينا من لوازم التّرتّب غير الفاسدة ولا مناص منه. هذا وقد نقض عليه السّيّد الصّدر بموارد التّكاليف التدريجيّة حيث لا قدرة على الجمع مع التّسالم على تعدّد العقاب.

ونقض عليه شيخنا الأستاذ بما جاء من توجيه للتّرتّب العرفيّ في كلام المحقّق الخراسانيّ؛[3] فقد وجّه بأمرين: أحدهما: تعدّد الملاك وثانيهما: التّكليف التّجاوزيّ بحيث يتجاوز المولى التّكليف بالأهمّ وينصبّ تكليفه على المهمّ. ويتأتّى هنا السّؤال ألا يستحقّ العبد العقاب على عصيان الأهمّ؟ بحسب الفرض التّكليف بالمهمّ فعليّ أفلا يكون مستحقًّا للعقاب حال تركه؟ الجواب واضح وهو استحقاق العقاب حال عصيان الأهمّ وكذا استحقاقه حال عصيان المهمّ، فلزم مجدّدًا حال التّكليف التّجاوزيّ تعدّد العقاب وإن كان التّعدّد هنا من دون اجتماع فعليّة التّكليف بالأهمّ والمهمّ، وقد يوجّه بالقول بأنّ إحدى العقوبتين على مخالفة الأمر الفعليّ والأخرى على تسبيب تجاوز المولى عن تكليفه. وكيف كان، أيّما وجه بُيّن هنا لتصحيح تعدّد العقاب يجري بعينه في التّرتّب فانتفى المحذور عنده وعلى مبناه أيضًا.

بقيت نكات في البحث نذكرها:

النّكتة الأولى:

هناك استدراك _زائد على ما جاء في الكفاية_  ذُكر فيما طُبع حديثًا من تقريرات المحقّق الآخوند؛ مفاده أنّه يمكن أن يكون التّكليف بالمهمّ مشروطًا بترك الأهمّ على نحو الشّرط المقارن كقول المولى "إن لم تصم اليوم فصم غدًا"؛ والحال هذه فلا بدّ أن يكون شرط التّكليف المهمّ بشرط متأخّر ممكنًا أيضًا.

بتعبير آخر: إن قلت كما أنّ التّكليف بشيء قد يكون مشروطًا بشرط مقارن فليكن مشروطًا بشرط متأخّر فلا فرق بينهما. وهذا مضمون ما نقض به عليه السّيّد الصّدر.

وقد أجاب عن هذا الإشكال بما مفاده: قلت: فرق بين القول بالتّكليف التّرتّبيّ بحون الشّرط المقارن وهو ممكن وبينه بنحو الشّرط المتأخّر وهو غير ممكن. فالأوّل هو تكليف بعد التّكليف وعصيان بعد العصيان، أمّا الثّاني فهو تكليف عند التّكليف وعصيان عند العصيان؛ ففي الزّمان عينه الّذي يتوجّه التّكليف بالأهمّ يتوجّه إلى المكلّف التّكليف بالمهمّ أي يكونان فعليّين وغاية الفرق بينهما هي الرّتبة بحيث تتقدّم رتبة الأهمّ على رتبة المهمّ.

وبالتّالي، لو قال المولى إن لم تنقذ النّبيّ فأنقذ المؤمن، أي شرط وجوب إنقاذ المؤمن بشرط مقارن هو عصيان الأهمّ جاز وكان معقولًا للبعديّة في التّكليف وللعصيان بتبعه؛ فكأنّه أراد حلّ الإشكال في الشّرط المقارن بالتّناوب، ولأنّه لا تناوب في الشّرط المتأخّر لم يسلّم به.

وهذا الجواب غير تامّ؛ إذ ملاك تعدّد العقاب إمّا التّمكّن من الجمع في مقام الامتثال وإمّا تناوب العصيان أي كون العصيان بعد العصيان زمانًا. وعلى الأوّل؛ فالملاك مشترك  بين حالة التّرتّب الاصطلاحيّ على نحو الشّرط المتأخّر وبين حالة التّرتّب غير الاصطلاحيّ على نحو الشّرط المقارن أو المتقدّم. وعلى الثّاني؛ فإنّ العقل لا يرى فرقًا بين العصيان بعد العصيان وبين العصيان عند العصيان كمن آذى مؤمنًا بكذبه، فقد كذب وقد أذى في عرض واحد في فعل واحد.

هذا ما استخلصه شيخنا الأستاذ من عبارة مقرّر بحث الشّيخ الآخوند المضطربة شيئًا ما، إذ في صدرها يظهر كون الملاك هو العصيان بعد العصيان والحال أنّه في التّرتّب الاصطلاحيّ يتّحد زمان العصيانين ولا تناوب، على أنّه لا دليل على هذا التّفريق في حكم العقل الحاكم في باب الإطاعة والعصيان. فيما يظهر من ذيلها كون الملاك هو القدرة على الجمع في الامتثال؛ والحال أنّه لا قدرة على الجمع في الامتثال لا في حال الشّرط المتقدّم ولا المقارن والمتأخّر.

النّكتة الثّانية:

تعرّض المحقّق النّائينيّ[4] في ذيل مقدّمات وقوع التّرتّب لأمر هو بنفسه دليل على التّرتّب وهو كون التّرتّب واقعًا في الفقه وليس بعزيز الوجود وكذا وقوعه في العرف، وأدلّ دليل على الإمكان الوقوع. وقد دمج المحقّق النّائينيّ هذا الوقوع التّرتّبيّ في الققه مع الوقوع التّرتّبيّ العرفيّ كما لو قال الأب لابنه "لا تلعب الكرة لكن إن عصيت فالعب هناك ولا تلعب هنا".

هذا، وذكر المحقّق النّائينيّ خمسة أمثلة وذكر السّيّد الخوئيّ أربعة منها، إلّا أنّ شيخنا الأستاذ يرى الوجه الّذي أهمله السّيّد الخوئيّ هو الوجه الأهمّ الّذي جاء في كلام المحقّق النّائينيّ.

وهنا نذكر بعض هذه الأمثلة الّتي لا مناص للفقيه عن القبول بها:

  1. إذا كان السّفر واجبًا[5] على المكلّف لنذر، لكنّه تقاعس عن السّفر فتسالم الفقهاء على أنّه متى وجبت صلاته في بيته صلّاها تامّة لا قصرًا. وذلك أنّ وجوب القصر يتوقّف على السّفر لا على وجوب السّفر. وفي المقام أمر ترتّبيّ مفاده: "يجب عليك السّفر لكن إذا لم تفعل فصلّ التّمام"؛ والجمع بينهما غير ممكن في مقام الامتثال فلا يمكن أن يسافر وأن يصلّي التّمام. ومثّل المحقّق النّائينيّ[6] وكذا السّيّد الخوئيّ[7] للفرض هذا بالصّوم والإفطار بدلًا من صلاة التّمام والقصر؛ "فإذا سافرت فأفطر وإلّا فصم" هو أمر ترتّبيّ وهو واقع في الفقه بالضّرورة، وهذا يعني وقوع التّرتّب في الفقه بالضّرورة لا بالإمكان فقط.

تتمّة الكلام تأتي إن شاء الله تعالى.

 

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص188:"بدعوى أنّه لا مانع عقلًا عن تعلّق الأمر بالضّدّين...".

[2]  أنظر الكفاية،ج1،ص190: "ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالتّرتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد".

[3]  أنظر الكفاية،ج1،ص190:"إن قلت...قلت: لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بغير الأهمّ بعد التّجاوز عن الأمر وطلبه حقيقة وإمّا أن يكون الأمر به إرشادًا إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة وأنّ الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقّه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهمّ لا أنّه أمر مولويّ فعليّ كالأمر به، فافهم وتأمّل جيّدًا".

[4]  أنظر الفوائد،ج1،ص357:"وينبغي أوّلًا التّنبيه على بعض الفروع الفقهيّة الّتي لا محيص للفقيه عن الالتزام بها مع أنّها تكون من الخطاب التّرتّبيّ".

[5]  أنظر الدّراسات،ج1،ص47-48:"لا إشكال في صحّة الإتمام في موضع القصر...وأجاب عنه الشّيخ الكبير كاشف الغطاء بالتّرتّب، وأنّ القصر للمسافر واجب مطلقًا والإتمام واجب على تقدير تركه القصر، فإذا أتمّ المسافر يعاقب على عصيانه الأمر الأوّل ويكون ما أتى به صحيحًا لكونه مصداقًا لما أمر به بنحو التّرتّب".

[6]  أنظر الفوائد،ج1،ص357:"ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزّوال...يعني أنّ وجوب الصّوم يكون مترتّبًا على عصيان حرمة الإقامة، ففي حال الإقامة يجب عليه الصّوم مع حرمة الإقامة أيضًا".

[7]  أنظر الدّراسات،ج1،ص43:"وأمّا المثال الشّرعيّ فيما لو فرضنا أنّ السّفر على شخص كان واجبًا والإقامة كانت محرّمة حدوثًا وبقاءً، فدائمًا يكون مأمورًا بالسّفر ويقال له لا تنو الإقامة ولكن إذا فرضنا أنّه عصى ونوى الإقامة فهل يكون مكلّفًا بالصوّم في شهر الصّيام وبإتمام الصّلاة مع ثبوت المضادّة بينهما وبينه أم لا؟ من البديهيّ كونه مكلّفًا بذلك ولا يتمّ هذا إلّا بالتّرتّب بأن يقال له لا تنو الإقامة وإن عصيت فصم وأتمّ صلاتك فالتّرتّب لا بدّ من الالتزام به في مثل المقام، فتأمّل".

برچسب ها: الترتب

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است