الخطاب القانوني (۲۵ ربیع الاول ۱۴۴۴)

قرّرنا كلام المحقّق العراقيّ في تخلّصه من التّزاحم بين التّكليفين المتضادّين ومحصّله القول بالوجوب النّاقص والتّامّ بحيث لا يكون الوجوب النّاقص مشروطًا بالتّقييد بل هو مشروط بالتّزاحم.

تعرّض الإمام الخمينيّ لكلام المحقّق العراقيّ وأشكل عليه بإشكال هو الإشكال المعروف من أنّ التّرتّب لا يحلّ المشكلة ويوصل إلى طلب الجمع ولا ينفي ذلك. وإشكاله رجع إلى التّرتّب لأنّ من لا يرضى بالتّرتّب لن يقبل بالوجوب النّاقص والتّامّ، لذلك كلّ من أشكل على بيان المحقّق أشكل بما لو ورد عليه لورد على التّرتّب.

ثمّ تعرّض لبيان خاصّ به هو في الحقيقة عين كلام المحقّق العراقيّ وإن كان لا يقبل بكلام المحقّق العراقيّ إذ لم يتلقّه كما ينبغي.

يقول الإمام الخمينيّ ما مفاده: الخطاب القانونيّ يعني أنّ الوجوب ليس بمشروط ولا الواجب بمشروط، فالخطاب فعليّ من دون أيّ تقييد لكنّ المكلّف معذور في مخالفته في مثل مواطن العجز. فهنا خطاب قانونيّ يعذّر المكلّف مع التفاته إليه لعجزه. وهذا على خلاف ما يحصل عادة حيث تثبت المعذّريّة حال الجهل أو النّسيان أو السّهو أو النّوم وأمثال ذلك ممّا لا يكون فيه المكلّف ملتفتًا. لكن مع ذلك المولى لم يقل هنا: صلّ إن عصيت الإزالة كما قال في مثل: البالغ يصلّي، بل الصّلاة مطلقة لكنّ المكلّف معذور عند عجزه مع التفاته فضلًا عن حال جهله. وهنا يُسأل: أي إنّه معذور مع التّحريك والبعث؟ أم لا تحريك ولا بعث أصلًا؟

مراده أنّه في مقام العجز يتحقّق الخطاب لكن بلا أمر. وهذا هو عين المعنى الّذي كان ذكره المحقّق العراقيّ من أنّه لا أمر ولا دعوة إلى سدّ باب عدم المهمّ من جهة الأهمّ. فالمعذوريّة الّتي ذكرها الإمام الخمينيّ هنا هي ليست إلّا بمعنى ارتفاع الدّعوة إلى سدّ باب العدم.

ومن هنا يتميّز الخطاب التّرتّبيّ عن الوجوب النّاقص والخطاب القانونيّ، أنّ الأوّل يكون الوجوب مشروطًا فيه فيما في الأخيرين لا يكون الوجوب مشروطًا لكن لا أمر ولا دعوة إلى سدّ باب عدم المهمّ من جهة وجود الأهمّ في الوجوب النّاقص وإلّا للزم التّكليف بالجمع وهو غير مقدور، وكذا لا أمر ولا تحريك في مورد العجز بحسب الخطاب القانونيّ لأجل المعذوريّة المذكورة. وبهذا ظهر تطابق بياني المحقّق العراقيّ والإمام الخمينيّ في الوجوب النّاقص والخطاب القانونيّ.

وقد رتّب الإمام الخمينيّ على بيانه للخطاب القانونيّ ثمرات لا بدّ من معالجتها لأنّ بعضها غير تامّ، لكن قبل ذلك ذكر الإمام الخمينيّ سبع مقدّمات منتجة للخطاب القانونيّ نتعرّض لها مختصرًا لنرى ما هو دخيل منها في الإنتاج وما هو تبعيد للمسافة والشّقّة ليس إلّا.

المقدّمة الأولى:[1] تتعلّق الأوامر بالطّبائع لا بالخصوصيّات وإن كانت الطّبيعة لا تتحقّق إلّا في أفرادها الملازم كلّ واحد منهم لخصوصيّاته ومشخّصاته الوجوديّة. فالأمر بالعتق أمر بإيجاد طبيعة العتق في أيّ فرد من أفراد تحقّق الطّبيعة أيّ بغضّ النّظر عن كون العبد طويلًا أو قصيرًا، صغيرًا أو كبيرًا وهكذا.

المقدّمة الثّانية:[2] عندما يتعلّق الأمر بالعموم فإنّه ينحلّ على الأفراد على خلاف الأمر بالطّبيعة حيث لا ينحلّ على الفرد كما تبيّن. فإذا أمر بالصّلاة فقد أمر بالطّبيعة بغضّ النّظر عن أحوالها وأفرادها ومن أحوالها وأفرادها حال عصيان الأهمّ كالإزالة ومنها حال إطاعة الإزالة، أي إنّ هذه التّشخّصات خارجة عن الطّلب. هذا على خلافه لو أمر بإكرام كلّ العلماء فإنّ الوجوب المنصبّ على العموم ينحلّ إلى وجوبات بعدد أفراد العلماء.

المقدّمة الثّالثة:[3] الشّارع عند جعله الأحكام يلحظ ما هو دخيل في الحكم من موضوع ومتعلّق ولا ينظر إلى ما هو خارج عن هذا الميقات من حالات المكلّف ككونه نائمًا أو ساهيًا أو جاهلًا أو غافلًا أو... ومن حالات التّكليف من كونه مضادًّا أو معاندًا لتكليف آخر أو رافعًا لموضوعه ومن حلول رفع التّزاحم والتّضادّ، أي لا يلحظ نسبة هذا التّكليف إلى تكليف آخر بل يلحظه من حيث هو بنفسه. وهذا يعني أنّ الشّارع يُطلق من جهة هذه الأمور لا أنّه يهمل كما قد يُفهم من عبارته.

وبالتّالي، إذا لم يذكر المولى القدرة في خطابه فهذا يعني أنّ القدرة خارجة عن الموضوع والمتعلّق أي ما هو دخيل في ترتّب الحكم والخطاب مطلق وشامل للقادر والعاجر؛ لكن مع ذلك تثبت معذّريّة للعاجز فهو معذور عند العصيان.

وهذا ما صرّح به الشّيخ السّبحانيّ في نصّ بخطّ يد الإمام  الخمينيّ في مقالة علميّة في مجلّة[4] جاء فيها:

"ليس معنى عدم الإهمال الثّبوتيّ أنّ الحاكم حين الحكم يلاحظ جميع الحالات الطّارئة على التّكليف والمكلّف، ويقايس التّكليف مع سائر تكاليفه جمعًا ومزاحمة، ضرورة بطلان ذلك بل المراد من عدم الإهمال هو أنّ الآمر بحسب اللّب إمّا أن تتعلّق إرادته وحكمه بنفس الطّبيعة بلا قيد فتكون الطّبيعة بنفسها تمام الموضوع، وإمّا أن تتعلّق بها مع قيد أو قيود، فيكون موضوعها هو المقيّد والإهما إنّما هو في مقام البيان لا في مقام الواقع.

وأمّا الحالات الطّارئة للمكلّف أو للتّكليف بعد جعله فهي ليست دخيلة في الموضوع حتّى يتقيّد بها أو يكون الحاكم ناظرًا إليها، فالحاكم في مقام الحكم لا ينظر إلّا إلى موضوع حكمه وكلّ ما هو دخيل فيه لا غير".

وعليه، فإرادة المولى مطلقة لا مقيّدة بقدرة المكلّف مع انحفاظ معذوريّة العاجز.

المقدّمة الرّابعة:[5] اصطلح القوم اصطلاحي الحكم الإنشائيّ وهو المشترك في حقّ الجاهل والعالم والقادر والعاجز والمؤمن والكافر؛ والحكم الفعليّ في حقّ خصوص الملتفت القادر العالم. وهذا اصطلاح غير صحيح، بل الأحكام فعليّة مطلقًا لا إنشائيّة في حقّ هؤلاء جميعًا، نعم العاجز معذور في المخالفة ومعنى معذوريّته في المخالفة هو أنّه غير مدعوّ إلى سدّ باب العدم في جميع حالاته أي حتّى لو كان عاجزًا وهذا يرجع إلى الوجوب النّاقص الّذي ذكره المحقّق العراقيّ.

المقدّمة الخامسة:[6] الخطاب إمّا قانونيّ وإمّا شخصيّ. وقد ذهب المشهور إلى الخطاب الشّخصيّ الّذي بمفاده قالوا بانحلال الخطاب على المكلّفين بعدد أفرادهم جميعًا بحيث يكون لكلّ واحد منهم خطاب بحقّه. وهذا الكلام غير صحيح؛ بل هناك حكم وقانون واحد لا أكثر، وهذا القانون منجّز بالنّسبة للبعض وليس منجّزًا على البعض الآخر. ويترتّب على كون الخطاب شخصيًّا أن يكون التّكليف غير منجّز عند خروج المكلّف به عن مورد الابتلاء، فإنّ العقلاء يستهجنون خطاب الشّخص بما هو خارج عن ابتلائه كأن يقال لا تشرب الخمر الّذي على المرّيخ والّذي لست ببالغه. لكنّه لا محلّ لهذا الاستهجان إذا كان الخطاب قانونيًّا نعم مع انحفاظ المعذوريّة. والأخطر أنّه يقتضي أن لا يكون العاجز والنّائم والسّاهي والنّاسي والكافر بل والعاصي مكلّفين، إذ الخطابات الجزئيّة الشّخصيّة منتفية في حقّهم. لكنّه بحسب الخطاب القانونيّ يشمل الكلّ في الكلّ. ومن اللّوازم الفاسدة كون خطاب العاصي لغوًا؛ إذ يعلم المولى بعدم اهتمامه بخطاباته المولويّة ومع ذلك يخاطبه. وكلّ هذا بسبب انحلال الخطاب.

 

 

 

 

 

[1]  أنظر مناهج الوصول،ج2،ص23:"أنّه سيأتي في محلّه أنّ الأوامر متعلّقة بالطّبائع وأنّ الخصوصيّات الفرديّة مطلقًا خارجة عن المتعلّق وإن كانت متّحدة معها خارجًا".

[2]  المصدر نفسه:"أنّ الإطلاق بعد تماميّة مقدّماته يباين العموم في أنّ الحكم فيه لم يتعلّق إلّا بنفس الماهيّة أو الموضوع من غير دخالة فرد أو حال أو قيد فيه وليس الحكم متعلّقًا بالأفراد والحالات والطّوارئ، ففي قوله:"اعتق الرّقبة" تكون نفس الطّبيعة لا أفرادها ولا حالاتها موضوعًا للحكم، فإنّ الطّبيعة لا يمكن أن تكون حاكية ومرآة للأفراد والخصوصيّات وإن كانت متّحدة معها خارجًا، وهذا بخلاف العموم، فإنّ أداته وُضعت لاستغراق أفراد المدخول، فيتعلّق الحكم فيه بالأفراد المحكيّة بعنوان الكلّ والجميع، وسيأتي في محلّه توضيح الحال فيه".

[3]  المصدر نفسه:"أنّ التّزاحمات الواقعة بين الأدلّة بالعرض؛ لأجل عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثالها، كالتّزاحم بين وجوب إزالة النّجاسة عن المسجد ووجوب الصّلاة، حيث تكون متأخّرة عن تعلّق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة، لم تكن ملحوظة في الأدلّة ولا تكون الأدلّة متعرّضة لها، فضلًا عن التّعرّض لعلاجها، فقوله:"أزل النّجاسة عن المسجد" مثلًا لا يكون ناظرًا إلى حالات الموضوع كما عرفت في المقدّمة المتقدّمة فضلًا عن أن يكون ناظرًا إلى علاج المزاحمة، فاشتراط المهمّ بعصيان الأهمّ الّذي هو من مقدّمات التّرتّب لا يمكن أن يكون مفاد الأدلّة إن كان المراد شرطًا شرعيًّا مأخوذًا في الأدلّة ولا يكون بنحو الكشف عن الاشتراط لما سيأتي من عدم لزومه بل من عدم صحّته وسيأتي حال حكم العقل".

[4] أنظر مجلّة: پژوهش های اصولی-فصلنامه تخصصی علم اصول،العدد17،سال پنجم_تابستان1392.

[5]  أنظرمناهج الوصول،ج2،ص24:"أنّ الأحكام الشّرعيّة القانونيّة المترتّبة على موضوعاتها على قسمين: أحدهما الأحكام الإنشائيّة وهي الّتي أنشئت على الموضوعات ولم تبق على ما هي عليه في مقام الإجراء كالأحكام الكلّيّة قبل ورود المقيّدات والمخصّصات ومع قطع النّظر عنهما أو لم يئن وقت إجرائها كالأحكام الّتي بقيت مخزونة لدى وليّ العصر عجّل الله فرجه ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره لمصالح تقتضيها العناية الإلهيّة.

ثانيهما: الأحكام الفعليّة، وهي الّتي آن وقت إجرائها وبلغت موقع عملها بعد تماميّة قيودها ومخصّصاتها، ف "أوفوا بالعقود" بهذا العموم حكم إنشائيّ والّذي بقي بعد ورود المخصّصات عليه بلسان الكتاب والسّنّة هو الحكم الفعليّ، ونجاسة بعض الطّوائف المنتحلة للإسلام وكفرهم حكمان إنشائيّان في زماننا وإذا بلغا وقت إجرائهما يصيران فعليّين.

وأمّا  الفعليّة والشّأنيّة بما هو معروف من أنّ الحكم بالنّسبة إلى الجاهل والغافل والسّاهي والعاجز يكون شأنيًّا وبالنّسبة إلى مقابليهم يصير فعليًّا فليس لهما وجه معقول لأنّ الاشتراط الشّرعيّ في بعضها غير معقول مع عدم الدّليل عليه في جميعها والتّصرّف العقليّ غير معقول كما سيتّضح لك".

[6]  المصدر نفسه:"أنّ الأحكام الكلّيّة القانونيّة تفترق عن الأحكام الجزئيّة من جهات، صار الخلط بينهما منشأ لاشتباهات:

منها: حكمهم بعدم منجّزيّة العلم الإجماليّ إذا كان بعض الأطراف خارجًا عن محلّ الابتلاء بتوهّم أنّ الخطاب بالنّسبة إليه مستهجن.[...]

ومنها:توهّم أنّ الخطاب لا يُعقل أن يتوجّه إلى العاجز والغافل والسّاهي؛ ضرورة أنّ الخطاب للانبعاث ولا يُعقل انبعاث العاجز ومثله. وهذا أيضًا من موارد الخلط بين الحكم الكلّيّ والجزئيّ فإنّ الخطاب الشّخصيّ إلى العجز ومثله لغو ممتنع صدوره من الملتفت، وهذا بخلاف الخطابات الكلّيّة المتوجّهة إلى العناوين الكلّيّة  كالنّاس والمؤمنين، فإنّ مثل تلك الخطابات تصحّ من غير استهجان إذا كان فيهم من ينبعث ولا يلزم أن تكون باعثة أو ممكنة البعث بالنّسبة إلى جميعها في رفع الاستهجان.

ألا ترى أنّ الخطاب الشّخصيّ إلى من كان عاصيًا أو الكليّ إلى عنوان العصاة مستهجن غير ممكن الصّدور من العاقل الملتفت، ولكنّ الخطاب العموميّ غير مستهجن بل واقع، لأنّ الضّرورة قائمة على أنّ الخطابات والأوامر الإلهيّة شاملة للعصاة، وأنّ بناء المحقّقين على أنّها شاملة للكفّار أيضًا. مع أنّ الخطاب الخصوصيّ إلى الكفّار المعلومي الطّغيان من أقبح المستهجنات بل غير ممكن لغرض الانبعاث، فلو كان حكم الخطاب العامّ كالجزئيّ فلا بدّ من الالتزام بتقييد الخطابات بغيرهم وهو كما ترى.

وكذا الحال في الجاهل والغافل والنّائم وغيرهم ممّا لا يعقل تخصيصهم بالحكم ولا يمكن توجّه الخطاب الخصوصيّ إليهم[...]

والسّرّ فيما ذكرنا هو أنّ الخطابات العامّة لا ينحلّ كلّ منها إلى خطابات بعدد نفوس المكلّفين، بحيث يكون لكلّ منهم خطاب متوجّه إليه بالخصوص بل يكون الخطاب العموميّ خطابًا واحدًا يخاطب به العموم وبه يفترق عن الخطاب الخصوصيّ في كثير من الموارد.

إضافة إلى أنّ الإرادة التّشريعيّة ليست إرادة اتيان المكلّف وانبعاثه نحو وإلّا يلزم في الإرادة الإلهيّة عدم انفكاكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التّقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصّحّة بملاحظة الجعل العموميّ القانونيّ ومعلوم أنّه لا تتوقّف صحّته على صحّة الانبعاث بالنّسبة إلى كلّ الأفراد كما يظهر بالتّأمّل في القوانين العرفيّة".

برچسب ها: الخطاب القانوني

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است