الخطاب القانوني (۲۷ ربیع الاول ۱۴۴۴)

كان الكلام في المقدّمة السّادسة من المقدّمات الّتي قرّر على أساسها الإمام الخميني الخطاب القانونيّ، والّتي مفادها كون الأحكام الشّرعيّة غير مقيّدة بالقدرة وما يرتبط بذلك. وآخر الكلام أشكل شيخنا الأستاذ عليها بإشكالات ثلاثة، ثالثها هو استفادة التّقييد بالقدرة بقيد منفصل من قبيل "لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها". لكن قد يشكّك البعض في كون هذه الآية بصدد نفي التّكليف عن العاجز، وبالتّالي القول بأنّها بصدد نفي المسؤوليّة فيكون معذورًا متى كان عاجزًا. وبالتّالي، تبقى الخطابات على إطلاقها ولا تقيّدها هذه الآية بالقدرة.

ولكن لنا قيد من قبيل الآية "ما جعل الله عليكم في الدّين من حرج"، والّذي ينفي الأحكام الحرجيّة وبفحواه ينفي الأحكام على غير المقدور، لا أنّ الأحكام مجعولة عليه لكن مع معذّريّة، بل لا جعل رأسًا.

ثمّ إنّ الخطاب القانونيّ يقول بأنّ الإطلاق ممكن، لا أنّه يلزم أن يكون مطلقًا، وبالتّالي لا يجوز تقييده بالقدرة. وهذا الإشكال نفسه يرد على ما ذكره المحقّق العراقيّ من أنّ غاية ما يمكن قوله هو أنّه لم يثبت التّقييد حال التّزاحم بعدم القدرة، لكن قد يقيّد المولى فليس إطلاق الوجوب ضروريًّا. نعم لا يرد عليه من جهة أنّه لم يطلق من حيث القدرة بل هو بصدد الحديث عن إطلاق يرفع التّزاحم وإشكال الأمر بالجمع بين الضّدّين.

المقدّمة السّابعة:[1] في مورد التّزاحم هناك قدرة ولا عجز. فلو سلّمنا بأنّ التّكاليف مقيّدة بالقدرة وهي منفية عن العاجز، لكن في مورد التّزاحم هناك قدرة على التّكليف ولا عجز عن كلّ متعلّق على حدة. نعم، لا قدرة على الجمع، والحال أنّ الجمع ليس مأمورًا به حتّى يجري الكلام عن القدرة عليه. وذلك لأنّ من قرّر شرطيّة القدرة اشترطها من حيث القدرة على المتعلّق لا غير، وفي المقام المتعلّق مقدور عليه، فيصحّ التّكليف بالإزالة كما يصحّ التّكليف بالصّلاة على القاعدة. نعم، لأجل التّزاحم تثبت المعذريّة من جهة ترك أحدهما.

ويرد على ذلك أنّ عنوان الجمع ليس متعلّقًا للتكليف، لكنّ واقع الجمع مأمور به. والتّضادّ لا يترتّب على الأمر بالجمع بعنوانه بل يكفي أن يكون كلّ منهما واجبًا مطلقًا؛ فإطلاق وجوب الإزالة وكذا إطلاق وجوب الصّلاة يؤدّي إلى إيجاب الجمع عليه أي التّكليف بغير المقدور، فعدنا إلى محلّ الإشكال.

ولعلّ محصّل ما أراده من هذه المقدّمة هو القول بأنّ العجز لا يوجب تقييد التّكليف بالقدرة، لكنّه يوجب تضييق الواجب على غرار ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ من أنّه سوف لن يكون حال التّزاحم مأمورًا بسدّ باب العدم من جهة الضّدّ، وإن كان الوجوب مطلقًا وفعليًّا غير مشروط. وكيف كان، لا مدخليّة لهذه المقدّمة في الإنتاج فيما نحن فيه على صعيد الخطاب القانونيّ الواقع حلّا للتّزاحم.

على أنّه مرّ في كلامه نكات لا نسلّم بها لكنّنا لسنا بصدد الرّدّ على كلّ ما يقع محلًّا للإشكال في كلامه. وذلك من قبيل تمييزه بين العامّ والمطلق وذهابه إلى الانحلال في الأوّل على الأفراد من حيث خصوصيّاتهم فيما يتعلّق على الثّاني بالطّبيعة. إذ إنّ هذا غير تامّ؛ فعلى العموم لا يُطلب الفرد من حيث خصوصيّاته. نعم، ينحلّ الوجوب على كلّ الأفراد ويكون لكلّ واحد خطابه لكن لا من حيث خصوصيّاته ومشخّصاته بل من حيث هو مصداق لذاك العامّ. فلو قال المولى "أكرم كلّ العلماء" لم يكن معنى ذلك أنّه قد لحظ كبرهم وصغرهم وطولهم وقصرهم وأمثال ذلك من الخصوصيّات، أبدًا البتّة.

وممّا مرّ ظهر مستوى التّطابق بين الخطاب القانونيّ وبين ما أفاده المحقّق العراقيّ من الوجوب النّاقص والتّامّ؛ حيث في كليهما لا الواجب ولا الوجوب مشروط، وفي كليهما هناك عدم أمر مع ثبوت الخطاب؛ ومعناه على مسلك المحقّق العراقيّ أنّه في المقام أمر لكنّه لا يدعو إلى سدّ باب العدم من جهة الأهمّ حال فعل الإزالة، وعلى الخطاب القانونيّ لا أمر لمعذوريّة المكلّف عن ترك الضّدّ حال الاتيان بضدّه الآخر. أمّا إذا قلنا إنّ مراد الإمام الخمينيّ في الخطاب القانونيّ أنّ المكلّف ملزم ومع ذلك معذور فهذا قول بالتّهافت وقول بما لا يُعقل، فليس معنى الإلزام إلّا نفي المعذوريّة.

"إذا عرفت ما ذكر فاعلم أنّ متعلّقي التّكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة وقد يكون أحدهما أهمّ. فعلى الأوّل لا إشكال في حكم العقل بالتّخيير؛ بمعنى أنّ العقل يرى أنّ المكلّف مخيّر في اتيان أيّهما شاء، فإذا اشتغل بأحدهما يكون في مخالفة الأمر الآخر معذورًا عقلًا من غير أن يكون تقييد واشتراط في التّكليف والمكلّف به، ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذورًا في ترك واحد منهما، فإنّه قادر على اتيان كلّ واحد منهما، فتركه يكون بلا عذر، فإنّ العذر عدم القدرة والفرض أنّه قادر على كلّ منهما، وإنّما يصير عاجزًا عن عذر إذا اشتغل باتيان أحدهما، ومعه معذور في ترك الآخر، وأمّا مع عدم اشتغاله به فلا يكون معذورًا في ترك شيء منهما والجمع لا يكون مكلّفًا به حتّى يقال إنّه غير قادر عليه وهذا واضح بعد التّأمّل.

وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ: فإنّ اشتغل باتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ؛ لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعليّ، لكن لا يكون معذورًا في ترك الأهمّ فيُثاب باتيان المهم ويُعاقب بترك الاهمّ.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا أمران:

أحدهما: أنّ الأهمّ والمهمّ كالمتساويين في الأهمّيّة؛ كلّ منهما مأمور به في عرض الآخر والأمران العرضيّان فعليّان متعلّقان بعنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التّزاحم وعجز المكلّف والمطاردة الّتي تخص في مقام الاتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعًا ولا عقلًا، بل تلك المطاردة لا توجب عقلًا إلّا المعذوريّة العقليّة عن ترك أحد التّكليفين حال الاشتغال بالآخر وعن ترك المهمّ حال اشتغاله بالأهمّ.[...]

وثانيهما:أنّ المكلّف مع ترك الأهمّ والمهمّ يستحقّ عقابين لما تقدّم تفصيله".[2]

ولتتميم الفائدة نذكر أنّ الشّيخ حسين الحلّي قد ذهب إلى القول بالخطاب القانونيّ وكذا المحقّق الدّاماد بحسب نقل مقرّره، فقد أورد مطلبًا في بحث النّواهي مطابقًا للمعنى الّذي مرّ وإن لم يسمّه بالخطاب القانونيّ:"إنّ ملاك استهجان الخطاب خلوّه عن الفائدة بالكلّيّة، وأمّا لو كان فيه غرض وفائدة ولو لم يكن انبعاث العبد ليس الخطاب مستهجنًا، فعلى هذا لا بأس بشمول الخطاب لمورد الابتلاء وغيره ولمن كان قادرًا على الفعل وغيره ولمن كان بمقتضى طبعه آتيًا بالفعل أو تاركًا له وغيره، فإنّ التّكليف على نحو العموم بحيث يعمّ جميع المذكورات واقع في العرفيّات أيضًا بل هو كثير وشايع ذايع خصوصًا في الموالي والسّلاطين عند جعل القوانين للرّعيّة، وسرّه أنّ التّكاليف الإنشائيّة إنّما تكون لبيان وجود الإرادات والكراهات في النّفس ومن الواضح أنّ الإرادة النّفس الأمريّة ربّما لا فرق فيها بين القادر وغيره وبين محلّ الابتلاء وخارجه فمن هذه الجهة لا إشكال نعم بيان الإرادة أو الكراهة لا بدّ أن يكون معلّلًا بعلّة ومقرونًا بفائدة من جهة أنّ نفس هذا البيان فعل من الأفعال وكلّ فعل صادر من الحكيم لا بدّ وأن يكون كذلك ولو كان فيه فائدة واحدة. فلأجل ذلك نقول: إنّ التّكليف على النحو الكلّيّ ربّما يكون بداعي انبعاث العباد وربّما يكون لجهات أخر من لزوم الاحتياط في موارد الشّكّ في القدرة والشّكّ في موارد الابتلاء أو إتمام الحجّة على العاصين والتّاركين أو من جهة عدم تميّز العنوان ونحو ذلك من الأمور".[3]

والكلام فيه ما كان مرّ في كلام الإمام الخمينيّ بلا فرق.

مطلب جديد: هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه؟

هذا مطلب كلاميّ وليس أصوليًّا مع إقرارنا بأهمّيّته. وقد ذهب الشّيخ الآخوند[4] إلى عدم إمكان ذلك قائلًا إنّ هذا خلافًا لما نسب إلى أكثر مخالفينا. وقد نسب صاحب القوانين[5] ذلك إليهم وآخرون[6].

وعلّل عدم الجواز هذا بأنّ نسبة الشّرط إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول لأنّه جزء الموضوع. وبالتّالي فينحلّ الحكم أي ينعدم بتخلّف الشّرط وانتفائه.

 

[1]  أنظر منهاج الوصول،ج2،ص28:"أنّ الأمر بكلّ من الضّدّين أمر بالمقدور الممكن والّذي يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين الاتيان بمتعلّقهما وهو غير متعلّق للتّكليف، فإذا أمر المولى بإزالة النّجاسة عن المسجد وأمر بالصّلاة لا يكون له إلّا أمر بهذه وأمر بتلك، ومجموع الأمرين ليس موجودًا على حدة، والأمر بالجمع أو المجموع غير صادر من المولى، وقد تقدّم أنّ الأمر لا يتعلّق إلّا بنفس الطّبائع من غير نظر إلى الخصوصيّات والحالات الطّارئة وجهات التّزاحم وعلاجه".

[2]  منهاج الوصول،ج2،ص29-30.

[3]  المحاضرات للمحقّق الدّاماد،ج1،ص282-283.

[4]  أنظر الكفاية،ج1،ص192:"لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، خلافًا لما نسب إلى أكثر مخالفينا؛ ضرورة أنّه لا يكاد يكون الشّيء مع عدم علّته كما هو المفروض هنا؛ فإنّ الشّرط من أجزائها وانحلال المركّب بانحلال بعض أجزائه ممّا لا يخفى".

[5]  أنظر القوانين،ج1،ص275:"وأمّا المقام الثّاني[والثّاني أنّه هل يجوز إرادة نفس المأمور به مع العلم بعدم الشّرط أم لا؟]: فذهب أصحابنا فيه إلى عدم الجواز وجمهور العامّة على الجواز، وربّما أفرط بعضهم فجوّزه مع علم المأمور بانتفاء الشّرط أيضًا".

[6]  نسبه في المعالم ص223 إلى بعض متأخّري العامّة. وعدّه إفراطًا لأجل أنّ دليل المنع فيها آكذ حيث إنّ التّكليف بما لا يطاق فيه ظاهر أول الواقع بخلاف صورة جهل المأمور به فإنّه يختصّ بالثّاني.[تعليقة رضا صبح على القوانين،ج1،ص275].

برچسب ها: الخطاب القانوني

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است