امتناع الامر مع العلم بانتفاء شرطه (۲۹ ربیع الاول ۱۴۴۴)

الكلام في بحث الشّيخ الآخوند في جواز أو امتناع أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه. وقد أشار إليه الأعلام السّابقون ضمن بحث جواز نسخ الحكم قبل العمل. وقد استشهدوا لذلك بأمر الله تعالى نبيّه إبراهيم عليه السّلام بذبح ولده، وسألوا هل يجوز للآمر الأمر بما يعلم بأنّه لن يصل إلى الفعليّة؟ البعض نفى الأمر في هذه الموارد، إذ لا حقيقة للأمرهنا لأنّه لا داعي للبعث والتّحريك.

دخل الشّيخ الآخوند البحث من زاوية مختلفة، فسأل هل يجوز إنشاء الأمر بحقيقة الأمريّة أي بداعي الانبعاث مع العلم بعدم تحقّق الانبعاث للعلم بعدم تحقّق الشّرط إلى الأبد؟ وأجاب عنه: بأنّه غير معقول لأجل اللّغويّة، بلا أيّ شكّ ولا ترديد، بل تردّد في نسبة القول بالجواز للمخالفين لوضوح الامتناع. لا بدّ من التّدقيق أنّ محلّ البحث هو عدم تحقّق الانبعاث بسبب عدم تحقّق الشّرط لا عدم تحقّق الانبعاث بسبب العصيان؛ إذ لا إشكال في جواز الأمر على الثّاني وعدم اللّغويّة.

بيّن المحقّق الأصفهانيّ كلام الشّيخ الآخوند بنحو دفع به عنه إشكال المحقّق النّائينيّ، والّذي كان مفاده أنّ انتفاء فعليّة الحكم عند انتفاء موضوعه هو أمر بديهيّ لا شكّ فيه، والبحث فيه لا معنى له. كما أنّ عدم دخالة الآمر في القضايا الحقيقيّة واضح، وتوقّف الحكم على علم واعتقاد الجاعل بوجود موضوعه في القضايا الخارجيّة واضح أيضًا.

فلا شيء ممّا ذكره المحقّق النّائينيّ يقع مرادًا للشّيخ الآخوند، بل المراد هو أنّه هل يجوز إنشاء الأمر بداعي جعل الدّاعي مع علم الآمر بعدم تحقّق الشّرط؟ ثمّ أجاب بعدم الجواز عند العاقل أي من حيث هو عقلائيّ؛ إذ هذا فعل لغويّ ممنوع الصّدور من العاقل، فكيف يجعل الدّاعي للتّحرّك بداعي التّحرّك عند من لا يتحرّك بداعويّته لعدم الشّرط؟[1]

ثمّ استدرك الشّيخ الآخوند باستدراكين يقعان بمثابة  التّبرير للقائلين بالجواز محاولًا بهما رفع الاستهجان، فوضوح امتناع الأمر مع العلم بانتفاء شرطه من الجواز بمكان بحيث لا تخفى على بصير. الاستدراك الأوّل هو بنقل الكلام من الإمكان الوقوعيّ إلى الإمكان الذّاتيّ؛ فيقال على الرّغم من أنّ الأمر المذكور محال وقوعًا لكنّه ممكن ذاتًا، فنحمل مقالة الجوازيّين على هذا بالخصوص.[2] والاستدراك الثّاني هو القول باختلاف مرتبة الأمر عن مرتبة الشّرط بحيث يكون الأمر في مرتبة الإنشاء فيما الشّرط شرطًا للفعليّة وهذا واقع في الشّرع والعرف.[3] كما في مورد الأمارات والأصول القائمة على خلاف الواقع، فإنّ الأحكام الواقعيّة في موردها تبقى على إنشائيّتها ولا تبلغ رتبة الفعليّة لعدم توفّر شرطها. وكذا من قبيل بعض الأحكام المشروطة بزمن الظّهور بحيث أُنشئت زمن النّبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله وتبلّغ بداعي العمل في زمن الوصيّ الخاتم عليه أفضل الصّلاة والسّلام؛ أي إنّها إنشائيّة لم يحصل بعدُ شرط فعليّتها. وهذا كلّه لا إشكال فيه، فهو ليس ممّا علم الآمر عدم تحقّق شرط فعليّته إلى الأبد كما هو محلّ الكلام الذّي فيه ذهب الشّيخ الآخوند إلى الاستحالة. ومثل هذه الأحكام يصحّ أن تصدر في حقّ جماعة ولو أنّها ستكون فعليّة في حقّ أخرى، إذ إمكان الانبعاث الّذي أُخذ مصحّحًا للأمر هو إمكان الانبعاث التّقديريّ لا الفعليّ إلّا ولا بدّ.

ومع هذا، قد يُنشئ الآمر أوامر يعلم بعدم تحقّق شرطها إلى الأبد ولو في حقّ مكلّف واحد، لكنّه أنشأها لا بداعي البعث والتّحريك، بل بدواعٍ أخرى كالامتحان والتّهديد والتّعجيز وكالإعلام؛ كما لو أراد أن يبيّن للنّاس شريعتهم الباقية بحلالها وحرامها إلى يوم القيامة وإن كان شيء من تلك الأحكام سيبقى على الإنشائيّة لعدم شرطه.[4]

هذا، ولك أن تقول إنّ الأمر في مورد ليس الدّاعي هو البعث والتّحريك هو ليس بأمر حقيقيّ بل هنا أمر مسامحيّ؛ قلنا لا بأس وليكن أمرًا على المجاز مع القرينة والاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز.[5]

يبقى أن نشير إلى أنّ تحقيق الموارد الّتي فهم منها المحقّق الآخوند وجود أحكام مؤجّلة الفعليّة إلى زمن الظّهور لا يفيد ما استفاد منها، بل أغلب تلك الموارد كانت بصدد بيان الاعتراض على الوضع الموجود وأنّ حكم الإسلام مخالف لفعل السّلطة الزّمانيّة يومها من دون أن يكون لسانها لسان الاختصاص بزمن الظّهور. مثالها:"إذا ظهر القائم...وسّع الطّريق الأعظم".

ثمّ يقول الشّيخ الآخوند لعلّه بهذا يحصل التّصالح بين الطّرفين.[6] وبهذا البيان يتمّ كلامه ولا يرد عليه من أوردوه من إشكالات.

حكى المحقّق النّائينيّ ثمرة[7] لهذا البحث؛ ومفادها: إذا سافر المكلّف بصوم شهر رمضان قبل الزّوال يكون الإفطار جائزًا له بعد السّفر فيما لا يحقّ له الإفطار قبل السّفر لكن ماذا لو أفطر قبل السّفر هل تجب عليه الكفّارة؟

قيل: إن كنّا ممّن يقول بجواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه فالكفّارة واجبة؛ لانّه كان مأمورًا بالصّوم قبل الزّوال ومن أفطر عمدًا حين الأمر بالصّوم وجبت عليه الكفّارة. وإن كنّا ممّن يقول بالامتناع فالكفّارة غير واجبة؛ لأنّ شرط وجوبها _أي الحضر حتّى الزّوال_ غير متحقّق ومع العلم بانتفاء هذا الشّرط يصير أصل الأمر بالصّوم قبل الزّوال ممتنعًا.

والصّحيح بحسب المحقّق النّائينيّ أنّ هذه الثّمرة غير صحيحة؛ لأنّ وجوب الكفّارة لا يبتني على جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه بل هي مسألة فقهيّة خاصّة لها دليلها الخاصّ. وأجاب بجواب لا يصحّح شيخنا الأستاذ نسبته إلى المحقّق النّائينيّ لركاكته وضعفه؛ ومفاده: إنّ وجوب الصّوم إمّا وجوب واحد وإمّا وجوبات متعدّدة. فإن قلنا بتعدّد وجوب الصّوم والإمساك أي إنّ في المقام وجوبًا منحلًّا على الآنات آنًا آنًا بحيث من خالف أيّ وجوب من هذه الوجوبات الممتدّة على الآنات وجب عليه الكفّارة. وظاهر هذا الكلام عدم كون الصّوم واجبًا ارتباطيًّا بل هو منحلّ بأوامر استقلاليّة متعدّدة. ولعلّ مقصوده هو أنّ الصّوم واجب واحد ارتباطيّ لكن  إلى جانب وجوب الصّوم هناك وجوب للإمساك بحيث من سافر قبل الزّوال وجب عليه أن يؤدّي واجب الإمساك وهو إمساك غير الإمساك الصّوميّ. فهنا إمساكان: صوميّ وغير صوميّ ومخالفة كلّ منهما موجبة للكفّارة؛ فمن سافر قبل الزّوال لا يخالف بأكله قبله الإمساك الصّوميّ وإن كان قد خالف الإمساك العامّ فتجب عليه الكفّارة.

 

[1]  نهاية الدّراية،ج1،ص480:"لا يخفى أنّ النّزاع ليس في معقوليّة فعليّة الحكم مع عدم فعليّة موضوعه الّذي هو شرط له فإنّه خلف محال وكذا ليس النّزاع في معقوليّة فعليّة الحكم مع علم الحاكم بانتفاء فعليّة الحكم بانتفاء فعليّة موضوعه ليقال بأنّ علم الحاكم بوجود الشّرط خارجًا وعدم أجنبيّ وإنّما المناط في الحكم بفعليّة الحكم علم المكلّف بفعليّة الموضوع فإنّ شأن الحاكم تعليق الحكم على موضوعه بنحو القضيّة الحقيقيّة بل النّزاع في تحقّق أصل الأمر _أعني الإنشاء بداعي جعل الدّاعي_ من الآمر مع العلم بانتفاء شرط فعليّته في الخارج، فإنّ هذا الإنشاء بهذا الدّاعي _الّذي يترقّب منه فعليّة الدّعوة عنه فعليّة موضوعه_ لغو لا يكاد يصدر من العاقل بهذا الفرض، وبغير هذا الفرض أجنبيّ عن الأمر الّذي حقيقته الإنشاء بداعي جعل الدّاعي. فعُلم أنّ النّزاع معقول وأنّه لا ينافي كون الأحكام المجعولة بنحو القضايا الحقيقيّة دون الخارجيّة فتدبّر جيّدًا".

[2]  الكفاية،ج1،ص192:"وكون الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذّاتيّ بعيد عن محلّ الخلاف بين الأعلام".

[3]  المصدر نفسه:"نعم لو كان المراد من لفظ الامر الأمر ببعض مراتبه، ومن الضمير الرّاجع إليه بعض مراتبه الأخر _بأن يكون النّزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته؟ وبعبارة أخرى: كان النّزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة؛ لعدم شرطه_ لكان جائزًا، وفي وقوعه في الشّرعيّات والعرفيّات غنى وكفاية ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان ومؤونة برهان".

[4]  المصدر نفسه:"وقد عرفت سابقًا أنّ داعي إنشاء الطّلب لا ينحصر بالبعث والتّحريك جدًّا حقيقة بل قد يكون صوريًّا امتحانًا وربّما يكون غير ذلك".

[5]  المصدر نفسه:"ومنع كونه أمرًا إذا لم يكن بداعي البعث جدًّا واقعًا وإن كان في محلّه، إلّا أنّ إطلاق الامر عليه _إذا كانت هناك قرينة على أنّه بداع آخر غير البعث_ توسّعًا ممّا لا بأس به أصلًا كما لا يخفى".

[6]  المصدر نفسه:"وقد ظهر بذلك حال ما ذكرها لأعلام في المقام من النّقض والإبرام وربّما يقع به التّصالح بين الجانبين ويرتفع النّزاع من البين فتأمّل جيّدًا".

[7]  أجود التّقريرات،ج1،ص304:"وأمّا الثّمرة الّتي رتّبوها عليها من وجوب الكفّارة على من أفطر في شهر رمضان ولو لم يتمّ له شرائط الوجوب إلى اللّيل_ فهي مترتّبة على بحث فقهيّ وهو أنّ وجوب الصّوم هل ينحلّ إلى تكاليف متعدّدة بتعدّد الآنات أو هو تكليف واحد مشروط بشرط متأخّر وهو بقاء الوجوب إلى المغرب؟ وعلى الثّاني فهل لنا تكليف آخر بإمساك بعض اليوم في خصوص ما إذا ارتفع شرط الوجوب بالاختيار أو مطلقًا أو لا؟ والبحث عن ذلك موكول إلى محلّه".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است