تعلق الامر بالطبائع (۳ ربیع الثانی ۱۴۴۴)

بحث الشّيخ الآخوند[1] في تعيين متعلّق الأمر أهو الطّبيعة أم هو الفرد؟

وقد قدّم رأيه في المسألة من أنّ الأوامر تتعلّق بالطّبائع والماهيّات بمعنى إيجاد الطّبيعة والماهيّة المطلوبة بحيث يكون معنى الإيجاد مستبطنًا في معنى الأمر، وهذا على خلاف الطّلب الّذي لا يستبطن معنى الإيجاد لذلك لا يتعلّق الطّلب بالماهيّة بل بإيجاد الماهيّة. فظهر لك: أنّ الأمر يتعلّق بالماهيّة بما هي هي فيما الطّلب يتعلّق بإيجاد الماهيّة.[2]

ثمّ إنّه لا ينفكّ وجود الماهيّة في الخارج عن الخصوصيّات والمشخّصات الفرديّة الخارجيّة على نحو يستحيل أن تتحقّق الماهيّة في الخارج إلّا في فردها الّذي لا يكون فردًا ما لم يتشخّص ويحتفّ بخصوصيّاته الملازمة لوجوده. لكن مع ذلك لا شيء من تلك الخصوصيّات والمشخّصات بمطلوب ولا بداخل في متعلّق الأمر وإلّا لو دخلت لصار متعلّق الأمر هو الفرد عوضًا عن الطّبيعة. ليتبيّن من هذا أنّ الفرد الّذي بصدد نفي كونه متعلّقًا للأمر هو بمعنى الطّبيعة المشتملة على الخصوصيّات مع دخول الخصوصيّات في المأمور به.[3] (الخصوصيّات ولو على نحو البدل من قصيرة أو طويلة، من عالمة أو جاهلة، من بيضاء أو سوداء وهلمّ جرًّا).

هذا الكلام كما يتأتّى في الأوامر يتأتّى كذلك في النّواهي والدّليل على ذلك هو الوجدان[4].

وهنا لا بدّ من الإشارة قبل تفنيد المسألة والنّقاش فيها إلى محلّ النّزاع وإلى الإشكال الّذي أرادوا حلّه بالقول بتعلّق الأوامر بالطّبائع؛ فنقول: مقابل القول بتعلّق الأمر بالطّبيعة يأتي القول بتعلّقه بالفرد. لكن ما هو مقصود من قال بالتّعلّق بالفرد؟ هل قصدوا تعلّقها بالخصوصيّات والمشخّصات الفرديّة؟ بحيث إذا قال الشّارع "أعتق رقبة" سيدخل كونها طويلة أو قصيرة، بيضاء أو سوداء في المأمور به؟ ووما هي ثمرة البحث؟

نقل المحقّق النّائينيّ عن بعض الأساطين[5] كما جاء في أجود التّقريرات أنّ النّزاع هذا ناظر إلى التّخيير العقليّ وحلّ إشكاله، وبه ينحلّ الإشكال في اجتماع الأمر والنّهي. وبالتّالي، من قال بتعلّق الأمر بالفرد فقد قال بسراية الأمر إلى الفرد الخارجيّ بحيث تكون الصّلاة الخارجيّة ذات الخصائص المعيّنة ككونها واقعة في الأرض المغصوبة هي بنفسها متعلّقًا للأمر، إذ ما يتحصّل به غرض المولى هي الصّلاة الخارجيّة لا الطّبيعة من حيث هي لأنّها ليست إلّا هي. وليس المقصود من تعلّق الأمر بالفرد تعلّق الأمر بالفرد تعلّقه بالخصوصيّات الخارجيّة بل بالوجود الخارجيّ الّذي لا ينفكّ عن خصوصيّات ملازمة، بحيث لا تدخل الخصوصيّات في المأمور به بل يكون الوجود الخارجيّ هو الدّاخل.[6]

فيما القائل بتعلّق الأمر بالطّبيعة رأى أنّه لو تعلّق الأمر بالفرد لكان متعلّق الأمر هي الوجودات الخارجيّة للصّلاة مثلًا، وحيث إنّ المكلّف غير قادر على الجمع بينها فلا بدّ أن يكون مخيّرًا شرعًا بين الحصص الممتدّة من أوّل الوقت إلى آخره. ولازم ذلك عدم صحّة اجتماع الأمر والنّهي لأنّ الوجود الخارجيّ لا يمكن أن يكون مأمورًا به ومنهيًّا عنه كذلك وهذا صحيح.

وانطلاقًا من هذا الإشكال تمشّى الكلام عن التّعلّق بالطّبيعة ليُتفصّى عن التّخيير الشّرعيّ إلى التّخيير العقليّ. فالشّارع لم يأمر بهذا الوجود بل هذا الوجود هو المسقط للأمر وإلّا لو أمر المولى بالموجود من حيث هو موجود لكان طالبًا لإيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال أي قبيح على الحكيم.

هذا ولو تعلّق الأمر بالطّبيعة لكان المكلّف مخيّرًا بين أفرادها تخييرًا عقليًّا من دون أن يتعلّق الأمر بالوجود ليأتي محذور تحصيل الحاصل، بل يتخيّر المكلّف عقليًّا في تطبيق الطّبيعة المأمور بها على أفرادها.

هذا بيان المحقّق النّائينيّ وهو مختلف عمّا بيّنه الشّيخ الآخوند فهو تحدّث في مورد الفرد عن الخصوصيّات الملازمة للوجود قهرًا بحيث لو أمكن تحقيق الطّبيعة منفكّة عن الخصوصيّات لوجب ذلك، ولم يكن كلامه عن تعلّق الأمر بالوجود كما جاء في كلام المحقّق النّائينيّ. مع الإلفات إلى أنّ نفيه التّعلّق بالفرد لا يعني نفيه إمكان تقييد الطّبيعة ولو بألف قيد، إذ مع ذلك ستبقى الطّبيعة طبيعة ولن تكون فردًا بمعنى دخول الخصوصيّات الخارجيّة في المطلوب.

وقد ظهر أنّ ما رمى إليه المحقّق الآخوند هو القول بخروج لوازم الوجود والأعراض الخارجيّة عن متعلّق الأمر ليُعلم أنّ إشكاله ليس في تعلّق الطّلب بالوجود بل في تعلّق الطّلب بإيجاد الخصوصيّات.

على هذا وصلنا إلى قضيّتين: لا يمكن تعلّق الطّلب بالماهيّة من حيث هي وكذا لا يمكن تعلّق الطّلب الخصوصيّات؛ فكيف الجمع بينهما؟ بأن يقال إنّ متعلّق الطّلب ليست الماهيّة من حيث هي بل إيجاد الماهيّة من حيث هي.

فقد اختلف الفرد المقصود في كلام المحقّق الآخوند عن الفرد المقصود في كلام بعض الأعلام.

ثمّ تعرّض بعد ذلك لدفع وهم[7] مفاده: هل متعلّق الطّلب هي الطّبيعة الموجودة أم غير الموجودة؟ فإن قلت هي الموجودة كان طلبها تحصيلًا للحاصل، وإن قلت هي غير المقيّدة بالوجود بل لغاية الوجود أي يكون المتعلّق هي الطّبيعة لكن قد جُعل وجودها غاية، لكنّها من حيث هي لا يمكن أن تكون متعلّقًا للطّلب كما تقدّم.

وأجاب عن ذلك بأنّه  بناءً على أصالة الوجود يكون متعلّق الطّلب هو إيجاد الطّبيعة وبمعنى أنّه يريدها تحقيقها من العبد أي تحقيق وجودها وجعلها البسيط بمفاد كان التّامّة دون الجعل المركّب التأليفيّ لها. فهذا طلب للوجود لا للموجود ولا للماهيّة من حيث بغاية الوجود.

فيما بناءً على أصالة الماهيّة فليس متعلّق الطّلب الماهيّة من حيث هي بل الماهيّة بما هي في الخارج. فعلى كلّ حال المطلوب هو التّحقّق في الخارج من قبل العبد ولا تكون على المبنيين الماهيّة من حيث هي متعلّقًا للطّلب. إذ معنى أصالة الماهيّة مقابل أصالة الوجود أنّ الأصيل والمتحقّق في الخارج هي الماهيّة لا الوجود وليس الماهيّة في الخارج موجودة بعرض الوجود بل هي ذات أصالة وهي منشأ الأثر.

فتحصّل أنّ المطلوب هو تحقيق مفاد كان التّامّة للماهيّة.

ثمّ بعد أن بيّن المحقّق النّائينيّ هذا البيان سأل وهل إنّ تصوير التّخيير العقليّ يتوقّف على تعلّق الأمر بالطّبيعة؟ بحيث لا يصحّ التّخيير العقليّ بناءً على تعلّق الأمر بالفرد؟ واستهجن تفسير القول بتعلّق الأمر بالفرد بأنّه يتعلّق بالخصوصيّات والقيود فهذا لا يمكن أن يكون مقصودًا لأصحاب هذا المسلك؛ كيف والإطلاق يعني رفض القيود لا جمعها وهذا يرجع بحسب الشّيخ الآخوند إلى كون المتعلّق هي الطّبيعة لا الفرد.

وبالتّالي من قال بتعلّق الأمر بالفرد ليس مقصوده دخول الخصوصيّات في المأمور به لذلك تصدّى المحقّق النّائينيّ لبيان مرادهم ببيان ثالث.

ثمّ إنّ القول باجتماع الأمر والنّهي ليس مبتنيًا _بحسب الشّيخ الآخوند_ على القول بتعلّق الأمر بالماهيّة؛[8] فالشّيخ الآخوند نفسه قائل بتعلّقه بالماهيّة ومع ذلك قائل بالامتناع. ولا الامتناع مبتنيًا على القول بتعلّق الأمر بالفرد ولذلك قال بالاجتماع بعضهم.

 

 

 

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص193:"الحقّ أنّ الأوامر والنّواهي تكون متعلّقة بالطّبائع دون الأفراد.

ولا يخفى أنّ المراد أنّ متعلّق الطّلب في الأوامر هو صرف الإيجاد كما أنّ متعلّقه هو محض التّرك ومتعلّقهما هو نفس الطّبيعة المحدودة بحدود والمقيّدة بقيود تكون بها موافقة للغرض والمقصود، من دون تعلّق غرض بإحدى الخصوصيّات اللّازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنًا لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلًا، كما هو الحال في القضيّة الطّبيعيّة في غير الأحكام بل في المحصورة على ما حقّق في غير المقام".

[2]  المصدر نفسه،ص194:"فانقدح بذلك أنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطّبائع دون الأفراد: أنّها بوجودها السّعيّ بما هو وجودها _قبالًا لخصوص الوجود_ متعلّقة للطّلب، لا أنّها بما هي هي كانت متعلّقة له كما ربّما يتوهّم؛ فإنّها كذلك ليست إلّا هي. نعم هي كذلك تكون متعلّقة للأمر فإنّه طلب الوجود، فافهم".

[3]  المصدر نفسه:"حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطّبائع، ولا نظر له إلّا إليها، من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة وأنّ نفس وجودها السّعيّ بما هو وجودها تمام المطلوب وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة".

[4]  المصدر نفسه:"وفي مراجعة الوجدان للإنسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك".

[5]  أجود التّقريرات،ج1،ص305:"وأمّا ما ذهب إليه بعض الأساطين من تفسير تعلّق الأمر بالأفراد بإنكار التّخيير العقليّ بين الأفراد الطّوليّة والعرضيّة وأنّ التّخيير بين الأفراد يكون شرعيًّا دائمًا _بخلاف تعلّقه بالطّبيعة الّتي هي الجهة الجامعة ونفس القدر المشترك بين الأفراد، فإنّه يستلزم كون التّخيير بينها عقليًّا لا محالة_ فهو وإن كان ممكنًا عقلًا إلّا أنّه بعيد جدًّا".

[6]  المصدر نفسه:"بل المراد من النّزاع _على نحو يكون نزاعًا معقولًا_ هو أنّ الإرادة الفاعليّة الموجدة للشّيء في الخارج هل تتعلّق بنفس الشّيء مع قطع النّظر عن مشخّصاته _وهي إنّما توجد معه قهرًا لا ستحالة وجود الشّيّيء بدون التّشخًّص_ أو أنّ المشخّصات تكون مقوّمة للمراد بما هو مراد ويستحيل تعلّق الإرادة بنفس الطّبيعيّ من دون مشخّصاته؟

وبعبارة أخرى: هل التّشخّصات في مرتبة سابقة على الوجود ليكون معروض الوجود هو الماهيّة المتشخّصة أو هي في مرتبته حتّى يكون معروض الوجود كالتّشخّصات نفس الماهيّة".

[7]  الكفاية،ج1،ص194:"لا يخفى أنّ كون وجود الطّبيعة أو الفرد متعلّقًا للطّلب إنّما يكون بمعنى أنّ الطّالب يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطًا الّذي هو مفاد كان التّامّة وإفاضته لا أنّه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل كما تُوُهّم ولا جعل الطّلب متعلّقًا بنفس الطّبيعة وقد جُعل وجودها غاية لطلبها.

وقد عرفت أنّ الطّبيعة من حيث هي ليست إلّا هي لا يعقل أن يتعلّق بها طلب لتوجد أو تترك وأنّهلا بدّ في تعلّق الطّلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه كي يكون ويصدر منه. هذا بناء على أصالة الوجود. وأمّا بناءً على أصالة الماهيّة فمتعلّق الطّلب ليس هو الطّبيعة بما هي أيضًا بل بما هي بنفسها في الخارج فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيّات والأعيان الثّابتات لا بوجودها كما كان الأمر بالعكس على أصالة الوجود".

[8]  المصدر نفسه،ص214:"أنّه ربّما يتوهّم: تارةً أنّ النّزاع في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع. وأمّا الامتناع على القول بتعلّقها بالأفراد فلا يكاد يخفى؛ ضرورة لزوم تعلّق حكمين بواحد شخصيّ ولو كان ذا وجهين على هذا القول. وأخرى أنّ القول بالجواز مبنيّ على القول بالطّبائع؛ لتعدّد متعلّق الأمر والنّهي ذاتًا عليه وإن اتّحدا وجودًا، والقول بالامتناع على القول بالأفراد لاتّحاد متعلّقهما شخصًا خارجًا وكونه فردًا واحدًا.

وأنت خبير بفساد كلا التّوهّمين؛ فإنّ تعدّد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود والإيجاد_ لكان يجدي ولو على القول بالأفراد؛ فإنّ الموجود الخارجيّ الموجّه بوجهين يكون فردًا لكلّ من الطّبيعتين، فيكون مجمعًا لفردين موجودين بوجود واحد. فكما لا يضرّ وحدة الوجود بتعدّد الطّبيعتين لا يضرّ بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكلّ من الطّبيعتين وإلّا لما كان يجدي أصلًا حتّى على القول بالطّبائع كما لا يخفى لوحدة الطّبيعتين وجودًا واتّحادهما خارجًا".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است