تعلق الامر بالطبائع (۵ ربیع الثانی ۱۴۴۴)

بعد أن صوّر المحقّق النّائينيّ نزاع الطّبيعة والفرد نقلًا عن بعض الأساطين، وبأنّ مردّه إلى تعلّق الأمر بالطّبيعة بما هي هي أو بالطّبيعة المقيّدة على نحو جمع القيود، استبعد أن يكون القائلون بالفرد يريدون معنى الماهيّة المقيّدة بالمشخّصات وأشكل بما كنّا ذكرنا من إشكالات.

ثمّ إنّه تصدّى لبيان ما هو التّحقيق[1] عنده في تصوير محلّ النّزاع: إنّ هذا النّزاع هنا يبتني على النّزاع في وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج وعدمه.[2] لكن ما معنى وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج؟ وجوده بما هو كلّيّ؟ وهل هذا قابل للتّوهّم؟ أبدًا؛ فالكلّيّ موطنه الذّهن ليس إلّا، ولا يوجد في الخارج ما لا يمتنع صدقه على كثيرين، إذ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد.[3]

وعلى طرف نقيض، من قال بعدم وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج، هل ينكر الواقعيّات أي وقوع الماهيّات في الخارج؟ فلا إنسان خارجيّ متحقّق في الأعيان ولا حجر ولا شجر ولا مدر؟ أبدًا؛ على الإطلاق. فلا بدّ من تصوير البحث بنحو معقول. إذ لا يصحّ القول بأنّ النّزاع في وجود الكلّيّ من حيث هو كلّيّ وإذا كان هذا هو المقصود من وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج فالحقّ مع من أنكر وجوده. ولا يصحّ القول بأنّ النّزاع في عدم تحقّق فرد للكلّيّ الطذبيعيّ في الخارج المودي إلى إنكار الواقعيّة، وإذا كان هذا هو المقصود من وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج فالحقّ مع من قال بوجوده.

لكنّ الصّحيح أنّ النّزاع هنا مردّه إلى أنّه هل التّشخّص متفرّع على الوجود أم أنّ التّشخّص حاصل قبل الوجود بحيث يعرض الوجود على الماهيّة المتشخّصة؟

إذا كان التّشخّص في عرض الوجود أي الماهيّة تتشخّص بالوجود فالكلّيّ يوجد في الخارج بفرده، فيما إذا كان التّشخّص سابقًا على عروض الوجود على الماهيّة بل هو في عرض الماهيّة فالكلّيّ الطّبيعيّ لا يوجد في الخارج. فمعنى تحقّقه في الخارج هو أنّ الوجود يعرض على الماهيّة قبل التّشخّص وبواسطة الوجود يحصل التّشخّص. وفي مقابله قالوا بأنّه كما يكون الموضوع سابقًا على الحكم والماهيّة سابقة في التّعيّن على الوجود فكذا التّشخّص يكون سابقًا على الوجود بحيث يكون موضوع الوجود _أي ما يعرض عليه_ هي الماهيّة المتشخّصة. وبالتّالي، معنى عدم وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج هو أنّ الوجود لا يُحمل على الطّبيعة غير المتشخّصة، بل كلّما أراد ملاحظة الماهيّة ترتّبت لوازم قهريّة عليها بها تتعيّن وتتشخّص وإلّا لم تكن موضوعًا لعروض الوجود عليها رأسًا.[4]

والمقصود من التّشخّص التّعيّن الحاصل من خلال الاقتران بمجموعة من اللّوازم والخصوصيّات والمشخّصات الزّمانيّة والمكانيّة وغيرها من أعراض التّحقّق؛ ليرجع بذلك الخلاف إلى أنّ هذه المشخّصات هل هي من لوازم الوجود أم من لوازم الماهيّة؟

وعليه، إذا كان الوجود يعرض على الماهيّة المتشخّصة؛ فهل هذه المشخّصات داخلة في الماهيّة في ذاتها وذاتيّاتها؟ لا البتّة؛ بل هذه المشخّصات بنفسها هي ماهيّات خارجة، غاية الأمر أنّها لازمة للطّبيعة بحيث تترتّب عليها قهرًا، وبالتّالي من قال بكون الوجود يعرض على الماهيّة المتشخّصة فلا ريب أنّه لا يلتزم بكون المشخّصات مقوّمة للماهيّة بل هي مقارنة لا أكثر، فمتى كانت العوارض الّتي لا تخلو عنها الماهيّة في التّحقّق مقوّمة لها؟!

ما اختاره المحقّق النّائينيّ هو أنّ التّشخّص يحصل بواسطة الوجود أي في مرتبته وعرضه لا في رتبة سابقة.[5] لكن من قال بأّنّ التّشخّص حاصل قبل الوجود فهو ليس من لوازم الوجود بل من لوازم الماهيّة، وهذا يعني أنّ الموجود في الخارج هو الفرد مع أنّه لا يقول بأنّ التّشخّص مقوّم للماهيّة. ولو قال بالتّقوّم به لرجع بذلك إلى الرّأي الّذي كان قد نقله المحقّق النّائينيّ عن بعض الأساطين.

إذن على القول بالفرد، الوجود يحمل على الماهيّة والتّشخّص معًا لا على الماهيّة الخالية بما هي هي ولا على المقيّدة بالتّشخّص لأنّ التّشخّص مقارن للماهيّة لا مقوّم لها على القول بعدم وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج.

إذا تمهّد هذا: فما تقدّم جارٍ في الإرادة التّكوينيّة وليست الإرادة التّشريعيّة إلّا على وزانها،[6] غير أنّها بدل أن تتعلّق بفعل الفاعل نفسه تتعلّق بفعل الغير؛ وهذا يعني أنّه سواء تعلّقت الإرادة بالماهيّة أو بالماهيّة المتشخّصة فليس التّشخّص بداخل في الغرض المولويّ. وهذا على خلاف التّفسير السّابق حيث يكون التّشخّص دخيلًا في الغرض ويكون الإطلاق بنحو جمع القيود على التّبادل كما تقدّم.

وبناءً على هذا البيان سمّي الفرد _أي الطّبيعة المقارنة للمشخّصات لا المتقوّمة بها_ بالحصّة التّوأمة الّتي تتائم المشخّصات وتتاخمها من دون دخولها في ميقات ذاتها. وكما لم يدخل التّشخّص في الماهيّة فكذلك لا يدخل في المراد والمتعلّق بل هو ممّا يترتّب قهرًا بلا انفكاك على الماهيّة في رتبة لحاظها لتتعيّن.

فتحصّل ممّا مرّ: أنّ التّشخّصات سواء على القول بتعلّق الأمر بالطّبيعة أو بالفرد ليست دخيلة في متعلّق الإرادة، فمن قال بالفرد فقد قال بعروض الوجود على الماهيّة المتشخّصة أي المقارنة للتّشخّص أي توأم التّشخّص لا المتقوّمة بالتّشخّص، وبطبيعة الحال الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي وكلذ التّشخّصات خارجة.

يبقى أن نلفت إلى أنّ نفس التّوأميّة للمشخّصات ليست قيدًا للماهيّة، أي لا المشخّصات قيد ولا المتاءمة قيد، فالماهيّة هنا على إطلاقها وكلّيتها لكنّها ذات لوازم قهريّة ماهويّة وإلّا لو دخلت المشخّصات على نحو القيد لكانت مطلوبة ولعدنا إلى كلام الشّيخ الآخوند ومن وافقه في تفسير الفرد.

وفي نهاية المطاف سيثمّر هذا التّفنيد عند المحقّق النّائينيّ[7] قولًا بجواز اجتماع الأمر والنّهي على القول بتعلّق الأمر بالطّبيعة وقولًا بالامتناع على القول بتعلّق الأمر بالماهيّة المتشخّصة؛ فالصّلاة المتشخّصة بكونها في الغصب _أي المقارنة للغصبيّة لا المقيّدة بها، التّوأم للغصب مع عدم التّقيّد بالتّوأميّة_ لا يمكن أن تكون مأمورًا بها وكذا منهيّ عنها من حيث هي فعل غصبيّ على ما سيأتي.

 

 

[1]  أجود التّقريرات،ج1،ص305:"فالتّحقيق أنّ النّزاع في المقام مبتنٍ على النّزاع في مسألة فلسفيّة وهي أنّ الكلّيّ الطّبيعيّ هل هو موجود في الخارج أو لا؟".

[2]  المصدر نفسه:"وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان المراد من وجود الكلّيّ الطّبيعيّ وعدمه".

[3]  المصدر نفسه:"كما أنّه ليس مراد القائل بوجوده في الخارج هو القول بتحقّقه في الخارج من دون تسخّص وخصيوصيّة، كيف وقد اتّفقوا على أنّ الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد".

[4]  المصدر نفسه:"وبعبارة أخرى: هل التّشخّصات في مرتبة سابقة على الوجود ليكون معروض الوجود هي الماهيّة المتشخّصة أو هي في مرتبته حتّى يكون معروض الوجود _كالتّشخّصات نفس الماهيّة؟".

[5]  المصدر نفسه:"ونحن إذا راجعنا وجداننا في إرادتنا، نرى أنّ متعلّق الإرادة في أفق النّفس كلّيّ دائمًا وإن كان مقيّدًا بألف قيد حسب اختلاف الأغراض وإنّما يكون التّشخّص بالوجود فقط، فإذا كان هذا حال الأفعال الإراديّة، فيكون حال غيرها من الموجودات الخارجيّة المعلولة لغير الإرادة أيضًا كذلك، فيكون نفس الطّبيعيّ معروض الوجود والتّشخّص دائمًا".

[6]  المصدر نفسه:"إذا تبيّن ذلك: فبضميمة أنّ ما هو متعلّق الإرادة التّكوينيّة من العبد لا بدّ وأن يكون بعينه متعلّقًا للإرادة التّشريعيّة من المولى؛ فإنّ نسبة الإرادة التّشريعيّة إلى التّكوينيّة وإن لم تكن نسبة العلّة إلى معلولها حقيقة إلّا أنّها في حكم العلّة لها ومحرّكة للعبد إلى إرادة ما تعلّقت به، يتّضح لك أنّ متعلّق الأوامر هي نفس الطّبائع وتكون المشخّصات كلّها خارجة عن المأمور به".

[7]  المصدر نفسه:"وأمّا ثمرة البحث فتظهر في مبحث اجتماع الأمر والنّهي؛ فإنّه بعد إثبات تعلٌّ الأوامر بالطّبائع وأنّ المشخّصات خارجة عن متعلّق التّكليف وإثبات أنّ نسبة كلّ من الكلّيّين في مورد الاجتماع من قبيل المشخّص للكلّيّ الآخر لا محصي عن القول بجواز الاجتماع وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است