تعلق الامر بالطبائع (۱۳ ربیع الثانی ۱۴۴۴)

ثمرة بحث تعلّق الأمر بالطّبيعة أو بالفرد بناءً على ما قدّمنا من بيان مختلف لمحلّ النّزاع هي عين ثمرة المحقّق النّائينيّ.

وكان مفاد بيان شيخنا الأستاذ هو: أنّ تعلّق الأمر بالطبيعة مستبطن لوجوبٍ متعلّق بالجامع ولترخيص في تطبيق الطّبيعة على الحصص من حيث تلك الطّبيعة، وهذا ترخيص حيثيّ يقصر النّظر على جهة مصداقيّة هذه الحصّة المعيّنة لتلك الطّبيعة، في مقابل التّرخيص المطلق المستغرق لجميع الجهات.

فلا يُتوهّمنّ أصلًا كون الأمر بالطّبيعة أمرًا بجميع أفرادها بل بلا ريب هو أمر بإيجاد فرد ما منها، وهذا يعني أنّه _إضافةً إلى الوجوب المتعلّق بالطّبيعة_ يتحقّق ترخيص في تطبيق ذاك الواجب على الحصص الخارجيّة. فيتخيّر المكلّف في المكان والزّمان بين الحدّين واللّباس وما شاكل من مشخّصات خارجيّة.

والنّزاع القابل للتّصوير هو: هل أنّ هنا ترخيصًا في تطبيق الحصص من حيث تلك الطّبيعة كالصّلاة بحيث يترخّص المكلّف من حيث الصّلاة بين المكان المباح والمكان المغصوب؛

أم أنّ التّرخيص لا فقط من حيث تلك الطّبيعة بل هو مطلق ومن جميع تلك الخصوصيّات المجامعة للحصّة؛ ليكون مرخّصًا في جميع الطّبائع المقارنة لوجود الطّبيعة المطلوبة؟

الصّحيح هو التّرخيص الحيثيّ لا الفعليّ المطلق. فلا إشكال في صلاتيّة الصّلاة في المكان المغصوب من حيث هي صلاة وإنّما الإشكال من جهة الغصب، والأمر بالصّلاة ليس بصدد بيان ترخيصه في الغصب لأجل الصّلاة بل هو بصدد بيان إعطاء رخصة التّطبيق، وبالتّالي الدّليل ساكت عن الغصب لا نافٍ للغصب أو لحرمته، ولذلك قلنا لا تصلح الأوامر أن تكون نافية للحزازة الشّرعيّة لطبائع أخرى لأنّها قد لازمت وجود حصص متعلّقاتها في الخارج.

وبتعبير أبسط: الأمر بالصّلاة لا يتعرّض للأمر بشيء آخر غير الصّلاة ولا للنّهي عن شيء آخر؛ فلا يأمر أمرُ الصّلاة بالصّوم ولا ينهى عن الغصب بل يقصر نظره ودعوته على إيجاد مادّة واجبه فقط لا غير، وما سوى ذلك يؤخذ من أدلّته.

ولو ثبت التّرخيص الفعليّ لثبتت حلّيّة الطّبائع المشكوكة الحرمة _على أقلّ تقدير_ الملازمة للصّلاة؛ فيثبت جواز الكون في الأراضي المتّسعة المملوكة للغير مثلًا، لا بدليلها الخاصّ ولا بأصل عمليّ بل بدليل الصّلاة.

والتّرخيص الفعليّ الّذي التزموا به هو الّذي أودى بهم للقول بالتّعارض بين خطابي "صلّ ولو في الأرض المغصوبة" و"لا تغصب"، والحقيقة أنّ الخطاب الأوّل هو خطاب مستبطن لترخيص حيثيّ لا فعليّ، أي لا يعطي شرعيّة للغصب الملازم للصّلاة بل يصف الفعل الواقع في الغصب بالصّلاتيّة وبصدق الطّبيعة عليه وهذا معنى التّرخيص الحيثيّ.

وبناءً على هذا البيان لمحلّ النّزاع:

يكون الفرد بمعنى التّرخيص الفعليّ بالملازمات الخارجيّة لأفراد الواجب وهذا لا يجتمع مع المنع عن تلك الملازمات؛ فيقع التّعارض؛ وتكون الطّبيعة بمعنى التّرخيص الحيثيّ لا الفعليّ في الملازمات والخصوصيّات. وبالتالي؛ يرجع النّزاع بين كون الأمر متعلّقًا بالفرد أو بالطّبيعة إلى النّزاع في كون التّرخيص فعليًّا أو حيثيًّا.

على أنّ تعلّق الأمر بالطّبيعة لا يعني في المتفاهم العرفيّ دخول الخصوصيّات والمشخّصات فيها بحيث تعرّف بها كما ذكر السّيّد الصّدر[1]، لا بل العرف يفهم خروج تلك الخصوصيّات والملازمات عن حريم الطّبيعة.

وممّا تقدّم تبيّن: أنّه لا موضوع للاجتماع بناءً على القول بالتّرخيص الفعليّ أي القول بالفرد، ويتأتّى الكلام عن جواز الاجتماع وعدمه على القول بالتّرخيص الحيثيّ حيث يكون للبحث فيه مجال كما عبّر المحقّق النّائينيّ بحسب عبارة الفوائد.[2]

ولو رجعنا إلى كلام الشّيخ الآخوند فقد دفع توهّمين:[3]

الأوّل: أنّ النّزاع في الجواز والامتناع إنّما يتأتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع؛

الثّاني: أنّه على القول بالفرد لا يجوز الاجتماع فيما على القول بالطّبيعة يجوز الاجتماع. وبما أفدنا تبيّن عدم تماميّة ما أسماه الشّيخ الآخوند توهّمًا أوّلًا.

هذا بحث مفيد جدًّا وسيّال ومثمر بثمرات وسيعة؛ منها:

بين الأمر بإكرام العالم والنّهي عن إكرام الفاسق نسبة العموم والخصوص من وجه، وبناءً على القول بالتّرخيص الحيثيّ لا تعارض بينهما رأسًا حتّى بالعموم من وجه. أمّا على مبنى القوم في المجمع أي العالم الفاسق حكموا بوقوع التّعارض.

في "أكرم العالم" لا فرق بين الحصّة المجامعة للفسق وغير المجامعة من حيث صدق طبيعة العالم عليها وبكلا الحصّتين يقع توقير العلم، نعم لو قال "لا تكرم العالم الفاسق" لكانت الطّبيعة مقيّدة بحيث يكون المأمور به بالأمر الأوّل هو العالم العادل دون الفاسق. فمع عدم التّعارض، حال إكرام العالم الفاسق يكون المكلّف قد حصّل مصلحة الواجب وقد وقع في مفسدة الحرمة. ولا فرق بين إكرام العالم من حيث العالم في الفاسق وفي العادل، وبين صلّ المنطبقة على الصّلاة في المباح والصّلاة في المغصوب، فكما أنّ النّسبة بين العالم والفاسق هي العموم والخصوص من وجه فكذا بين الصّلاة والغصب، ولا وجه للاختلاف بينهما؛ وتدخل المسألة في بحث الاجتماع.

هذا بحث مفيد ومثمر وسيّال، وهذا تمام الكلام فيه.

ثمّ نعرّج على مطلب كان ذكره السّيّد الصّدر كمقدّمة لبحث تعلّق الأوامر وهو يرتبط بكيفية تعلّق الحكم بالمتعلّقات؛ فلو قال المولى "الصّلاة واجبة" و"شرب الخمر حرام"، فما هو نوع العروض هنا؟ وهل معروض الحكم هو الوجود الخارجيّ أم أمر ذهنيّ أم غيرهما؟ هذه عويصة تصدّى العلماء لعلاجها، فإذا كان المطلوب هو الوجود الخارجيّ لكان الأمر طلبًا لتحصيل الحاصل والوجود رتبة سقوط الحكم لا وجوده. وإذا كان المطلوب هو الوجود الذّهنيّ، فإنّ الأثر المطلوب يترتّب على الخارج والخارجيّات لا على الماهيّات الذّهنيّة، والفرض أنّ المولى يحكم بتبع مصلحة مطلوبة التّحصيل ووعاؤها الخارج لا الذّهن.

فيقع الكلام في كيفيّة العروض:

وبطبيعة الحال لا كلام في المقام على الموضوع، لأنّه من الواضح أنّ الحكم إنّما يكون على تقدير وجوده، فيؤخذ في مقام الجعل مفروضًا مفروغ الوجود، فينحصر البحث في المتعلّقات..

تعرّض السّيّد الصّدر لبيان أقسام العروض وذكر ستة أقسام من العروض:

ثلاثة منها معروفة في كلمات الآخرين وطرح هو ثلاثة أقسام من عنده.

أمّا الثّلاثة الأولى:

الأوّل: العروض والاتّصاف في الذّهن؛

الثّاني: العروض والاتّصاف في الخارج؛

الثالث العروض في الذهن والاتصاف في الخارج.

أمّا الأوّل؛[4] فهي المعقولات الثّانية المنطقيّة من قبيل قضيّة "الإنسان نوع"، النوع كليّ لا يمتنع صدقه على كثيرين فلا يصحّ حمله على الوجود الخارجيّ للإنسان، إذ ليس زيد الخارجيّ نوعًا. بل الصّحيح أنّ الإنسان بوجوده الذّهني نوع. فالنّوع بما هو نوع لا يتحقّق في الخارج بل يتحقّق من حيث مصداقه في الخارج. وقولهم: العروض والاتّصاف في الذّهن يعني أنّ نفس وجود هذا الحمل في الذّهن وأنّ ما يتّصف بكونه نوعًا الإنسان الذّهنيّ لا الإنسان الخارجيّ. وتسمّى هذه الأعراض بالأعراض الذّهنيّة.

وأمّا الثّاني؛[5] فهي الأعراض الخارجيّة مثل "الإنسان يمشي"، حيث يكون العروض هنا _أي الحمل_ في الخارج، فالإنسان الذّهنيّ لا يمشي. فالعروض وكذا الاتّصاف في الخارج هي المعقولات الأولى.

وأمّا الثّالث؛[6] فهي المعقولات الثّانية الفلسفيّة من قبيل "الإنسان ممكن". الممكن حقيقة هو الإنسان الخارجيّ فهو مسلوب الضّرورة وذو الوجود القائم بالعلّة، وليس معنى ذلك أنّه الآن هو مستوي النّسبة إلى الوجود والعدم، بل هو الآن من حيث الوجود واجب لكن بالغير. هنا العروض في الذّهن أي في الذّهن يحمل الإمكان على الإنسان لكن الاتّصاف يحصل في الخارج.

هنا أشكل السّيّد الصّدر[7] على هذا القسم الثّالث، فالتّفكيك بين ظرف العروض وظرف الاتّصاف غير ممكن، فإن كان ظرف الأوّل الذّهن فلا بدّ أن يكون ظرف الثاني هو الذّهن، وإن كان ظرف الأوّل هو الخارج فظرف الثّاني كذلك.

وما دفع[8] من قال بهذه المقالة إليها هو أنّه إذا كان العروض في الخارج وعرض الإمكان على الإنسان الخارجيّ فلا بدّ أن يكون للعروض نفسه وجود عارض على الوجود الآخر. فنفس عروض الإمكان هو وجود عرض على زيد الموجود الخارجيّ، وبالتّالي هذا العروض الّذي ثبت له الوجود فهو إمّا موجود وإمّا غير موجود، فإن كان موجودًا فثبت له وجود آخر ثمّ ننقل الكلام إلى ذاك الوجود فإن كان موجودًا ثبت له وجود آخر وهكذا يتسلسل. الإمكان يعرض على زيد إن كان في الخارج لا بد أن يكون العروض وجودًا هو بنفسه مختلف عن العرض وعن المعروض. فلا مناص عن القول بأنّ العروض ذهنيّ والاتّصاف خارجيّ.

رأى بعض الحكماء أنّه ليس معنى كون العروض ذهنيًّا أن يكون الشّيء اعتباريًّا بحيث يمكن أن نعتبر خلافه، بل المقصود من العروض الذّهنيّ هو العروض في العقل الأوّل وفسّروا العقل الأوّل بواجب الوجود. وبالتّالي "الإنسان ممكن" له عروض في علمه تعالى بحيث لا يكون قابلًا للتبدّل والتّبديل.

 

 

[1]  المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص263:"فحينما يسأل أحد من هو زيد؟ يستعين بهذه المشخّصات لتعيينها ويضمّها إلى الوجود المحور لهذه المشخّصات فيتكوّن بذلك ما نطلق عليه اسم الفرد".

[2]  الفوائد،ج1،ص417:"لو قيل بتعلّق الأحكام بالأفراد بالمعنى المتقدّم من سراية الأمر إلى الخصوصيّة ولو تبعًا فلا مجال للنّزاع في جواز الاجتماع لأنّه يلزم أن يتعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النّهي ولو بالتّبعيّة فيمتنع الاجتماع. ولو قلنا بتعلّق الأحكام بالطّبائع من دون أن يسري الأمر إلى الخصوصيّات كان للنّزاع مجال، من جهة وجود المتعلّقين بتأثير واحد. فظهر أنّ منع ابتناء المسألة على تلك المسألة بإطلاقه لا يستقيم".

[3] الكفاية،ج1،ص214:"أنّه ربّما يتوهّم: تارةً أنّ النّزاع في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع. وأمّا الامتناع على القول بتعلّقها بالأفراد فلا يكاد يخفى؛ ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصيّ ولو كان ذا وجهين على هذا القول.

وأخرى أنّ القول بالجواز مبنيّ على القول بالطّبائع؛ لتعدّد متعلّق الأمر والنّهي ذاتًا وإن اتّحدا وجودًا، والقول بالامتناع على القول بالأفراد لاتّحاد متعلّقهما شخًا خارجًا وكونه فردًا واحدًا".

[4]  المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص251:"القسم الأوّل: ما يكون ظرف عروضه هو الذّهن وظرف اتّصاف الشّيء به هو الذّهن أيضًا. ويمثّلون لذلك بمثل النّوعيّة والجنسيّة والفصليّة والكلّيّة والجزئيّة، فهي ليس لها وجود خارجيّ وإنّما وجودها وجود ذهنيّ. فظرف عروضها هو الذّهن كما أنّ ما يتّصف بها ليس هو الفرد الخارجيّ من الإنسان أو الحيوان أو النّاطق مثلًا، بل المفهوم الذّهنيّ. إذن ظرف الاتّصاف بها هو الذّهن. فلنطلق عليها فعلًا اسم العوارض الذّهنيّة".

 

[5] المصدر نفسه:"العوارض الخارجيّة، وهي ما يكون ظرف وجودها وظرف الاتّصاف بها هو الخارج، كالحرارة والبياض ممّا يكون له وجود خارجيّ ويتّصف به الفرد الخارجيّ".

[6] المصدر نفسه:"القسم الثّالث: ما يكون ظرف عروضه هو الذّهن وظرف الاتّصاف به هو الخارج، كالإمكان والاستلزام، فظرف عروضه هوالذّهن ببرهان عدم وجود خارجيّ له كالبياض والحرارة، وإلّا لزم التّسلسل بحسب الخارج؛ إذ يقال مثلًا: إنّ النّار ممكن وإمكانها واجب ووجوب إمكانها واجب ... وهكذا إنّ النّار ملازمة للحرارة وملازمة لهذه الملازمة... وهكذا، فإذا لم يكن وجوده خارجيًّا فهو ذهنيّ. وظرف الاتّصاف به هو الخارج ببرهان اتّصاف الفرد الخارجيّ من الشّيء به، فالفرد الخارجيّ من النّار مثلًا ممكن وملازم للحرارة. وهذا بخلاف ما مضى من مثل النّوعيّة والفصليّة ممّا لم يكن الفرد الخارجيّ متّصفًا به. هذا ما قاله مشهور الحكماء".

[7] المصدر نفسه:"ونحن قد أشرنا في بعض الأبحاث السّابقة إلى أنّ هذا غير معقول؛ فإنّ اتّصاف الشّيء بعرض إنّما هو بلحاظ عروضه عليه، فلا يعقل أن يكون عالم الاتّصاف به غير عالم عروضه".

[8] المصدر نفسه:" ببرهان عدم وجود خارجيّ له كالبياض والحرارة، وإلّا لزم التّسلسل بحسب الخارج؛ إذ يقال مثلًا: إنّ النّار ممكن وإمكانها واجب ووجوب إمكانها واجب ... وهكذا إنّ النّار ملازمة للحرارة وملازمة لهذه الملازمة... وهكذا، فإذا لم يكن وجوده خارجيًّا فهو ذهنيّ. وظرف الاتّصاف به هو الخارج ببرهان اتّصاف الفرد الخارجيّ من الشّيء به، فالفرد الخارجيّ من النّار مثلًا ممكن وملازم للحرارة. وهذا بخلاف ما مضى من مثل النّوعيّة والفصليّة ممّا لم يكن الفرد الخارجيّ متّصفًا به. هذا ما قاله مشهور الحكماء".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است