هل يبقی الجواز بعد نسخ الوجوب (۲۶ ربیع الثانی ۱۴۴۴)

ما زال الكلام في بقاء الجواز (بالمعنى الأخصّ أو بالمعنى الأعمّ) أو عدمه بالدّليل الاجتهاديّ أو بالدّليل العمليّ في فرض نسخ الوجوب.

وقد انتهى البحث في الدّليل الاجتهاديّ، والبحث فعلًا في استكشاف بقاء الجواز أو عدمه على أساس الاستصحاب.

وقد حكم الشّيخ الآخوند بعدم إمكان الحكم ببقاء الجواز على أساس الاستصحاب إلّا أن يقال بحجّيّة الاستصحاب من القسم الثّالث الّذي فسّره بارتفاع فرد من كلّيّ مقارنًا لاحتمال حدوث فرد آخر بحيث يتحقّق فيه الكلّيّ، فيبقى الكلّيّ ويستمرّ في الزّمان الثّاني.

لا وجود للجواز بالمعنى الأعمّ الّذي يراد إثباته بعد ارتفاع الوجوب إلّا في أحد الأحكام الأخرى غير الوجوب والحرمة، لأنّ الجواز إذا أريد تحقّقه فهو إمّا ضمن الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة. وهذا بمعنى أنّ وجوده قائم في ضمن أحد الأحكام غير الحرمة، وبعد أن ارتفع الجواز الوجوبيّ مع ارتفاع الوجوب، فالحكم بالجواز لن يكون إلّا في أحد الأحكام الباقية غير الحرمة.

لكنّ الجواز الّذي في مورد الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة متفاوت وليس واحدًا وفي كلّ منها فرد مختلف من أفراد الجواز. فالجواز المرتفع بدليل النّسخ هو غير الجواز الثّابت في أحد الأحكام الباقيّة وإن كانا مشتركين في انطباق الكلّيّ عليهما، والحال أنّنا نشكّ في ثبوت الجواز في الزّمان الثّاني فيكون الاستصحاب الجاري هو استصحاب الكلّيّ من القسم الثّالث. إلّا أنّ هكذا استصحاب غير حجّة أي لا يجري بالفعل فلا يجري الاستصحاب في المسألة. فالحقّ عند الشّيخ الآخوند هو عدم جريان الاستصحاب هنا.

وقد عرّف الشّيخ الآخوند القسم الثّالث من استصحاب الكلّيّ هنا بمعنى يختلف شيئًا ما عن تعريف الشّيخ الأعظم بل ويختلف عمّا عرّفه به الشّيخ الآخوند نفسه في موارد أخرى، حيث جعله هنا متقوّمًا بمقارنة احتمال الحدوث لارتفاع الفرد الأوّل، مع أنّ القسم الثّالث أعمّ من هذا، إذ يكون منه ما لو احتملنا حدوث الفرد الآخر قبل العلم بارتفاع الفرد الأوّل...فهو ليس متقوّمًا بكونه مقارنًا مع ارتفاع الفرد الأوّل. فحدوث الفرد هو إمّا قبل ارتفاع الفرد الأوّل وإمّا مقارنًا، ويشكّ في ذاك الحدوث ولو حدث لبقي الكلّيّ فيتأتّى استصحاب الكلّيّ من القسم الثّالث وهو غير جار ولا حجّة.

"ولا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناء على جريانه في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّيّ وهو ما إذا شكّ في حدوث فرد كلّيّ مقارنًا لارتفاع فرده الآخر".[1]

نعم هناك استثناء في حجّيّة استصحاب القسم الثّالث وقد يتوهّم انطباق ذاك المستثنى منه هنا:[2]

والمستثنى هو ما لو كان الفرد المعلوم الحدوث هو من قبيل الأشياء ذات المراتب ويُشكّ في حدوث مرتبة أخرى من مراتبه وذلك مثل الألوان كالسّواد الشّديد والضّعيف. كما لو علمنا بحدوث اللّون الأسود الكلّيّ في الفرد الشّديد السّواد واحتملنا حدوث فرد آخر من اللّون الأسود أضعف سوادًا. وهنا وإن كان على المستوى العقليّ الدّقّيّ هناك اختلاف بين المرتبتين إلّا أنّه بالنّظر العرفيّ المسامحيّ تكون المرتبة الثّانية بقاء للمرتبة الأولى. وبالتّالي يجري الاستصحاب لصدق البقاء عرفًا على المرتبة الأخرى.

وهنا هل الطلب الثاني هو طلب أضعف من الطلب الأوّل الأشدّ فيجري الاستصحاب، لكون الاستحباب بقاءً أضعف مرتبة لذاك الطّلب الأوّل عرفًا؟ وكما ترى هذا لا يعتمد على تركّب الوجوب من طلب وإلزام كما مرّ بل يعتمد على كون الطّلب مشكّكًا وذا مراتب.

وأبى الشّيخ الآخوند ذلك، وقال بوقوع التّباين بين مرتبتي الطّلب عند العرف، فالوجوب عند العرف مباين للاستحباب وإن كان على المستوى الدّقّيّ يقع التّشكيك بينهما ولكن العرف لا يرى ذلك.

والمرجع كما هو معلوم في تعيين موضوعات الاستصحاب وبقائها هو العرف. أي ملاك الحكم بالبقاء للموضوع هو أن يرى العرف الموضوع باقيًا ليبقى الحكم وليس المرجع العقل. والعرف هنا لا يرى الوحدة والاختلاف الرّتبيّ لشيء واحد بين الوجوب والاستحباب. وعلى هذا، فبعد نسخ الوجوب لا معنى لبقاء الجواز بالاستصحاب. ولا يمكن القول إنّ هذا من أخطاء العرف في التّطبيق، لأنّ العرف هو المرجع والحاكم في صدق عنوان البقاء فما وراء عبّادان قرية.

نعم، حاول هنا بعض الأعلام إجراء الاستصحاب بلحاظ المبادئ كالشّوق مثلًا، والاختلاف بين مراتبه عرفيّة ومقبولة عنده ومحفوظة الوحدة بينها، فيجري استصحاب الكلّيّ من القسم الثّالث ويكون من مستثناه.

وقد جاء عدّة من الأعلام ومنهم السّيّد الصّدر بمحاولة مفادها: أنّ الجواز الثّابت في أحد الأحكام لا يُستصحب لكن نستصحب شخص عدم الحرمة، فليس الاستصحاب الكلّيّ. وهذا في ردّ كلام السّيّد الخوئيّ. وشخص عدم الحرمة هذا مقارن للأحكام الأربعة ولا يقوم بوجود الحكم بل يقارنه، وهذا على خلاف الجواز حيث يوجد في الوجوب والاستحباب..والشّاهد على ذلك هو أنّ الكلّيّ ينطبق على أفراده لا أنّه يقارن وجود الأفراد أمّا المقارنات فلا تنطبق على الأفراد وعدم الحرمة لا ينطبق على الوجوب ولا على الاستحباب ولا على الكراهة ولا على الإباحة بل يقارنها جميعًا بشخصه. وبالتّالي فلا حاجة لأن يكون المستصحب هو الجواز ليكون المورد من موارد استصحاب الكلّيّ من القسم الثّالث بل المستصحب هو عدم الحرمة وهو من استصحاب الشّخص. وبنظر شيخنا الأستاذ هذا البيان تامّ وإن لم تترتّب آثار كالصّحّة والمشروعيّة على هذا الاستصحاب لكن يترتّب عدم الممنوعيّة وعدم لزوم الاجتناب؛ وهذا يعني أنّ الأثر المنتظر من إجراء الاستصحاب يترتّب على عدم الحرمة.

نعم المشروعيّة كما في صلاة الصّبيّ وغسله وما شاكل ترتّبت على الجواز لا على عدم الحرمة، لكنّها غير منتظرة هنا في فرض إجراء الأصل العمليّ؛ بل المراد نفي توهّم الحرمة كما في "قاتلوا الّذين كفروا" المنسوخ، حيث نشكّ في حرمة القتل بعد النّسخ فنجري الأصل العمليّ لإثبات عدمها.

على أنّه وإن لم يقبل السّيّد الخوئيّ جريان الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة لكنّه قبيل ما هو من قبيل هذه الاستصحابات العدميّة لأنّ ملاك عدم جريان الاستصحاب عنده في الشّبهة الحكميّة لا يجري فيها؛ إلّا أنّ ما في جعبتنا من بيان لعدم جريان الاستصحاب في الشّبهة الحكميّة يجري في المورد كما يجري فيها.

 

 

[1]  الكفاية،ج1،ص195_196.

[2]  المصدر نفسه:"وقد حقّقنا في محلّه أنّه لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضّعيفة المتّصلة بالمرتفع بحيث عُدّ عرفًا لو كان أنّه باقٍ لا أنّه أمر حادث غيره.

ومن المعلوم أنّ كلّ واحد من الأحكام مع الآخر عقلًا وعرفًا من المباينات والمتضادّات غير الوجوب والاستحباب فإنّه وإن كان بينهما التّفاوت بالمرتبة والشّدّة والضّعف عقلًا إلّا أنّهما متباينان عرفًا، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر، فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعًا في هذا الباب".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است