الواجب التخییری (۲۸ ربيع الثاني ۱۴۴۴)

أشرنا إلى بعض ثمرات تناول بحث حقيقة الواجب التّخييريّ، وقد ذكر السّيّد الصّدر ثمرة في نهاية بحثه للواجب التّخييريّ وكذا ذكر ثمرة أخرى في موضع آخر. وبيان ثمرته بناء على تقريرات بحثه في البحوث:[1] [2]

توجد تصويرات متعدّدة للواجب التّخييريّ،

أبرزها اثنان: أحدهما كون الواجب التّخييريّ راجعًا إلى وجوبين مشروطين؛

وثانيهما كون الوجوب فيه متعلّقًا بجامع انتزاعيّ أو حقيقيّ.

والثّمرة تظهر فيما لو دار الأمر بين الوجوب التّعيينيّ والتّخييريّ، فنعلم بوجوب الصّيام شهرين متتابعين كفّارةً ونشكّ في كون الإطعام عِدلًا له،

فلو قلنا بمقالة الشّيخ الآخوند بكون الواجب التّخييريّ وجوبين مشروطين، وشككنا بين التّعيين (أي وجوب الصّيام كفّارة خاصّة) والتّخيير (أي تعلّق الوجوب بعدلين)، ذهب السّيّد الصّدر إلى الحكم بالبراءة؛ لأنّ مردّ الوجوب المشروط إلى أنّ ثبوت التّكليف بالإطعام مشكوك على تقدير فعل الصّيام وليس المقام من الشّكّ في السّقوط على ما ذكره المحقّق النّائينيّ.

وأمّا إذا قلنا بكون الواجب التّخييريّ وجوبًا واحدًا متعلّقًا بالجامع:

فإمّا أن يكون الجامع حقيقيًّا، فترجع المسألة الى الشّكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين لأنّ وجوب الجامع معلوم فيما نشكّ في قيد زائد هو التّعيّن، والحكم فيه هو البراءة وقد فصّل الشّيخ الآخوند بين الشّرعيّة دون العقليّة كما ذهب إليه الآخوند وقد يقال بالاشتغال كما ذهب إليه غيره.

وإمّا أن يكون الجامع انتزاعيًّا، ففي هذا الفرض من الدّوران بين التّعيين والتّخيير حكم بعض الأعلام كالشّيخ الأعظم والمحقّق النّائينيّ والشّيخ الآخوند بالاشتغال.

ويمكن أن يقال بالبراءة في جميع فروضه كما ذهب إليه السّيّد الخوئيّ، لكن هذا شيء وكون المقام مجالًا لأقوال أخرى شيء آخر؛ فهذا بحث ضروريّ وأساس وليس للبركة، فلا بدّ من دراسة  حقيقة الواجب التّخييريّ لنعرف الوظيفة العمليّة.

والفرق بين الجامع الحقيقيّ والانتزاعيّ هو أنّ القيد في الانتزاعيّ داخل وفي الحقيقيّ خارج، بمعنى أنّ المتعلّق بخصوصيّاته هوالمطلوب.

وثمرة أخرى ذكرها في كتاب آخر له بخطّه: قال إذا كان الوجوب متعلّقًا بالجامع فالدّوران هو من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين من دون تفكيك بين الجامع الانتزاعيّ والجامع الحقيقيّ.

وله ثمرة ذكرها في مبحث اجتماع الأمر والنّهي مفادها أنّه:

إذا كان الواجب التّخييريّ عبارة عن وجوبات مشروطة فلا مجال لاجتماع الأمر والنّهي، وذلك لأنّه لا يمكن للشارع أن يقول تجب الصّلاة في المكان المباح وكذا في المكان الغصبيّ _ على نحو يتعلّق وجوب بكلّ فرد من أفراد الطّبيعة الطّوليّة والعرضيّة_ ثم بعد ذلك ينهى عن الغصب؛ فليزم القول بالامتناع بناءً على كون الواجب التّخييريّ وجوبات مشروطة. وأمّا اذا كان الوجوب متعلّقًا بالجامع؛ فهنا مجال للقول بالاجتماع الأمر والنهّي.[3]

وأمّا حقيقة الواجب التّخييريّ:

كنّا في بيان تقرير كلام الشّيخ الآخوند: وعنده ليس كلّ تخيير واجبًا تخييريًّا وله ضابطتان إحداهما ثبوتيّة[4] والأخرى إثباتيّة:

الأولى:[5] أنّ في المقام ملاكات متعدّدة غير قابلة للجمع في الاستيفاء من قبيل القصر والتمام؛ حيث يكون لكلّ منهما ملاك ولا يمكن الجمع بينهما في الاستيفاء، لأنّ القصر الّذي يقع مأمورًا به هو الذي لم يسبق بالتمام. فمن عصى من الجاهلين المقصّرين باتيانه التّمام موضع القصر لما صحّ بعدُ أن يتأتّى منه القصر لفوات إمكان استيفاء ملاكها؛ وإلّا لو كانا قابلين للاستيفاء لكانا من قبيل الوجوبات التّعيينيّة الّتي لا يجوز تركها إلى بدل وهذا خلف. والشّيخ الآخوند قد صحّح التّخييريّة على أساس المشروطيّة بحيث يشرط كلّ واحد من الوجوبات بعدم الاتيان بالآخر.

أمّا إذا فرض وجوب أشياء متعدّدة ولكن بملاك واحد لانقلب التّخيير من شرعيّ إلى عقليّ كالتّخيير بين الصّلاة في أوّل الوقت والصّلاة في آخر الوقت. فإنّ الواجب هو شيء واحد ولكن لهذا الواحد مصاديق وأفراد وليس التّخيير بين أمور متباينة. وهذا ما يرجع إلى التّخيير العقليّ دون الشّرعيّ. الصّلاة في أوّل الوقت بحدّها وفي آخر الوقت بحدّها ليست مطلوبة بل هذه وتلك مصداقان للصّلاة الواجبة المأمور بها وهي الطّبيعة ولها ملاك واحد في أيّ فرد وقعت. وهذا يكشف عن كون الأمر قد تعلّق بالجامع وذلك لأنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد. فالبناء هو أنّ الغرض واحد والمطلوب تحقّق هذا الغرض الواحد من أمور متعدّدة، فرعاية للسّنخيّة بين الصّادر ومصدره وجب أن تكون كلّ هذه الأمور ترجع إلى شيء واحد هو الجامع بين الأفراد. فإذا أثّرت النّار والشّمس والغضب والحركة في الحرارة فهذا يعني رجوعها إلى جامع هو المؤثّر، وهذا ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ[6] وإلا لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء.

 إذا أمر الشّارع بأمور مختلفة على هذا النّحو فقد أمر بأمر واحد وهو الجامع بين تلك الأمور وبهذا عيّن مقام الثّبوت وكذا مقام الإثبات.

ويكون التّعدّد فيها صوريًّا؛ وكلّ الصّيد في جوف الفرا.

الثّانية: ظاهر الأمر بأمور مختلفة هو أنّ تلك الأمور بخصوصيّتها قد تعلّق بها الأمر لا من حيث إنّها ترجع إلى شيء واحد مشترك.

 

[1]  البحوث،ج2،ص416:"وهناك أثر عمليّ لاختلاف صياغة الواجب التّخييريّ يظهر في موارد الشّكّ والدّوران بين أن يكون الفعل الواجب تخييريًّا أو تعيينيًّا كما لو شكّ في أنّ صوم شهرين في كفّارة الإفطار عمدًا تخييريّ أو تعيينيّ، فإنّه على فرض أن يكون الوجوب التّخييريّ عبارة عن الوجوب المشروط بعدم العدل الآخر يكون الشّكّ في أصل التّكليف بنحو الشّبهة البدويّة، حيث يشكّ في وجوب الصّيام لو أعتق رقبة مثلًا فيجري الأصل المؤمّن عنه، بينما على افتراض أن يكون الوجوب التّخييريّ بمعنى وجوب الجامع الذّاتيّ الحقيقيّ بين العدلين تكون الشّبهة من موارد الدّوران بين الأقلّ والأكثر، إذ يعلم بتعلّق الوجوب بالجامع ويشكّ في تعلّقه زائدًا على ذلك بخصوصيّة الصّوم؛ فيتوقّف جريان الأصل المؤمّن فيه على أن يقال به في موارد الدّوران بين الأقلّ والأكثر التّحليليّين أي الدّوران بين المطلق والمقيّد.

وعلى افتراض أن يكون الوجوب التّخييريّ بمعنى إيجاب الجامع الانتزاعيّ وهو عنوان أحدهما يدخل المقام في موارد الدّوران بين التّعيين والتّخيير حيث يتشكّل علم إجماليّ بوجوب عنوان الصّوم أو عنوان أحدهما وهما متبائنان مفهومًا فيكون إجراء البراءة عن التّعيين أعني وجوب الصّوم مبنيًّا على القول بعدم معارضته مع البراءة عن الطّرف الآخر للعلم الإجماليّ وهو وجوب أحدهما _كما هو الصّحيح_ باعتبار أنّ مؤونته قطعيّة على كلّ تقدير وإنّما المؤونة والكلفة الزّائدة في طرف وجوب الصّوم فقط".

[2] المباحث،ج3،من القسم الأوّل،ص293:"وتظهر الثّمرة بين هذين التّحليلين للوجوب التّخييريّ في درجة وضوح جريان البراءة وخفائه عند الشّكّ في كونهما تعيينيّين أو تخييريّين؛ إذ بناء على إرجاعه إلى وجوبين مشروطين يكون الشّكّ في التّكليف الزّائد وهو وجوب الصّوم في فرض العمل بالعتق مثلًا وبالعكس فتجري البراءة بلا إشكال. وبناء على إرجاعه إلى وجوب الجامع فقد يشكل جريان البراءة؛ للعلم الإجماليّ بوجوب الصّوم بعنوانه أو عنوان أحد الفعلين، وإن كان الصّحيح انحلال هذا العلم الإجماليّ حكمًا؛ لجريان البراءة عن أشدّهما مؤونة وهو الوجوب التّعيينيّ وعدم جريانها عن أخفّهما مؤونة على ما نقّحناه في محلّه فليست البراءة عن الوجوب التّعيينيّ مبتلاة بالمعارض".

[3]  جاء السّيّد الصّدر هنا بكلام يطابق كلام شيخنا الأستاذ حيث نظّر للتّرخيص الفعليّ والتّرخيص الحيثيّ. راجع عبارته في المباحث،ج3،من القسم الأوّل،ص365:"إنّ الأمر بصرف الوجود لا يعني التّرخيص في كلّ حصّة؛ فإنّ إطلاق المتعلّق ليس معناه إلّا أنّ الطّبيعة بلا قيد هي تمام معروض الأمر، ولازم هذا أنّه من قبل شخص هذا الوجوب لا مانع من تطبيق الجامع على أيّ حصّة من الحصص لا أنّه لا مانع من قبل المولى في ذلك ولو من سائر الجهات. وإن شئت فقل: إنّ التّرخيص في التّطبيق هنا وضعيّ لا تكليفيّ، فهذا البيان فيه خلط بين التّرخيص الوضعيّ والتّكليفيّ".

[4] الكفاية،ج1،ص197.

[5] هذه ضابطة مخدوشة ومدّعاة؛ إذ يمكن أن تكون الملاكات المتعدّدة مولّدة لوجوب واحد لا لوجوبات متعدّدة وكذا يمكن أن يكون الملاك الواحد مولّدًا لوجوبات متعدّدة لا لوجوب واحد. فليست القضيّة براجعة إلى تفريعين حصريّين بحيث إن وجد ملاك واحد بالوجوب واحد وهو متعلّق بالجامع وإن وجدت ملاكات متعدّدة فالوجوبات متعدّدة وهي متعلّقة بالخصال؛ لا البتّة. بل نقول إنّ الملاك الواحد يقتضي جعلًا حافظًا وحاميًا له من الفوات وهذه الحماية من الفوات قد تتأتّى بجعل واحد لوجوب واحد وقد لا تتأتّى إلّا بجعول نفسيّة مختلفة من حيثيّات متعدّدة ترجع كلّها إلى حماية ملاك واحد فارد لم يتعدّد لكنّ الجعول تعدّدت لحمايته؛ والمقنّن العقلائيّ ببابك فانظر واحكم.

وقد يكون في البين ملاكات متعدّدة لكنّها لا تولّد أكثر من وجوب واحد تخييريّ؛ كما إذا علّق المولى وجوبه بأمور متعدّدة على البدل كلّ واحد من تلك الأمور له ملاكه الخاصّ. ستقول فملاكه هذا لا يخلو عن أحد أمرين: إمّا أن يكون تامًّا بحيث يكفي لجعل الوجوب له فيتعيّن كون الوجوب تعيينيًّا وإمّا أن يكون ناقصًا لا يكفي لجعل وجوب مطلق له فيتعيّن كون وجوبه مشروطًا بدليًّا. وسنقول في الجواب: إن كان الملاك تامًّا فلا تعيّن للوجوب التعيينيّ أيضًا؛ إذ قد يتمّ الملاك لكن تغلب مصلحة التّسهيل التّعيين وتدفع باتجاه التّخيير. فهنا ملاك تامّ اقتضى وجوبًا بلا تعيين. والحال أنّه ليس بالضّرورة أيضًا أن يكون هذا الوجوب غير التّعيينيّ وجوبًا مشروطًا ينضمّ إلى سائر الوجوبات المشروطة ليتشكّل منها منضمّة وجوب تخييريّ؛ كيف ذلك؟ على ما قلنا من أنّ الملاكات المتعدّدة قد تولّد وجوبًا واحدًا يتقوّم "بالأوأويّة"، فيقول المولى وجوبي الواحد يتعلّق بمتعلّق هو الصّوم أو العتق أو الإطعام وليس معنى الأوأويّة هنا التّرديد؛ أبدًا البتّة، بل معناها يتحلّل إلى كون متعلّق الوجوب هو الصّوم والعتق والإطعام على التّخيير أي بقيده.

وإن كان الملاك ناقصًا لا تعيّن للوجوب المشروط بل يصحّ أن يجعل وجوبًا يتعلّق بالكلّ على الأوأويّة والتّخيير بحيث لا يكون كلّ من الخصال كافيًا لجعل وجوب له بنفسه لكنّ ضمّ الواحدة إلى الأخرى يسوّغ جعل وجوب تخييريّ على الكلّ بلا تشكّل من وجوبات مشروطة.[المقرّر].

[6] ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ هو خلاف هذا؛ إذ ذهب إلى عدم اقتضاء السّنخيّة لوجود جامع بين الكلّ. راجع نهاية الدّراية،ج1،ص491.

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است