الواجب التخییری (۱۰ جمادي الاولی ۱۴۴۴)

ذهب المحقّق العراقيّ إلى وجوب الاحتياط في موارد الدّوران بين التّعيين والتّخيير لوجود علم إجماليّ. فالمكلّف بأنّه إمّا يجب عليه العتق على فرض التّعيين وإما يجب عليه الإطعام في فرض ترك العتق على فرض التّخيير. وهذا العلم الإجماليّ ليس في الحقيقة إلّا عين العلم الإجماليّ بالدّوران بين التّعيين والتّخيير لا علمًا آخر. والوجوب التّعيينيّ مستلزم لكلفة أعظم على المكلّف فتجري فيه البراءة ولا تجري في الوجوب التّخييريّ بمعنى التّرخيص في الكلّ لأنّه يلزم منه المخالفة القطعيّة وكذا لا تجري بمعنى تعيّن الوجوب التّعيينيّ لأنّه ستستلزم الكلفة الأكبر على المكلّف، فإذا لم تجر البراءة في الوجوب التّخييريّ فلا معارض لجريانها في الوجوب التّعيينيّ، إذ كما هو معلوم منجّزيّة العلم الإجماليّ تقوم على أساس تعارض الأصول في الأطراف. بل نرى أنّ الانحلال الحكميّ يرجع إلى الانحلال الحقيقيّ لأنّه لا علم بالمعصية في هذه الموارد والأصل الجاري يكون بملاك الشّبهة البدويّة.[1]

البيان الرّابع للوجوب التّخييريّ وهو بيان المحقّق الأصفهانيّ:

الواجب التخييريّ هو ما كان فيه عدلان مشتملان على ملاكين ملزمين وهما يستدعيان الجمع لولا مصلحة التّسهيل التي تقتضي التّرخيص في أحد الفعلين. فإذا ترك الكلّ والحال أنّه مرخّص في ترك أحدهما فلا يلزمه إلّا عقاب واحد مع أنّه قد ترك أمرين مشتملين على مصلحة ملزمة ولكنّه مرخّص في ترك أحدهما. والفرق بين كلامه وكلام المحقّق الآخوند والمحقّق العراقيّ هو أنّه عندهما الملاكان متنافيان غير قابلين للجمع فيما عنده لا تنافي بين الملاكين وهما قابلان للجمع لكن في المقام ترخيص، فلو جمع بين الملاكين وقعا صحيحين.[2]

وجواب هذا التوجيه:

أوّلًا: ما ذكره هو في الحقيقة قول بعدم إلزاميّة المصلحتين[3] لأنّه إذا كانت المصلحتان ملزمتان ولم تكن مبتلاة بالمانع فيجب أن يكون الجمع واجبًا والتّسهيل يوجب في الحقيقة ألّا يكون أحد الملاكين ملزمًا، فيكون في المقام ملاكات متعدّدة لكنّها ليست ملزمة جميعًا. وبالتّالي لم يتحقّق الملاكان الملزمان بوصف الإلزام، فلم يأت بشيء جديد.

وثانيًا: قال بهذا للفرار من وجوب الجامع[4] فقال بوجوب الاثنين مع جواز ترك أحدهما. وهنا قال السّيّد الصّدر بأنّ كلام المحقّق الأصفهانيّ تامّ على مبنى المحقّق النّائينيّ بناءً على أنّ الوجوب مستفاد بحكم العقل لأنّه بحسب النائيني الشارع يطلب وكلّ من العدلين مطلوب، غاية الأمر أنّه إذا كان هناك ترخيص فيهما فهما مستحبّان، وإن لم يكن ترخيص أصلًا فهما تعيينيّان، وإن كان ترخيص واحد فهما من التّخييريّ.

لكنّ كلامه غير صحيح؛ لأنّه قد فسّر الوجوب التّخييريّ بوجوب العدلين مع الترخيص في ترك أحدهما فرارًا من أن يقول بوجوب أحدهما على أساس العنوان الانتزاعيّ ولكنّه وقع في الأسوأ حيث قال بأنّ التّرخيص يتعلّق بأحدهما وإذا كان لا بأس بترخيص أحدهما فلا بأس بوجوب أحدهما.[5]

وأشكل السيد الخوئي بخمس إشكالات عليه، أربعة منها ترجع إلى أمر واحد هو أنّ البيان خلاف الظّاهر من وجوه أربعة:

-قال بوجود وجوبين وظاهر الدّليل وجود وجوب واحد؛[6]

-قال بوجود ملاكين ملزمين وظاهر الدّليل أنّ الوجوب الواحد يستدعي ملاكًا واحدًا؛[7]

-قال بوجود ملاكين ملزمين ومصلحة التّسهيل تقتضي التّرخيص في أحدهما وهذا لا دليل عليه؛[8]

-مسقط الوجوب هو إمّا الامتثال وإمّا العصيان وإمّا انتفاء الموضوع فيما الالتزام بسقوط الواجب الآخر بامتثال متعلّق آخر يتوقّف على أن يكون امتثال كلّ من الوجوبات رافعًا لموضوع الوجوبات الأخرى وهذا خلاف ظاهر الدّليل.[9]

ومحصّلها أنّ بيان الأصفهانيّ خلاف ظاهر أدلّة الوجوب التّخييريّ. وهنا إشكال على السّيّد الخوئيّ بأنّه لا يصحّ الإشكال بمخالفة الظاهر، لأنّ المحقّق الأصفهانيّ لم يذهب إلى هذا التّحليل إلّا لأنّه رأى عدم معقوليّة الظّاهر من الدّليل من أنّ الوجوب يتعلّق ب"أحدهما" لاستلزامه لتعلق الأمر بالفرد المردّد، فكلامه مستبطن لتسليمه لخلاف الظّاهر.

وهنا أشكل السّيّد الصّدر على السّيّد الخوئيّ بإشكالين آخرين:[10]

الأوّل: لم يقل المحقّق الأصفهانيّ بأنّ الوجوب التخييريّ هو هذا لا غير بحيث ينحصر في هذا التّصوير، وهناك بعض الموارد الّتي يستفاد منها وجوبين لا وجوب واحد قد تعلّق بأحدهما وهي حيث كان الدّليل على الوجوب التّخييريّ دليلين لا دليلًا واحدًا، فهنا لا ظهور في وجوب أحدهما بل الظّهور هو على وجوبهما. وهذا مردود بأنّ المحقّق الأصفهانيّ بصدد الحصر.

وله إشكال ثانٍ.

وإشكال السّيّد الخوئيّ الخامس هو:[11]

إنّ لازم تحليل الواجب التّخييريّ هذا هو تعدّد العقاب وهو لا يجتمع مع ما نعرفه من خصائص الوجوب التّخييريّ. فهنا مصلحتان إلزاميّتان ورخّصت مصلحة التّسهيل في ترك أحدهما على تقدير فعل أحدهما، أي جواز ترك بعضها في بعض الحالات أي حال فعل الآخر، أمّا حال عدم الاتيان بأحدهما لا ترخيص بأحدهما لأنّه غير مستحقّ لهذه المنّة.

وهنا أشكل السّيّد الصّدر على السّيّد الخوئيّ: بأنّ نحو ترخيص الشّارع في التّرك يختلف على وجوه أربعة وعلى بعضها يلزم وحدة العقاب وعلى بعضها يلزم تعدّد العقاب: فإذا تقيّد التّرخيص بفعل الآخر فعقابان والحقّ مع السّيّد الخوئيّ لكن إذا لم يقيّد وكانت مصلحة التّسهيل مطلقة فهنا عقاب واحد وهذا هو مقصود المحقّق الأصفهانيّ فلا يرد عليه الإشكال.[12]

 

 

[1] راجع المباحث،ج4 من القسم الثّاني،ص361-362. فإنّ فيه غنيمة عظيمة. [المقرّر].

[2]  نهاية الدّراية،ج1،ص494:"نعم يمكن أن يفرض غرضان لكلّ منهما اقتضاء إيجاب محصّله إلّا أنّ مصلحة الإرفاق والتّسهيل يقتضي التّرخيص في ترك أحدهما فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه ويرخّص في ترك كلّ منهما إلى بدل فيكون الإيجاب التّخييريّ شرعيًّا محضًا من دون لزوم الإرجاع إلى الجامع فتدبّر جيّدًا".

[3] هذا الإشكال غير وارد؛ فالمحقّق الأصفهانيّ قال بكون كلّ ملاك ملزم في حدّ نفسه لا بالنّظر إليه وإلى ما احتفّ به من مصالح توجب كسرًا وانكسارًا وترخيصًا. ففي المقام ثلاثة اقتضاء اثنان منهما إلزاميّان وثالث هو اقتضاء التّسهيل والإرفاق وبضمّها معًا يتأتّى منها قول بالوجوب مع التّرخيص في أحدهما. [المقرّر].

[4]  الحدّ الأوسط في ردّ مقالة الشّيخ الآخوند من وجود ملاكين متنافيين ليس استحالة التّعلّق بالجامع بين أحدهما وإن كان هو ينكر تعلّق الوجوب به، بل الحدّ الأوسط هنا هو خروج التّصوير عن فرض التّخيير الشّرعيّ وكونه تخييرًا عقليًّا لأنّ التّنافي بين الملاكين يوجب دخول المورد في التّزاحم والقانون فيها هو التّخيير عقلًا لا مولويًّا وشرعًا، فلكيلا يخرج عن فرض التّخيير الشّرعيّ إلى التّخيير العقليّ قال بعدم صحّة كون الملاكين متزاحمين بل هما متعدّدان من دون تقابل وتزاحم، وعدم طلب الجمع بينهما هو لأجل ما احتفّ بمقامهما من مصلحة تسهيل وإرفاق. [المقرّر]. نهاية الدّراية،ج1،ص491:"ولو فرض عدم حصولهما إلّا تدريجًا لعدم إمكان اجتماعهما في زمان واحد كانا كالمتزاحمين، فإنّ التّزاحم قد يكون في الأمر وقد يكون في ملاكه، كما أنّ التّخيير في المتزاحمين من حيث الأمر تخيير عقليّ لا مولويّ كذا التّخيير هنا".

[5]  لم يقل المحقّق الأصفهانيّ بتعلّق التّرخيص بأحدهما بل قال بأنّ وجوب كلّ منهما يصير مقيّدًا بجواز تركه إلى بدل وصرّح بعدم وجود جامع لا للوجوب ولا للتّرخيص رأسًا؛ أنظر عبارته رحمه الله. [المقرّر].

[6]  المحاضرات،ج3،ص210:"أوّلًا: أنّه مخالف لظاهر الدّليل حيث إنّ ظاهر العطف فيه بكلمة "أو" هو وجوب أحدهما أو أحدها لا وجوب الجميع كما هو واضح".

[7] المصدر نفسه:"وثانيًا:أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في شيء ما عدا تعلّق الأمر به، وحيث إنّ الأمر فيما نحن تعلّق بأحد الطّرفين أو الأطراف فلا محالة لا نستكشف إلّا قيام الغرض به، فإذن لا طريق لنا إلى كشف تعدّد الملاك أصلًا، فيحتاج الحكم بتعدّده وقيامه بكلّ منها إلى دعوى علم الغيب". أوّل الكلام أنّ الأمر قد تعلّق بأحد الطّرفين أو الأطراف، والصّحيح أنّ الامتثال يحصل بأحد الطّرفين أو الأطراف، وهذا شيء وذاك شيء آخر. فكما لا نعلم الوحدة بحدّها كذا لا نعلم التّعدّد، نعم القدر المتيقّن وجود غرض واحد ووجوب واحد لكن لا تعيين لذلك؛ أمّا الإشكال بعدم كشف الملاك المتعدّد فيردّ عليه بما جاء في التّعليقة اللّاحقة.[المقرّر].

[8] المصدر نفسه:"وثالثًا أنّه لا طريق لنا إلى مصلحة التّسهيل والإرفاق على حدّ توجب جواز ترك الواجب، وعلى فرض تسليم أنّها تكون بهذا الحدّ فهي عندئذٍ تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع، ضرورة أنّ مصلحة ما عدا واحدًا منها مزاحمة بتلك المصلحة، أعني مصلحة التّسهيل والإرفاق، ومن الواضح جدًّا أنّ المصلحة المزاحمة بمصلحة أخرى لا تدعو إلى جعل حكم شرعيّ أصلًا وغير قابلة لأن تكون منشأ له فإذن إيجاب الجميع بلا مقتضٍ". وهذا مردود؛ فمصلحة التّرخيص تارة تغلب مصلحة الإلزام فعليّتها فلا يتأتّى منها وجوب وأخرى توجب تقييدًا في الوجوب وإضافة تسهيليّة مفادها جواز تركه إلى بدل، فلم تقع المزاحمة التّامّة ليكون اقتضاء الإلزام معطّلًا ولا ارتفعت المزاحمة رأسًا، بل هنا مزاحمة ناقصة. [المقرّر].

ثمّ لا يقال: من أين لك طريق إلى مصلحة التّسهيل؛ إذ البحث في تحليل الوجوب التّخييريّ المتأتّي من الأدلّة وكيفيّة تفسيره مع كون خصائصه وآثاره معلومة مسلّمة، لا أنّه بصدد تشييد وجوب إن تمّ رتّب آثارًا غير ثابتة إلّا من جهة هذا التّفسير. [المقرّر].

[9]  المصدر نفسه:"ثمّ إنّه على فرض إيجاب الجميع وعدم كون مصلحة التّسهيل والإرفاق مانعة منه فلا موجب لسقوط وجوب بعضها بفعل الآخر، ضرورة أنّه بلا مقتضٍ وسبب، فإنّ سقوط وجوب الواجب بأحد أمور لا رابع لها. الأوّل: امتثاله والاتيان بمتعلّقه خارجًا الموجب لحصول غرضه فإنّه مسقط له لا محالة. الثّاني: العجز عن امتثاله وعدم القدرة على الاتيان بمتعلّقه في الخارج سواء أكان من ناحية العصيان أو غيره. الثّالث: النّسخ والمفروض أنّ الاتيان بالواجب الآخر ليس شيئًا من هذه الأمور. ودعوى أنّه إذا فرض أنّ وجوب كلّ منها مشروط بعدم الاتيان بالآخر فلا محالة يكون اتيانه مسقطًا له مدفوعة بأنّ الأمر وإن كان كذلك على فرض ثبوت تلك الدّعوى إلّا أنّها غير ثابتة". والصّحيح أنّ البحث ليس في وقوع مثل هذا النّحو من الوجوب التّخييريّ بل هو في أصل إمكان وقوعه، فإن ثبت عدم المحذور ثبوتًا انتقل الكلام إلى الإثبات للبحث في الأدلّة والنّظر فيما يمكن حمله على هذا التّفسير وهو موجود كما أشار إليه السّيّد الشّهيد.[المقرّر].

[10]  المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص288:"إذ بعد تسليم انحصار تفسير كلام المحقّق الأصفهانيّ ره بالواجبين المشروطين لعدم تصوّر سقوط أحدهما بفعل الآخر بغير هذا الشّكل نقول لو فرض في المقام وجوبان فهما مشروطان حتمًا بداهة عدم وجوب الجمع بين الفعليّة وكفاية أحدهما بحسب الفرض فيبقى الكلام في أنّ فرض الوجوبين خلاف الظّاهر وهذا هو الإيراد الأوّل...وقد عرفت جوابه".

[11] المحاضرات،ج3،ص211:"ورابعًا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مصلحة التّسهيل والإرفاق إلزاميّة وسلّمنا أيضًا أنّها لا تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع وإنّما توجب جواز ترك الواجب إلى بدل، الّذي يكون مردّه إلى تقييد وجوب كلّ منها بعدم الاتيان بالآخر ولكن لازم ذلك هو الالتزام في صورة المخالفة وعدم الاتيان بشيء منها باستحقاق العقاب على ترك كلّ منها ضرورة أنّه لا يجوز ترك الواجب بدون الاتيان ببدله، وإنّما يجوز التّرك إلى بدل لا مطلقًا، فإذا فرض أنّ المكلّف ترك الصّوم بلا بدل وترك العتق والإطعام كذلك، فلا محالة يستحقّ العقاب على ترك كلّ منها".

[12]  المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص289:"وهذا الإشكال إشكال فنّيّ قابل للبحث والنّقاش فنقول: إنّ التّرخيص في التّرك المفروض في المقام يمكن تصويره بإحدى صور أربع:

  1. التّرخيص المطلق في حصّة خاصّة من ترك كلّ واحد منهما وهي التّرك المقترن بفعل الآخر...
  2. التّرخيص المشروط في ترك كلّ واحد منهما...
  3. التّرخيص في ترك أحدهما...إلّا أنّ الانتباه إلى هذا الوجه يعني الانتباه إلى إمكان جعل الحكم على عنوان انتزاعيّ هو عنوان أحدهما، ومعه قد يختصر الطّريق ويفرض رأسًا أنّ الوجوب ثابت على عنوان أحدهما بلا حاجة إلى فرض وجوبين مع ترخيص ثابت على عنوان أحدهما وهذا رجوع إلى النّظريّة الخامسة.
  4. التّرخيص في ترك المجموع وهذا لا يلزم منه الانتباه إلى إمكان ثبوت الحكم على عنوان أحدهما وفي نفس الوقت لا يوجب تعدّد العقاب فإنّ ترك الجميع يزيد على ترك المجموع المرخّص فيه بترك واحد فيوجب عقابًا واحدًا".

برچسب ها: الواجب التخييري

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است