الواجب الكفايي (۸ جمادي الثانیة ۱۴۴۴)

قرّرنا تصوير الواجب الكفائي على أساس الوجوب المشروط على وزان ما قُرّر الواجب التّخييريّ على أساسه مع فارق كون الأوّل مشروطًا بعدم فعل الآخرين فيما الأوّل مشروط بعدم فعل المكلّف نفسه.

ذكرنا إشكالين بيّنّا الأوّل، والكلام في الإشكال الثّاني[1] الّذي يرى السّيّد الصّدر أنّه لا مناص عن القبول به، ومفاده أنّه في فرض اتيان أكثر من مكلّف بالواجب سوف لن يتحقّق الامتثال، لأنّ الوجوب مشروط بأن لا يأتي به الآخر، فعلى تقدير فعل الآخر سوف لن يكون هناك وجوب، وبالتّالي لن يكون هناك امتثال، لأنّ جميع شروط الوجوب ترجع الى الواجب. وهذا مما لا يمكن القبول به والالتزام بأنّ الوجوب مشروط بعدم فعل الآخرين مساوق للقول بأنّ الامتثال لا يتحقّق.

يقول هذا الإشكال وارد وقد يقال بدفعه بأحد وجوه ثلاثة لكن لا شيء منها بتامّ:[2]

الوجه الأوّل:[3] بأن يقال بأنّ الأفعال المتعدّدة من المكلّفين المتعدّدين هي من قبيل الفعل المتعدّد من مكلّف واحد فيصحّ أن تكون امتثالًا، كما في الوجوب التّخييريّ إذا جاء المكلّف دفعة واحدة بخصلتين فيتحقّق بهما الامتثال معًا في عرض واحد، ويكون مجموع الفعلين امتثالًا، وهذا قد كان مرّ صحّته. وما نحن فيه هو من هذا القبيل بحيث يكون المكلّفون المتعدّدون بمجموع أفعالهم قد امتثلوا. لكنّ هذا ليس بمعقول؛ إذ إنّما يتعقّل هذا التّصوير في المكلّف الواحد لأنّ كلا الفعلين راجعان إلى مكلّف واحد ولا يتعقّل فيما نحن فيه أن يتحقّق امتثال المكلّف بفعل الآخر ليصيرا كمكلّف واحد ويأخذان حكمه.

الوجه الثّاني:[4] بالقول بأنّ الشرّط هو عدم سبق فعل الآخرين لا عدم فعل الآخر مطلقًا، فحيث لم يسبق تأتّى من المكلّف الامتثال. وهذا غير معقول أيضًا بحسب السّيّد الصّدر، لأنّه يستلزم لازمًا لا ينسجم مع خصائص الواجب الكفائيّ فلو كان الواجب الكفائيّ موقّتًا وأخّر المكلّفون الامتثال إلى آخر الوقت لوجب عليهم الاتيان به جميعًا ولما صحّ الاتّكال على الآخر لأنّه على الجميع وجوبات عينيّة مشروطة قد تحقّق شرطها، لأنّ عدم سبق فعل الآخرين صادق في حقّ الجميع، في حين أنّ المكلّف يعرف بأنّ الآخر سيأتي به أو هو بصدد الاتيان بالواجب. وهذا خلف الواجب الكفائيّ حيث يجوز تركه إذا فعله الآخر وكان بصدد فعله. فلا يمكن التّحفّظ على خصائص الواجب الكفائي من حيث جواز الاكتفاء بفعل أحد المكلّفين على هذا التّصوير.

الوجه الثّالث:[5] بالقول بأنّ الشّرط هو أن لا يقوم الآخر بامتثاله وحده أمّا إذا أتى بالفعل المكلّفون معًا فيتحقّق الامتثال منهم جميعًا لأنّ شرط الوجوب متحقّق وهو عدم الاتيان به من مكلّف منفردًا. لكن يتأتّى محال آخر وهو تحصيل الحاصل؛ فالوجوب لا يكون فعليًّا حتّى يقدم المكلّف الثّاني على الاتيان في عرض المكلّف الأوّل وإلّا إن ترك الاتيان به كان ساقطًا عنه، فباتيانه وجب عليه لكن من حيث إنّه قد امتثل وهذا يعني أنّ الوجوب قد تعلّق على الامتثال وما معنى أن تقف فعليّة الوجوب على امتثاله إلّا أن يكون الوجوب بعد الامتثال داعيًا إلى ما قد حُصّل وانتهى.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ عن هذه التّشقيقات بأنّه لا محذور فيها؛ بيانه:

أمّا على الوجه الأوّل حيث يكون الفعل المتعدّد من المكلّفين المتعدّدين من قبيل الفعل الواحد والامتثال الواحد على وزان ما مرّ في الوجوب التّخييريّ، فنقول: إنّ الواجب على المكلّف المتعدّد هو صرف الوجود بشرط عدم فعل الآخر. وصرف الوجود في الوجوب التّخييريّ هو مجموع الخصال وصرف الوجود في الوجوب الكفائيّ هو الفعل الأوّل للطّبيعة والاتيان بها أوّلًا، وهو في الفرض مجموع أفعال المكلّفين إذا أتوا به مقارنة في عرض واحد، وهذا من قبيل التّصدّق بصدقتين كما لو فعل ذلك المكلّف ووكيله في آن واحد. وفي الحقيقة ما كان طُبّق في الوجوب التّخييريّ يطبّق هنا أيضًا بلا فرق مع الالتفات إلى كون المطلوب صرف الوجود.

وأمّا على الوجه الثّالث حيث يكون الشّرط هو عدم اتيان المكلّف بالفعل منفردًا، فكذا لا إشكال هنا، ببيان: إنّه إذا كان الواجب على الجميع هو صرف الوجود وهو الجامع بين فعل المكلّف وفعل الآخر، فحيث توفّر الشّرط كان على الجميع الاتيان بصرف الوجود هذا، وإن أتوا به جميعًا في عرض واحد كان ما أتوا به مصداقًا لصرف الوجود المطلوب ولا يلزم أن يقال إنّه يجب على الجميع بل يجب الاتيان بصرف الوجود سواء جاء به أحد أو جاء به الجميع في عرض واحد، وعليه فإذا علم المكلّف أنّ الآخر بصدد فعل الواجب أو أنّه سيأتي به لم يكن واجبًا عليه الاتيان به وتحفّظنا على خاصّيّة الواجب الكفائيّ بلا حزازة.

فتصوير الواجب الكفائي على أساس الواجب المشروط لا إشكال فيه.

لكن هنا نكتة هي أنّ الفعل إذا تحقق دفعة واحدة كان الكلّ آتيًا بامتثال واحد، في حين أنّ ما قاله الشّيخ الآخوند هو أنّ كل فعل هو بنفسه امتثال نظير توارد العلل المتعددة على معلول واحد. ففي المقام تصويران: أن يكون امتثال الكلّ امتثالًا واحدًا وأن يكون امتثال كلّ واحد منهم امتثالًا على حدى كما يظهر من الشّيخ الآخوند.

وهذا التحليل لا إشكال ثبوتيّ فيه؛ لكن يمكن أن يكون هناك إشكال إثباتي هو مخالفة المشروطيّة للظّاهر من أنّ الوجوب فعليّ مطلق غير مشروط. وهو ما يقال في كلمات القوم من أنّ فعل الآخر مسقط للوجوب لا أنّه نافٍ لشرط الوجوب على الآخر. وهكذا المسألة في وجوب التّفقّه بحيث يقال ظاهر الدّليل أنّه بتفقّه نفر يسقط الوجوب عن البقيّة لا أنّه يكشف عن أنّه من أوّل الوقت لم يكن الآخرون مكلّفين رأسًا بوجوب التّفقّه.

ونظيره أنّ فعل المصداق من الطّبيعة لا يكشف عن أنّ الواجب من الأوّل هو هذه الحصّة الخاصّة دون غيرها بل هذه بنفسها ليست الواجب بل هي مصداق له.

هذا كلّه في تصوير الوجوب الكفائيّ على أساس الوجوب المشرط بشرط متأخّر، أمّا تصويره مشروطًا بشرط مقارن فليس فيه إشكال رأسًا.

التّصوير الثّالث[6] هو ما طرحه السّيّد الخوئيّ قياسًا على الواجب التّخييريّ بحيث هناك يقال بوجوب إحدى الخصال على نحو الجامع الانتزاعيّ المنطبق على كلّ واحد من الخصال فيما هنا يقال بكون الوجوب على أحد المكلّفين ويكون الجامع الانتزاعيّ منطبقًا على كلّ واحد من المكلّفين. وكما هناك يسقط الوجوب بالاتيان بخصلة من الخصال فهنا يسقط الوجوب باتيان أحد المكلّفين بالمأمور به.

وتنطبق على هذا التّصوير تبعات وآثار الواجب الكفائيّ.

 

 

[1] البحوث،ج2،ص425:"الثّاني: إنّه في فرض اتيان أكثر من مكلّف بالواجب يلزم أن لا يكون هناك امتثال أصلًا إذ الشّرط هو عدم اتيان الآخر وقد أتى بحسب الفرض".

[2] المصدر نفسه:"وهذا الاعتراض لا محيص عنه ولا يمكن دفعه".

[3] المصدر نفسه:"لا بافتراض مجموع الفعلين طرفًا ثالثًا للواجب كما تصوّرناه في الواجب التّخييريّ لأنّه إنّما يعقل في مجموع فعلين يصدران من مكلّف واحد لا ما إذا كان كلّ فعل صادرًا من مكلّف غير المكلّف الّذي صدر منه الفعل الآخر".

[4] المصدر نفسه:"ولا بافتراض أنّ الشّرط هو عدم اتيان الآخر بالفعل قبله فاتيانه بالفعل مقارنًا لا يكون مسقطًا فإنّ هذا معناه أنّه في آخر الوقت يجب عليهم جميعًا اتيان الفعل وأنّه لو علم بأنّ الآخر يأتي به في هذا الوقت لا يكون ذلك مسقطًا وهو خلف خصائص هذا الوجوب كما تقدّم".

[5] المصدر نفسه:"ولا بافتراض أنّ الشّرط هو عدم اتيان الآخر بالفعل وحده ففي صورة اتيانهما معًا شرط الوجوب فعليّ، فإنّ هذا معناه إطلاق الوجوب لصورة ما إذا كان الآخر قد جاء بالواجب ولكن لا مطلقًا بل عى تقدير أن يأتي الأوّل أيضًا كي لا يكون وحده وهذا الإطلاق تحصيل للحاصل".

[6] الدّراسات،ج2،ص78:"وحيث إنّ المكلّف في الأوّل هو طبيعيّ الإنسان البالغ العاقل  الواجد لشرائط التّكليف فإذا عصى جميع الأفراد ولم يأت بالواجب أحد منهم يكون كلّهم معاقبين، لأنّ جميعهم كانوا مصداقًا للطّبيعيّ وكان الطّبيعيّ منطبقًا عل كلّ واحد منهم، كما أنّهم لو امتثلوا جميعًا دفعة واحدة كلّهم يثابون، وإذا أتى بالواجب بعضهم دون بعض يثاب الممتثل لا بما أنّه شخص بل بما أنّه مصداق لطبيعيّ المكلّف الممتثل للأمر، ولا يثاب غيره من أفراد الطّبيعيّ لعدم وجود المقتضي للثّواب فيهم وهذا كلّه واضح".

برچسب ها: الواجب الكفايي

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است