تبعيّة القضاء للأداء (۱ رجب ۱۴۴۴)

الكلام في تبعيّة القضاء للأداء بحيث هل الدّليل الدّال على وجوب الواجب الموقّت يدلّ بنفسه على وجوب الاتيان به في خارج الوقت إن لم يؤت به في الوقت؟ وعلى فرض عدم وجود مثل هذه الدّلالة فما هو مقتضى الأصل العمليّ؟ فهاتان مرحلتان أولاهما بحث في دلالة الدّليل الاجتهاديّ والثّانية في الأصل العمليّ وقد تعرّضنا في الدّورة السّابقة لمرحلة ثالثة وهي ما إذا دلّ دليل خاصّ على الوجوب بعد الوقت مثل دليل "إقض ما فات"، فهل هذا يكون ذلك منشأ للقول بأنّ الواجب من أوّل  الأمر لم يكن موقّتًا أم أنّه كان كذلك ونحن أمام واجبين اثنين مختلفين؟ وتظهر ثمرته في جواز التّأخير كما سنلفت إن شاء الله.

المرحلة الأولى هي البحث في مقتضى الدّليل الاجتهاديّ، فهل يجب الاتيان بالواجب خارج الوقت إن لم يؤت به في الوقت بدلالة الدليل نفسه أم أنّه لا يدلّ بحيث سكت عنه؟

ذهب الشّيخ الآخوند إلى عدم التّبعيّة سواء كان دليل التّوقيت متّصلًا أم منفصلًا، أي سواء وفى دليل الوجوب نفسه بقيد التّوقيت أم جاء التّوقيت بدليل آخر منفصل بحيث لم يكن الوجوب من أوّل الأمر مقيّدًا بالوقت؛ فالدّليل الدّالّ على الوجوب قاصر عن إثبات وجوب الاتيان بالواجب خارج الوقت. واستثنى من ذلك الشّيخ الآخوند حالة وهي:"نعم لو كان التّوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التّقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق لكان قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وكون التّقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله". وقد وجّهها السّيّد الخوئيّ على نحو ويبدو أنّ السّيّد الصّدر وجّهها على نحو آخر كما سنشير.

صوّر السّيّد الصّدر أربع صور ثبوتًا:

1.إذا دلّ الدّليل على وجوب واجب ودلّ دليل آخر على واجب آخر هو حصّة من الأوّل؛ مثل وجوب أداء الأمانات إلى أهلها بلا فوريّة ويأتي دليل آخر يقول يجب أداء الأمانة فورًا وهو تكليف مستقلّ عن الآخر بحيث لا يتقيّد الأوّل بالثّاني ويمكن عصيان الثّاني من دون عصيان الآوّل بحيث تؤدّى الأمانة بعد انقضاء الفور. وبناء على ما صوّر سابقًا هذان واجبان مستقلّان بحيث يكون أحدهما مرتبطًا بالآخر وهو وجوب الفوريّة والآخر غير مرتبط إذ أداء الدّين من حيث هو لا يرتبط بالفوريّة وعدمها. وهذا نظير وجوب الصّلاة بلا قنوت والأمر بالصّلاة بقنوت، فيمكن إطاعة الثّاني فيطاع الأوّل، لكن الأمر الثّاني يفيد الارتباط، فهنا ارتباطيّة لكنّها من طرف واحد أي من طرف القنوت، إذ لا قنوت بلا صلاة ولكن تصحّ الصّلاة بلا قنوت. وتارة أخرى تكون الارتباطيّة طرفينيّة أي من الطّرفين، وذلك مثل السّجود، فلا السّجود يتحقّق بلا صلاة ولا الصّلاة تتحقّق بلا سجود.

والفرق بين الواجب في واجب وبين الارتباطيّة يظهر بملاحظة مثال ردّ التّحيّة في الصّلاة وهو ذو شروط، فإن أدّاه في الصّلاة لم يكن مرتبطًا بالصّلاة بل كان ظرفه الصّلاة، ففرق بين كون ظرف الواجب الصّلاة وبين كون الواجب متقوّمًا بهذا المحلّ أي الصّلاة، كالقنوت الّذي يتقوّم بالصّلاة وليست الصّلاة مجرّد ظرف له كما في ردّ التّحيّة.

ومثاله أيضًا: أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة، فلا نحمل هنا المطلق على المقيّد، لأنّه إنّما يحمل حيث يكون هناك تكليف واحد ويكون التّكليف المقيّد ناظرًا إلى التّكليف المطلق، أمّا حيث يكون هناك تكليفان كما أكرم النّاس وأكرم المؤمن فلا موجب لحمل النّاس على خصوص المؤمنين، فهنا بحسب الظّاهر غرضان.

هذه الصّورة الأولى[1] وهي ليست ممّا نحن فيه.

2.[2]إذا جاء دليل يدلّ على وجوب واجب ثمّ يأتي دليل آخر يدلّ على تقييد الواجب الأوّل فيكون مقيِّدًا وحاكمًا على الدّليل الأوّل. وليس الواجب الثّاني واجب آخر مستقلّ عن الأوّل ولا علاقة له به بحيث يبيّن حصّة من الواجب كما في الصّورة الأولى، بل هنا تقييد ونظر إلى الواجب الجائي بالدّليل الأوّل. لكن لا يريد أن يقول كلّ مراتب الواجب مقيّدة بل يقول الواجب الأوّل له حصّة ومرتبة هي الأعلى. فكأن الدليل الأوّل له إطلاق يسري فيه الوجوب إلى جميع المراتب يجيء دليل التّقييد _لا دليل الواجب المقيّد_ ويقول ذاك الواجب يتعيّن منه مرتبة هي الأكمل والأتمّ والأوفى بالغرض، بحيث لو لم يكن دليل التّوقيت هذا المختصّ بهذه المرتبة لكانت كسائر المراتب مشمولة بالوجوب مطلقًا في الوقت وخارج الوقت. وهذا القسم الثّاني معقول وهو ما يبدو أنّ السّيّد الصّدر قد نسبه إلى الشيخ الآخوند كما يُفهم.

ومثاله دليل صلاة الآيات ودليل آخر جاء فيه قيد وقت الانجلاء؛ وهذا يعني أنّ الدّليل الأوّل يتكفّل ببيان المراتب والدّليل الثّاني يتكفّل ببيان المرتبة الأكمل.

3.[3]إذا جاء دليل يقول بوجوب واجب على نحو مطلق ثمّ يأتي دليل آخر يدلّ على التّقييد، فيقول تجب الصّلاة على خصوص المتمكّنين في الوقت. وهنا التّوقيت هل هو قيد للمتمكّن أم هو قيد حال التّمكّن؟ ذهب السّيّد الخوئيّ إلى الأوّل وذهب السّيّد الصّدر إلى الثّاني. والفرق يكون من جهة وجوب القضاء.

السيد الخوئي يقول تجب الصّلاة على المتمكّن دون العاجز في الوقت أمّا من لم يتمكّن فلا يجب لا الأداء ولا القضاء، فيما لا يرى السّيّد الصّدر الدّليل الدّالّ على التّوقيت مقيّدًا بالمتمكّن بل هو بصدد بيان قيد للواجب حال التّمكّن بحيث إن لم يتحقّق التّمكّن من القيد فلا تقييد، وهذا يعني سقوط قيد التّوقيت في حقّ العاجز عنه. وينحلّ المقام في الحقيقة إلى أمرين اثنين أحدهما صادر بحقّ القادر على المقيّد والآخر صادر في حقّ العاجز الّذي لم يأت بالمقيّد، فإن عصى وجب عليه الاتيان بالواجب بعد الوقت لأنّ الدّليل يدلّ على التّوقيت ما دام التّمكّن.

4.[4] إذا جاء دليل دلّ على الوجوب وهو مطلق وكان دليل التّوقيت مطلقًا أيضًا أي سواء من جهة المتمكّن أو حال التّمكّن، فهو غير قابل للتّدارك.

القسم الأوّل والرّابع خارجان عن محلّ الكلام، والكلام في القسم الثّاني والثّالث.

السّيّد الصّدر فهم من السّيّد الخوئيّ القسم الثّالث من هذه الأقسام، في حين أنّ ما ذهب إليه السّيّد الخوئيّ هو قسم خامس غير هذه الأقسام الأربعة.

 

 

[1] البحوث،ج2،ص431:"الصّورة الأولى: ما إذا افترضنا دلالة الدّليل على وجوب فعل مطلقًا وجاء دليل ثانٍ يدلّ على وجوب آخر مستقلّ متعلّق إمّا بتقييد نفس الواجب الأوّل بوقت خاصّ أو متعلّق بالحصّة الخاصّة من ذلك الجامع أي الواقع منه في ذلك الوقت المعيّن بناءً على ما تقدّم في مباحث الإجزاء من معقوليّة تعدّد الأمر بنحو يتعلّق أحدهما بالجامع والآخر بحصّة منه.

وبناءً على هذا لا إشكال في وجوب الاتيان بالفعل خارج الوقت بنفس الخطاب الأوّل لأنّ فوات الوقت غاية ما يقتضيه هو فوات التّكليف الثّاني وأمّا التّكليف الأوّل المتعلّق بذات الفعل فهو باقٍ على حاله".

[2] المصدر نفسه:"الصّورة الثّانية: أن نفترض دليل التّوقيت لم يجئ بلسان الأمر بالتّقييد أو بالمقيّد بل بلسان تقييد الأمر في الدّليل الأوّل الدّالّ على أصل الواجب إلّا أنّه لا يقيّد أصل الوجوب فيه وإنّما يقيّد المرتبة المؤكّدة من ذلك الوجوب مع بقاء أصله غير مقيّد بالوقت وهذا يعني أنّ هناك وجوبين في داخل الوقت ولو بنحو التّأكّد ثابتين بنفس الدّليل الأوّل _وبهذا تفترق هذه الصّورة عن سابقتها_ ويكون أحدهما مقيّدًا دون الآخر ولا إشكال في هذه الصّورة أيضًا من حيث بقاء الأمر بذات الفعل خارج الوقت بنفس دليل الواجب".

[3] المصدر نفسه:"الصّورة الثّالثة:أن يكون دليل التّوقيت مقيّدًا للأمر الأوّل بتمام مراتبه إلّا أنّه لا يقيّده مطلقًا بل في فرض إمكان الاتيان بالقيد فكأنّ الوقت فيه قيد غير ركنيّ يتقيّد به الواجب مع القدرة وأمّا مع العجز فلا تقييد به وهذا يعني تعدّد الأمر أيضًا وأنّ هناك أمرًا بالمقيّد في حقّ القادر عليه وأمرًا آخر بذات الفعل في حقّ الّذي لم يأت بالمقيّد لأنّه مقتضى إطلاق الدّليل الأوّل لحال عدم الاتيان بالمقيّد مع عدم التّمكّن منه لأنّ دليل التّقييد لم يقيّد حالة عدم التّمكّن. وبناء عليه أيضًا يثبت القضاء بنفس الدّليل الأوّل".

[4] المصدر نفسه:"الصّورة الرّابعة:أن يكون دليل التّوقيت مقيّدًا لدليل الواجب بتمام مراتبه وفي تمام الحالات فيكون الوقت قيدًا ركنيًّا وهذا يعني أنّ هناك وجوبًا واحدًا بالمقيّد أفيد بمجموع الدّليلين وفي مثله لو فرض انتهاء الوقت فلا يمكن أن نثبت القضاء بالأمر الأوّل كما هو واضح".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است