امتثال النهي بترك جميع أفراده (۲۳ رجب ۱۴۴۴)

الكلام في الاكتفاء في امتثال الأمر بالفرد الواحد المحقّق للطّبيعة (بل لا يجوز الاتيان بفرد آخر لأنّه من الامتثال بعد الامتثال)، فيما لا يمتثل النّهي إلّا بترك جميع الأفراد ليتحقّق ترك الطّبيعة. علّل الشّيخ الآخوند ذلك بحكم العقل، فالطّبيعة توجد بالفرد الواحد وتعدم بترك الكلّ لا بترك الفرد الواحد. وقلنا إنّ المحقّق الأصفهانيّ قد أشكل عليه بأنّ هذا الكلام لا أصل له، فما بين الأمر والنّهي تقابل من باب التّناقض، إذ أحدهما طلب الفعل والآخر طلب التّرك. فكأنّ ما قاله الشّيخ الآخوند يبتني على كون الكلّيّ الطّبيعيّ كالأب الواحد إلى الأبناء مع أنّ نسبته من نسبة الآباء إلى الأبناء. فلا بدّ من مقايسة كلّ وجود لكلّ حصّة مع عدم تلك الحصّة خاصّة.

ويقول[1] إنّ الوجود تارةً يقاس بنحو الوجود المهمل، وأخرى بلحاظ الماهيّة بنحو الكثرة، وثالثة بنحو السّعة، ورابعة بنحو ناقض العدم الأزليّ.

أمّا القسم الأوّل: فيقصر النّظر فيه على الماهيّة ومقوّماتها ولا يلحظ شيء آخر ليدرس فيها الإطلاق والتّقييد. والوجود المضاف إلى الطّبيعة المهملة يقابله عدمه، لا عدمه وعدم أفراد أخر. ونتيجة هذا الإهمال وعدم الإطلاق هو الجزئيّة أي إنّها بقوّة الجزئيّة، فالعدم المقابل هو عدم الجزئيّ، إذ الوجود المهمل يقابله العدم المهمل لا العدم المطلق ومعنى العدم المهمل هو عدم الجزئيّ.

وأمّا القسم الثّاني: فينظر إلى كلّ فرد من الأفراد على نحو الكثرة والانحلال، بحيث يكون لكلّ واحد منها وجود خاصّ كحرمة الكذب، فحرمة الكذب بنحو الكثرة أي إنّ كلّ كذب حرام. الوجود بنحو الكثرة فلا بدّ أن يكون العدم بنحو الكثرة والانحلال أيضًا.

وأمّا القسم الثّالث: فالوجود السّعيّ وهو بمعنى أن يلحظ الوجود بنحو لا يشذّ عنه وجود مثل إمساكات الصّائم في نهار الصّوم، فلا يشذّ إمساك عن المطلوب، أي المطلوب هو مجموع الإمساكات ويقابله عدم الإمساك، فكلّ عدم إمساك حرام. (هذا لا علاقة له بالجهة الرّابعة الآتية من شمول النّهي لما بعد العصيان). ونقيض الوجود السّعيّ هو عدم الوجود السّعيّ. فما معنى أن تقول الوجود بنحو الكثرة فيما العدم بنحو عدم الوجود السّعيّ فكما أنّ كلّ وجود ناقض عدم نفسه فكذا العدم ناقض لوجود نفسه. ويعبّر عن هذا القسم بالوحدة في الكثرة.

وأمّا القسم الرّابع:

إن قلت: الحقّ مع الشّيخ الآخوند لأنّنا نضيف الوجود إلى ناقض العدم الأزليّ وهو أوّل الوجودات فهذا الوجود هو النّاقض والطّارد للعدم الأزليّ والأمر بهكذا وجود يكفي فيه الفرد الواحد ولا يكون الفرد الثّاني ناقضًا للعدم الأزليّ. لكن إذا أريد تعلّق النّهي باستمرار العدم الأزليّ لما كفى نقض فرد واحد بل لا بدّ من ترك جميع الأفراد، فاستمراره بترك كلّ الوجودات. فالتّقابل بين ناقض العدم وكلّ الوجودات.

قلت: إنّ ناقض العدم الكلّيّ لا مطابق له في الأعيان وقد خلط بين ناقض العدم الأزليّ وناقض العدم الكلّيّ، فليس في الخارج ناقض للعدم الكلّيّ. فوجود الفرد ينقض عدم نفسه لا ينقض عدم حصّة أخرى. فلا معنى لأن ينتقض عدم الصّلاة الثّاني بوجود الصّلاة الأوّل في الوقت الأوّل. فحيث كان التّقابل بين الوجود والعدم كان بنفس شروط وقيود المقابل.

نعم إذا كان ناقض العدم الأزليّ هو المطلوب لكان نقيضه عدم الوجود الأوّل ولاستلزم هذا بنفسه عدم الوجود الثّاني والثّالث ،لكن ليس عدم الثّاني والثّالث بنقيضين لناقض العدم الأزليّ.

ثمّ يقول نعم النّهي يقتضي عدم كلّ الوجودات لكن لا من حيث إنّ عدم وجود الشّيء عدم كلّ الأقسام والحصص، بل بالإطلاق بنكتة أنّ النّواهي بالفهم المتعارف بنكتة المفسدة في كلّ الأفراد لا في فرد على البدل بحيث يطلب ترك ما لأنّ فعلًا ما فيه مفسدة، لا. فإطلاق النّهي يقتضي ترك كلّ الأفراد، فإنّ الواحد لا يزيد على الطّبيعة وما يحتاج إلى مؤونة إثبات هو التّعدّد، فيما في النّهي ما يحتاج إلى عناية هو التّقييد بحصّة خاصّة وإلّا ثبتت المفسدة في كلّ الحصص ويكون الإطلاق شموليًّا لجميع الأفراد العرضيّة.

وقد قبل هذا الكلام السّيّد الخوئيّ من المحقّق الأصفهانيّ، وبالتّالي لم يقبل أنّه ليس امتثال النّهي عقلًا لا إطلاقًا يقتضي الشّموليّة لجميع الأفراد.

ثمّ ضمّ المحقّق الأصفهانيّ ضميمة إلى كلامه مفادها: لا يعقل[2] أن يكون المطلوب من النّهي ترك ما فإنّه متحقّق دائمًا، وهذا على خلاف الأمر لا يمكن امتثال الكلّ فلا يطلب إلّا فرد واحد. فالتّرك الواحد غير المعيّن حاصل لا محالة وطلبه لغو وتحصيل للحاصل. فيما المحذور في الأمر طلب غير المقدور لعدم إمكان الاتيان بجميع أفراد طبيعة معيّنة. وقد تمسّك بها السّيّد الخوئي ليفرّق بين النّهي والأمر بالشّموليّة والبدليّة.[3]

لكن ردّها المحقّق الأصفهانيّ بأنّ هذا لا يوجب تعلّق النّهي بجميع التّروك بل لا بدّ أن يكون قد تعلّق بما تعلّق به الأمر وهو التّرك المقدور وليست جميع أكاذيب العالم بمقدورة، فهل يجب ترك جميع الأكاذيب المقدورة أم يكفي ترك كذب ما؟ عدنا إلى الإشكال.

والصحيح عنده أنّ الشّموليّة لأجل كون المفسدة عامّة قائمة في جميع الأفراد.

وقال هنا السّيّد الصّدر[4] _وبالالتفات إلى ما قدّمه الأصفهانيّ_ بأنّ الأعلام قالوا بأنّ الفرق بين الأمر والنّهي يرجع إلى المبنى الفلسفيّ في كون نسبة الكلّيّ إلى الأفراد من نسبة الأب إلى الأبناء أو نسبة الآباء إلى الأبناء. وبالتّالي، لا بدّ من أن يكون التّقابل بين كلّ عدم وجوده، فلا يصحّ أن يكون الوجود في فرد فيما العدم عدم الكلّ. فكأنّ من قال بتلك المقالة خرج عن القول المشهور وذهب إلى قول الرجل الهمدانيّ. وعرّض بهذا السيّد الصّدر وقال بعدم ابتنائه مطلقًا على ذلك المسلك مع كون الحقّ بين المسلكين ما ذهب إليه ابن سينا من أنّ نسبة الكلّيّ إلى أفراده هي نسبة الآباء إلى الأبناء. لكنّ النّهي يقتضي عدم الكلّ لأنّه في عالم الأحكام الحقّ مع الرّجل الهمدانيّ، لأنّ متعلّق الأحكام هي العناوين لا الوجودات. فمتى أمر المولى بالصّلاة يتحقّق بفرد واحد فيما النّهي عن الكذب نهي عن عنوان الكذب وانتفاء العنوان لا يكون إلّا بانتفاء كلّ الأفراد.[5]

 

[1] نهاية الدّراية،ج1،ص507:"فقد يلاحظ الوجود مضافًا إلى الطّبيعة المهملة الّتي كان النّظر مقصورًا على ذاتها وذاتيّاتها فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ونتيجة المهملة جزئيّة فكما أنّ مثل هذه الطّبيعة تتحقّق بوجود واحد كذلك عدم مثلها، وقد يلاحظ الوجود مضافًا إلى الطّبيعة بنحو الكثرة فلكلّ وجود منها عدم هو بديله فهناك وجودات وأعدام، وقد يلاحظ الوجود بنحو السّعة أي بنهج الوحدة في الكثر بحيث لا يشذّ عنه فيقابله عدم مثله وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثّرة أي طبيعيّ العدم بحيث لا يشذّ عنه عدم، ولا يعقل أن يلاحظ الوجود المضاف إلى الماهيّة على نحو يتحقّق بفرد أمّا فيكون عدمه البديل له بحيث لا يكون إلّا بعدم الماهيّة بجميع أفرادها.

أمّا ما يتوهّم من ملاحظة الوجود بنحو آخر غير ما ذكر، وهو ناقض العدم الكلّيّ وطارد العدم الأزليّ بحيث ينطبق على أوّل الوجودات ونقيضه عدم ناقض العدم وهو بقاء العدم الكلّيّ على حاله، فلازم مثل هذا الوجود تحقّق الطّبيعة بفرد ولازم نقيضه انتفاء الطّبيعة بانتفاء جميع الأفراد.

فمدفوع: بأنّ طارد العدم الكلّيّ لا مطابق له في الخارج لأنّ كلّ وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره فأوّل الموجودات أوّل ناقض للعدم ونقيضه عدم هذا الأوّل، ولازم هذا الخاصّ العدم بقاء سائر الأعدام عل حالها، فإنّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثّاني والثّالث وهكذا لا أنّه عينها فما اشتهر من أنّ تحقّق الطّبيعة بتحقّق فرد وانتفاءها بانتفاء جميع أفرادها لا أصل له حيث لا مقابلة بين الطّبيعة الملحوظة على نحو تتحقّق بتحقّق فرد منها، والطّبيعة الملحوظة على نحو ينتفي بانتفاء جميع أفرادها.

نعم لازم الإطلاق بمقدّمات الحكمة حصول امتثال الأمر بفرد وعدم حصول امتثال النّهي إلّا بعدم جميع أفراد الطّبيعة المنتهي عنها لأنّ الباعث على الأمر وجود المصلحة المترتّبة على الفعل والواحد كأنّه لا يزيد على وجود الطّبيعة عرفًا. والباعث على النّهي المفسدة المترتّبة على الفعل فمقتضى الزّجر عن كلّ ما فيه المفسدة".

[2] المصدر نفسه:"لا يقال طلب الوجودبحيث لا يشذّ عنه وجود غير معقول لأنّه غير مقصود بخلاف طلب العدم بحيث لا يشذّ عنه عدم فإنّ إبقاء العدم على حاله مقدور وهذا هو الفارق بين الأمر والنّهي.

لأنّا نقول: العدم الّذي يكون بديله مقدورًا من المكلّف هو المطلوب منه فيمكن طلب بديله أيضًا فلا تغفل".

[3] المحاضرات،ج3،ص277:"وأمّا الأمر الثّاني...فيمكن نقده على النّحو التّالي وهو أنّه لا مقابلة بين الطّبيعة الّتي توجد بوجود فرد منها والطّبيعة الّتي لا تنعم إلّا بعدم جميع أفرادها والوجه في ذلك: هو أنّه إن أريد من الطّبيعة الطّبيعة المهملة الّتي كان النّظر مقصورًا على ذاتها وذاتيّانها فحسب فهي كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنعدم بعدم مثلها أعني الطّبيعة الموجودة كذلك لأنّه بديلها ونقيضها، لا عدم الطّبيعة بعدم جميع أفرادها ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد، فنقيض الطّبيعة الموجودة بوجود واحد لا محالة يكون عدم مثل تلك الطّبيعة كما هو واضح.

وإن أريد منها الطّبيعة السّارية  إلى تمام أفرادها ومصاديقها فهي وإن كان يتوقّف عدمها كلّيًّا في الخارج على عدم جميع أفرادها العرضيّة والطّوليّة إلّا أنّ هذا من ناحية ملاحظة وجود تلك الطّبيعة على نحو الانحلال والسّريان إلى جميع أفرادها، ومن الواضح جدًّا أنّ عدم مثل هذه الطّبيعة الّذي هو بديلها ونقيضها لا يمكن إلّا بعدم تمام أفرادها في الخارج، ولكن أين هذا من الطّبيعة الّتي توجد في الخارج بوجود فرد منها، فإنّ المقابل لهذه الطّبيعة ليس إلّا الطّبيعة الّتي تنعدم بعدم ذلك الفرد، ضرورة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون نقيضًا لعدم الطّبيعة بتمام أفرادها بل له عدم واحد وهو بديله ونقيضه.

وأمّا المقابل للطّبيعة الّتي يتوقّف عدمها على عدم جميع أفرادها العرضيّة والطّوليّة هو الطّبيعة الملحوظة على نحو الإطلاق والسّريان إلى تمام أفرادها كذلك لا الطّبيعة المهملة الّتي توجد في ضمن فرد واحد.

...وعلى هدى هذا البيان الإجماليّ قد ظهر أنّه لا أصل لما هو المشهور من أنّ صرف وجود الطّبيعة يتحقّق بأوّل الوجود وصرف تركها لا يمكن إلّا بترك جميع أفرادها، والوجه في ذلك: هو أنّ صرف ترك الطّبيعة كصرف وجودها فكما أنّ صرف وجودها يتحقّق بأوّل وجود فكذلك صرف تركها يتحقّق بأوّل ترك، ضرورة أنّ المكلّف إذا ترك الطّبيعة في آن ما لامحالة يتحقّق صرف التّرك كما أنّه لو أوجدها في ضمن فرد ما يتحقّق صرف الوجود، فلا فرق بينهما من هذه النّاحية أصلًا وهذا لعلّه من الواضحات الأوّليّة".

[4] البحوث،ج3،ص20:"وملخّص ما قلناها هناك: إنّ الطّبيعة إذا لاحظنا وجودها الخارجيّ فالاتّجاه الصّحيح والمشهور فيه هو أنّ نسبة الطّبيعيّ  إلى أفراده الخارجيّة إنّما هي نسبة الآباء إلى الأبناء في قبال اتّجاه الرّجل الهمدانيّ القائل بأنّ نسبة الطّبيعيّ إلى أفراده نسبة الأب الواحد إلى أبنائه فيقال على مستوى البحث الفلسفيّ بصحّة الاتّجاه الأوّل الّذي سار عليه ابن سينا دون الاتّجاه الثّاني الّذي سلكه الرّجل الهمدانيّ.

وقد ربطت المسألة الأصوليّة هذه بتلك المسألة الفلسفيّة أيضًا فقيل بأنّه إذا كان الطّبيعيّ يوجد بوجودات متعدّدة وأنّ وجود كلّ فرد ناقض لعدم الطّبيعة في ضمن ذلك الفرد لا مطلقًا فلا معنى لما اشتهر من أنّ الكلّيّ يوجد بفرد واحد ولا ينعدم إلّا بانعدام تمام أفراده، لأنّ وجود الطّبيعيّ في ضمن كلّ فرد لا يحفظ إلّا في ضمن ذلك الفرد ولا يعدم إلّا بعدم ذلك الفرد فكما أنّ هناك وجودات عديدة للطّبيعة هناك أعدام عديدة لها أيضًا فإاذ كان الأمر متعلّقًا بوجود واحد كذلك النّهي يتعلّق بعدم واحد من تلك الأعدام. هذا ملخّص ما انتهى إليه المحقّقون المتأخّرون.

وقد ذكرنا في بحث المرّة والتّكرار أنّ هذا الرّبط بين المسألتين في غير محلّه فإنّ بطلان مسلك الرّجل الهمدانيّ إنّما هو بلحاظ المسألة الفلسفيّة وعالم الوجود الخارجيّ للطّبيعة، وأمّا بلحاظ المسألة الأصوليّة وبالقياس إلى عالم الذّهن الّذي ينتزع جامعًا يكون قدرًا مشتركًا بين الأفراد فيصحّ كلام الرّجل الهمدانيّ حقيقة بلا إشكال حتّى من ابن سينا، إذ لا إشكال في وحدة الكلّيّ عنوانًا ومفهومًا ومتعلّق الأمر والنّهي إنّما هو الوجود العنوانيّ للمتعلّق أي المفهوم لا الوجود فما يكون متعلّقًا للأمر حقيقة ينحفظ بفرد واحد ولا ينعدم إلّا بانعدام تمام أفراده وهذا هو معنى تلك الكلمة المشهورة والمطلوب في الأوامر حفظ ذلك المفهوم الطّبيعيّ بينما المطلوب في النّواهي إعدامه".

 

برچسب ها: صیغه نهی

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است