المقدمة الموصلة (الدرس ۷۸)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قدّم الشّيخ الآخوند أدلّة ثلاثة على بطلان القول بوجوب المقدّمة الموصلة، وذلك في مطلع الحديث عنها وقبل عرض استدلال قائلها، إذ لا مقتضي لهذا الشّرط بحسبه ثمّ جاء بعد ذلك باستدلال صاحب الفصول. وهنا نحتاج إلى تلخيص كلام صاحب الكفاية لنعلّق عليه وندرس كلّ مفردة منه على حدة. الوجوه الثّلاثة الّتي قدّمها الشّيخ الآخوند هي:

الأوّل: أنّه لا مقتضي للقول بالمقدّمة الموصلة، فإنّ القول في باب وجوب المقدّمة تابع للغرض، والغرض على ما تقرّر هو التّمكّن والتّوقّف ولا فرق فيه بين التّرتّب وعدمه.

الثّاني: لو كانت المقدّمة الموصلة هي الواجبة لاختصّ وجوب المقدّمة بالمقدّمات التّسبيبيّة الّتي تكون السّبب التّامّ لتحقّق ذيها، فيما عمدة كلامنا في الشّرعيّات الّتي لا تكفي فيها المقدّمات لا كلّها ولا بعضها ليترتّب ذوها، لأنّ الجزء الأخير في الشّروع باتيان ذي المقدّمة بالفعل هي إرادة المكلّف المختارالّذي إن شاء فعل وإن شاء ترك. فساوق هذا القول في الحقيقة إنكار وجوب المقدّمة الشّرعيّة.

الثّالث: يلزم عدم سقوط أمر المقدّمة ما لم يترتّب ذوها، لأنّ المأمور به وهو المقدّمة الموصلة لم يتحقّق بعد لعدم حصول قيدها وهو ترتّب ذيها. في حين أنّه لا شكّ ولا كلام في القول بسقوط الأمر المقدّميّ باتيان ذات المقدّمة قبل ترتّب ذيها، وليس سقوط الأمر إلّا بالموافقة أو المخالفة أو ارتفاع الموضوع. وهنا لا مخالفة ولا ارتفاع موضوع فلا يبقى إلّا الموافقة ومعناها سقوط الأمر لتحقّق المأمور به. والمتحقّق هو ذات المقدّمة فهي المأمور به بلا شرط. ولا ينفع القول بأنّ الأمر يسقط بسقوط الغرض أيضًا في إثبات مدّعاهم بل هو لصالح نتيجة صاحب الكفاية، لأنّه إذا كان قد تحقّق الغرض، والفرض عدم المانع عن اندراج الفعل تحت الواجب فمحصِّل الغرض ومحقِّقه هو مصداق المأمور به؛ وهو هنا في الفرض ذات المقدّمة.  هذا محصّل كلام الشّيخ الآخوند في إبطال المقدّمة الموصلة. بعد ذلك شرع شيخنا الأستاذ في مناقشة هذه الوجوه:

 أمّا الوجه الأوّل: "وليس الغرض من المقدّمة إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة"[1].

أورد بعض الأعلام على صاحب الكفاية بأنّه لا يمكن أن يكون الغرض من ذي المقدّمة هو التمكّن وإلّا لكان من تحصيل الحاصل. إذ قبل وقوع المقدّمة كان المكلّف قادرًا أي متمكّنًا لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، فما يُنتظر من غرض من وقوعها حاصل قبله كما ورد في كلام السّيّد الخوئيّ[2] والسّيّد الصّدر تبعًا للمحقّق الأصفهانيّ.

والصّحيح أنّ هذا لا يرد عليه، فليس الكلام عن الإمكان الذّاتيّ، ولا عن الإمكان الوقوعيّ الّذي قُطع النّظر فيه عن المقدّمة، بل كلامه عن حصّة خاصّة من الإمكان القريب بحيث لا يتوسّط بين المقدّمة وذيها إلّا إرادة متعلّقة بالأخير،  بحيث بعد الاتيان بهذه المقدّمة يتمكّن من الاتيان بذي المقدّمة بلا واسطة. ومع التّدقيق يتبيّن الفرق بين الإمكان القريب المشرف على ذي المقدّمة والإمكان القائم قبل المقدّمة الثّابت بالوسائط. وإن شئت فقل إنّ المقصود هو سدّ باب عدم ذي المقدّمة من جهة المقدّمة على ما جاء في كلام المحقّق العراقيّ،[3] [4] وهذا لا يعني أنّ القدرة العقليّة على ذي المقدّمة منوطة بالاتيان بالمقدّمة، فالقدرة موجودة قبل وقوع المقدّمة، لكن هذه القدرة الخاصّة على ذي المقدّمة بحيث لا يحتاج بعد الاتيان بمقدّمته إلى توسيط شيء لا تتحقّق إلّا بعد وقوع المقدّمة. وبالتّالي الغرض هو سدّ باب العدم من جهة فعل المقدّمة ما يحقّق إمكانًا قريبًا.                                   وهل هذا الغرض يتحقّق من دون وقوع المقّدمة فيكفي فيه القدرة عليها وإمكانها؟ هل يكفي في تحقّق الإمكان القريب للصّلاة إمكان الوضوء والقدرة عليه أم هو منوط بامتثال الوضوء واتيانه؟ أي متى ينسدّ باب عدم الصّلاة من جهة الوضوء؟ بإمكان الوضوء أم باتيان الوضوء؟ لا شكّ ولا ريب في أنّ انسداده يتوقّف على الاتيان بالوضوء.

بل نترقّى لنقول إنّه قد يكون الغرض الأصيل عند المولى هو تحقّق الإمكان القريب لا تحقّق ذي المقدّمة، وذلك كما لو أمر المولى بوجوب تعلّم الأحكام ومنها المستحبّات، بحيث تكون المقدّمة واجبة وهي التّعلّم وذو المقدّمة مستحبًّا وهو الاتيان بالمستحبّات. وليس ذلك إلّا لأنّ مراد المولى هو سدّ باب ترك المستحبّات من جهة الجهل وجوبًا، فيجعل على عهدة المكلّف وجوب التّعلّم والخروج عن دائرة الجاهلين لكي لا يكون الجهل منشأ لترك المستحبّات. وهذا معنى ما يقال من أنّ المراد من وجوب التّعلّم هو سدّ باب العدم من جهة الجهل. ولذلك قالوا بعدم المحذور بجعل وجوب التّعلّم على المكلّف في الواجبات المشروطة، كما في وجوب تعلّم أحكام الحجّ على غير المستطيع المحتمل للاستطاعة لاحقًا، أي يجب على من لا وجوب فعليّ في حقّه لئلّا يقع في المخالفة من جهة الجهل بالأحكام وترك التّعلّم.

إذا تبيّن هذا عرفت أنّ التّمكّن الحاصل قبل فعل المقدّمة هو الإمكان البعيد مع الواسطة، فيما مطلوب التّحصيل بالاتيان بالمقدّمة هو الإمكان القريب المشرف والمطلّ على ذي المقدّمة بلا واسطة. فيرجع إشكال بعض الأعلام إلى إشكال لفظيّ لا أزيد.

لكن مع ذلك كلام الشّيخ الآخوند غير تامّ من جهة أخرى، وهي أنّه يمكن أن يكون الغرض من المقدّمة هي حصّة خاصّة من التّمكّن الّذي ينتهي بتحقّق ذي المقدّمة لا مطلق التّمكّن. فكما أنّ للشارع أن يقيّد من جهة الأفراد فيحرّم بعض أفراد المقدّمة، له أيضًا أن يقيّد من جهة الحالات فيأمر ببعض حالاتها دون بعض. والحال هذا، لنا أن نسأل ما الدّليل على كون التّمكّن الّذي يقع غرضًا ولأجله يأمر المولى هو التّمكّن القريب المباشريّ الحاصل من مطلق مقدّمة؟ ولماذا لا يكون خصوص التّمكّن المنتهي إلى تحقّق ذي المقدّمة فيؤمر بالمقدّمة الّتي تنتهي إلى ذيها والّتي عبّر عنها السّيّد الخوئيّ بالتوأم[5] وهي المقدّمة الموصلة؟

لا محذور في أن يقول المولى أريد إنقاذ النّفس المحترمة عبر هذا الفرد من المقدّمة ذي الحالة المعيّنة؛ كما لو قال أريد أن يكون المرور بالأرض المباحة مرورًا موصلًا إلى الإنقاذ. وله أن يقول إنّما أرفع يدي عن حرمة العبور في الأرض المغصوبة إن انتهى هذا العبور إلى إنقاذ النّفس وإلّا فهو على حرمته وعلى مفسدته بحيث يطلب المولى حصّة من التّمكّن الخالية عن المفسدة. وبهذا عدنا لنقول إنّما أُهمل التّكليف المهمّ لأجل الأهمّ وارتضى المولى العبور في أرض الغير والتّصرّف في ملكه لأجل مصلحة أهمّ وواجب أهمّ وهو إنقاذ النّفس. وإلّا أي إن لم يترتّب الأهمّ فلا موجب لرفع اليد عن الحرمة. من هنا نقول لا موجب رفع اليد مطلقًا عن الحرمة ممّا لا دليل عليه إلّا امتناع القول بالتّرتّب، وقد تقدّم متكرّرًا أنّ قول الشّيخ الآخوند بوجوب المقدّمة المطلقة هو بسبب إنكاره للتّرتّب المرتكز بقوّة في وجدانه الاستدلاليّ.

وعلى هذا، إن لم نقل بامتناع التّرتّب فلا مانع من الذّهاب إلى أنّ المولى أوجب إنقاذ المؤمن وجوّز الدّخول في أرض الغير غصبًا توصّلًا إلى ذلك الغرض الأهمّ، ولكن إن لم يحصل إنقاذ المؤمن فلا إجازة في التّصرّف بما النّاس مسّلطون عليه من أموالهم.والسّرّ وراء ما ترى هو التّرتّب، ففي المثال حرمة مشروطة ووجوب إنقاذ مطلق.

ولا ينبغي أن يُتوهّم اختصاص التّرتّب بموارد الوجوب المشروط فقط دون الحرمة المشروطة، فهذا ممّا لا مقتضي له. لذا التّرتّب وجوب شيء على تقدير عصيان الأهمّ أو حرمة شيء على تقدير عصيان الأهمّ، وكما يقع التّزاحم بين واجبين كحفظ نبيّ وحفظ مؤمن عاديّ، كذلك يحصل التّزاحم بين وجوب وحرمة، كوجوب إنقاذ النّفس المحترمة وحرمة التّصرّف في مال الغير.

وتطبيقًا، إذا دخل شخص أرضًا مغصوبة معتقدًا بإمكان إنجاء النّفس المحترمة وأداء الأهمّ لكنّه لم يتمكّن من التّوصّل إلى تحقيق ذي المقدّمة هذا، يقع فعل المقدّمة حرامًا ولكنّ المكلّف معذور فيه، لأنّه كان يعتقد إمكان الاتيان بذي المقدّمة اشتباهًا. في المقابل إذا أقدم على الدّخول في الأرض المغصوبة عالمًا بعدم إمكان الاتيان بذي المقدّمة، فقد اقتحم في الحرام وتصرّف في مال الغير بلا مسوّغ وتقع المقدّمة المفترضة حرامًا.

والصّحيح بحسب شيخنا الأستاذ هو القول باشتراط قصد التّوصّل وكذا باشتراط التّوصّل بحيث يكون الفعل المقدّميّ المشتمل عليهما مصداقًا للمقدّمة الواجبة.                                                                                                                                                            هذا تمام الكلام في مناقشة الدّليل الأوّل من الثّلاثة الّتي قدّمها الشّيخ الآخوند لإبطال القول بالمقدّمة الموصلة.

 

[1]  الكفاية،ج1،ص163.

[2]  أنظر الدّراسات،ج1،ص334:"وإن أريد بذلك معنى آخر أعني به التّمكّن من الاتيان بذي المقدّمة فهو واضح الفساد، بداهة أنّ إمكان ذي المقدّمة ليس مترتّبًا على حصول مقدّمته في الخارج وإنّما هو متوقّف على إمكان مقدّمته، نعم حصوله مترتّب على حصولها".

وقد أشرنا إلى عبارتي المحقّق الأصفهانيّ والسّيّد الصدر في هامش الدّرس السّابق فراجع.

[3]  أنظر نهاية الأفكار،ج1،ص340:"إذ نقول بأنّ الغرض من الأمر بكلّ مقدّمة  ليس إلّا ما يترتّب على وجودها من الملاك وحينئذٍ فإذا كان دخل كلّ مقدّمة من حيث كونها سادّة لباب من أبواب عدم ذيها في الخارج فلا جرم لا يكاد يكون الغرض من إيجاب كلّ مقدّمة إلّا ذلك، وفي مثله يستحيل كونه هو التوصّل إلى الوجود وترتّب الواجب عليها، كيف وإنّه بعد مدخليّة الإرادة أيضًا في تحقّق الواجب يستحيل كون التّرتّب المزبور من آثار مجموع المقدّمات فضلًا عن كلّ واحدة منها، وحينئذٍ فإذا لم يكن دخل كلّ مقدّمة إلّا كونها سادّة لباب من أبواب عدم ذيها ولا كان الغرض من إيجاب كلّ مقدّمة أيضًا إلّا ما يترتّب عليها من الحفظ من جهتها لا ترتّب الوجود، فلا محيص بمقتضى البيان المزبور من الالتزام بانّ الواجب هو نفس ذات المقدّمة لا هي بما أنّها موصلة نظرًا إلى وضوح ترتّب مثل هذا الغرض حينئذٍ بمحض تحقّق المقدّمة في الخارج وإن لم يتحقّق بقيّة المقدّمات ولم يترتّب عليها ذوها في الخارج أصلًا كما لا يخفى".

[4]  أنظر مقالات الأصول،ج1،ص330:"ثمّ نقول أيضًا إنّ الغرض من كلّ مقدّمة الّذي هوالدّاعي على إيجابه ليس إلّا ما يترتّب عليه وحينئذٍ ليس وجود ذيها غرضًا لكلّ مقدّمة مقدّمة إذ يستحيل ترتّب ذيها بكلّ واحد منها فلا محيص من كون الغرض من كلّ مقدّمة حفظ وجود ذيها من قِبله وسدّ باب عدمه من ناحيته. ولازمه ترتّب مثل هذا الغرض على كلّ مقدّمة ولو لم ينضمّ إليه غيره ولا يتحقّق وجود ذي المقدّمة ويستتبعه حينئذٍ وجوب ذاته وإن لم يوصل".

[5]  لم أعثر على هذا التّعبير للسّيّد الخوئيّ، ولعلّ أراد المحقّق العراقيّ، راجع نهاية الأفكار،ج1،ص342:"فهو أي الواجب حينئذٍ عبارة عن ذات المقدّمة بما أنّها توأمة وملازمة مع الإيصال وترتّب ذيها عليها لا بشرط الإيصال كما هو مقتضى كلام الفصول ولا لابشرط الإيصال كما هو مقتضى القول بوجوب المقدّمة مطلقًا كما لا يخفى".

برچسب ها: المقدمة الموصلة

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است