اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۱۲)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وجّه الميرزا النّائينيّ كلام الشّيخ البهائيّ على أساس المبنى الّذي نسبه إلى صاحب الجواهر، والّذي مفاده اشتراط قصد الامتثال في صحّة العمل العباديّ، وبالتّالي فلا يكفي الاتيان بالعمل بقصد الملاك، وإن كان المحقّق النّائينيّ لا يقبل بهذا المبنى ويقول بصحّة العمل بقصد المحبوبيّة والملاك.

برأي شيخنا الأستاذ، ما نسبه المحقّق النّائينيّ إلى صاحب الجواهر هو مجرّد وهم، بل كلام صاحب الجواهر أجنبيّ تمامًا عن هذه النّسبة. وبمراجعة كلامه في الجواهر نرى أنّه في بحث الصّلاة قد قال باشتراط النّيّة والتّعيين. وبيّن أنّ مقصوده من النّيّة هو أن يقع العمل بقصد، وإلّا فإنّه لا يمكن أن يكون الأمر متعلّقًا بعمل بلا قصد وعن غفلة، وبالتّالي ما جيء به بلا قصد ليس مصداقًا للمأمور به؛ وهذا يعني أنّ الأمر لا يسقط بالاتيان به بل يبقى على ذمّة المكلّف. ثمّ أردف ذلك بإضافة اشتراط قصد الأمر أي قصد الامتثال في جميع الأوامر سواء العباديّة أو التّوصّليّة. فهنا شرطان: الأوّل هو القصد والثّاني هو قصد الأمر المولويّ. نعم، حيث دلّ الدّليل الخاصّ على عدم اشتراط القصد وكفاية حصول الفعل كيفما اتّفق كما في حفر القبر لدفن المؤمن لو حصل من خلال زلزلة، فإنّه يكفي ولا يجب الحفر بقصد، أي يسقط أمره.

على هذا: قصد الامتثال عند صاحب الجواهر هو بمعنى المرجّح لوقوع العمل امتثالًا لا عبثًا. فإنّ عملًا ما _كالصّلاة_ لو جيء به بلا قصد امتثال فنسبته إلى طبيعيّ المأمور به ونسبته إلى العبث واللّعب _والرّياضة مثلًا_ واحدة، ولا مرجّح لوقوعه امتثالًا إلّا أن يقع بقصد الامتثال. وهذا القصد يختلف عن قصد القربة المعتبر عند المتأخّرين في العبادات، إذ ميّز صاحب الجواهر بين قصد الامتثال وبين الإخلاص في العبادة وبين القرب الرّوحانيّ المشابه للقرب المكانيّ، معتبرًا أنّ ما ذهبوا إليه من اعتبار قصد القربة هو بمعنى قصد التّعيين أي قصد الامتثال لا بمعنى قصد القرب الرّوحانيّ. وقصد الامتثال هو قصد العمل المأمور به الموصوف بكونه امتثالًا لا لأجل الامتثال، أي إنّ الامتثال يقع وصفًا لا غاية، وذلك لأنّه يتمشّى أن يأتي المكلّف بعمل عن قصد لغاية فاسدة كالرّياء.

وكيف كان، فلا بدّ من قصد الأمر المعيّن المرجّح وإلّا لوقع العمل عبثًا، ولا يكفي في رفع العبثيّة قصد القرب الرّوحانيّ أي قصد القربة بالمعنى المعروف عند المتأخّرين بل لا بدّ من قصد الامتثال ليتعيّن المأتيّ به مصداقًا. على أنّه ذهب إلى عدم وجوب قصد القرب الرّوحانيّ وعدم اعتباره جزمًا في التّوصّليّات بل لا يقول به فقيه. وفي موضع آخر من الجواهر ذهب صاحبه إلى كون قصد القرب الرّوحانيّ مبطلًا للعمل العباديّ.[1]

ولا بدّ أن نميّز قصد التّعيين الّذي يرفع العبثيّة ويشخّص الامتثال عن قصد التّعيين الّذي يرفع التّردّد أي يُخرج الفعل المأتيّ به عن كونه مردّدًا من ناحية المصداقيّة فهو يصلح مصداقًا لأمر أوّل ومصداقًا لأمر ثانٍ وثالث وهكذا. كأن يعيّن المكلّف كون الصّلاة المأتيّ بها أداء أو قضاء، وإن كانت قضاء فأن يعيّن كونها عمّا فاته اليوم أو بالأمس، وهل هي عن نفسه أو عن غيره نيابة وهكذا من المعيّنات والمشخّصات الّتي ترفع الامتثال بالفرد المردّد.

والجدير بالذّكر أنّ الإشكال الأبرز على المحقّق النّائيني هو حمله كلام الجواهر على اصطلاحاته واستخلاص النّتائج على هذا الأساس، إذ ما ذكره صاحب الجواهر هو قصد الامتثال كوصف للمأتيّ به فيما مراد المحقّق النّائينيّ هو قصد الامتثال غايةً للمأتيّ به.

وهنا نلفت إلى شيء من عبائر صاحب الجواهر الّتي استند إليها المحقّق النّائينيّ ليقول بما قال:

"أمّا العبادات فلا إشكال في اعتبار القصد فيها؛ لعدم صدق الامتثال والطّاعة بدونه، واعتبارهما في كلّ أمر صدر من الشّارع معلوم بالعقل والنّقل كتابًا وسنّة بل ضرورة من الدّين بل لا يصدقان إلّا بالاتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر فضلًا عن مطلق القصد؛ ضرورة عدم تشخّص الأفعال بالنّسبة إلى ذلك عرفًا إلّا بالنّيّة، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطّاعة لا ينصرف إلى ما يتعلّق به الأمر".[2]

"نعم يعتبر الإخلاص في العبادة الّذي هو عبارة عن وقوع الفعل بقصد الامتثال للسّيّد المنعم باعتبار ما قام في النّفس ودعاها إلى الفعل ن الألطاف ورجاء الثّواب ودفع العقاب، وهو أمر خارج عن النّيّة الّتي هي بمعنى القصد للفعل الّذي لو كلّف الله بالفعل بدونه لكان كالتّكليف بما لا يطاق؛ ضرورة خروج صدور الفعل مع الغفلة عن القدرة ولذا قبح تكليف الغافل ونحوه".[3]

على أنّ اشتراط القصد في متعلّق الأمر غير صحيح ويجوز أن يتعلّق الأمر بالجامع بين الحصّة المقدورة وغير المقدورة كما تقدّم تفصيل ذلك سابقًا. والخلاصة برأي شيخنا الأستاذ باختصار ما نصّه:" أقول: وأنت خبير بأنّ هذا المضمون من صاحب الجواهر صحّ أو لا، لا ربط له بما نسبه إليه الميرزا ولا ينافي كفاية قصد الملاك حيث يتعيّن به العمل مصداقًا لما هو المحبوب والمطلوب".

وبالمحصّلة: لا يرد إشكال الشّيخ الآخوند على كلام الشّيخ البهائيّ، فحتّى لو قلنا بكفاية قصد الملاك والمحبوبيّة إلّا أنّه لا كاشف عن ذلك الملاك إلّا الأمر والفرض عدمه. فصحّة قصد الملاك كمصحّح للعبادة على مستوى الثّبوت لا تنفع حيث لا يمكن كشف الملاك على مستوى الإثبات.

ثمّ إنّ المحقّق الكركيّ قد علّق على كلام للعلّامة يرتبط ببطلان صلاة الشّخص المديون بمفاد يصلح أن يكون إشكالًا على كلام الشّيخ البهائيّ. أمّا مطلب العلّامة فهو قوله بعدم وجود أمر بصلاة المديون الّتي تزاحم وجوب أداء الدّين الأهمّ والفوريّ وبالتّالي إن جاء بها المكلّف وقعت فاسدة لأنّها غير مأمور بها. أمّا إشكال المحقّق الكركيّ فيرجع إلى التّفصيل بناءً على عدم النّهي عن الضّدّ العباديّ بين كون الواجب المهمّ موسّعًا وبين كونه مضيّقًا. وكلامه يمكن أن يستفاد منه قوله بإمكان التّرتّب.

 

[1]  جواهر الكلام في ثوبه الجديد،ط.مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلاميّ،ج1،ص435 (الحاشية):"لكن فيه من الإشكال ما لا يخفى؛ لأنّ دعوى وجوب نيّة القرب بهذا المعنى ممّا لا يمكن إقامة الدّليل عليها من كتاب أو سنّة، بل هي إلى البطلان أقرب منها إلى الصّحّة؛ لما نقل عن المشهور، بل في القواعد للشّهيد نسبته إلى قطع الأصحاب، بل نقل أنّه ادّعي عليه الإجماع، أنّه متى قصد بالعبادة تحصيل الثّواب أو دفع العقاب كانت عبادته باطلة؛ لمنافاته لحقيقة العبوديّة، بل هي من قبيل المعاوضات الّتي لا تناسب مرتبة السّيّد، سيّما مثل هذا السّيّد، ولا ريب أنّ القرب بالمعنى المتقدّم نوع من الثّواب فيجري فيه ما يجري فيه".

[2]  جواهر الكلام في ثوبه الجديد،ط.مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلاميّ،ج5،ص117(الحاشية).

[3] المصدر نفسه،ص117.

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است