تعلق الامر بالطبائع (۴ ربیع الثانی ۱۴۴۴)

أتممنا كلام الشّيخ الآخوند في بيان محلّ النّزاع وكذا كلام المحقّق النّائينيّ نقلًا عن بعض الأساطين. وهما بنظر شيخنا الأستاذ كلام واحد على الرّغم من الاختلاف البدويّ الّذي كنّا بيّناه ليكون بيان المحقّق النّائينيّ المنقول راجعًا حقيقة إلى بيان صاحب الكفاية. بل قد يكون مقصود المحقّق النّائينيّ من بعض الأساطين هو الشّيخ الآخوند.

المراد بالطّبيعة المبحوث عن كونها متعلّقًا للأمر هي الطّبيعة من حيث هي بلا دخالة الخصوصيّات الملازمة للوجود بحيث تكون قد أُخذت بنحو رفض القيود؛ وفي المقابل المراد من الفرد هي الطّبيعة مع الخصوصيّات مع جمع القيود على التّبادل بحيث إنّ المولى لمّا جعل الحكم لحظ كلّ تلك الخصوصيّات وأرادها داخلة في المأمور به. وقد ذهب الشّيخ الآخوند _كما تقدّم_  إلى أنّ متعلّق الأمر هي الطّبيعة من دون الخصوصيّات وهي من حيث هي، نعم الخصوصيّات ملازمة في الوجود للماهيّة.

ولو عدنا إلى تفسير الفرد في كلام المحقّق النّائينيّ لوجدنا أنّ نتيجة القول به هو التّخيير الشّرعيّ بين أفراد طبيعيّ المتعلّق فيما سيودي القول بالتّعلّق  بالطّبيعة إلى التّخيير العقليّ. بمعنى إذا قلنا بأنّ الخصوصيّات قد أُخذت في متعلّق الأمر بنحو جمع القيود؛ فإنّ هذا سيؤدّي إلى التّخيير الشّرعيّ لأنّ الأفراد من حيث هي أفراد بخصوصيّاتها مطلوبة وهذه مع خصوصيّاتها لا ترجع معًا إلى جامع بينها، إذ لا جامع بين الشّيء وضدّه إلّا انتزاعًا كعنوان أحدهما.

من هنا تعرف تفسير الشّيخ الآخوند للتّخيير الشّرعيّ بأنّه يرجع إلى تزاحم في استيفاء الملاكات بحيث لا يمكن استيفاء الكلّ، فيخيّر بينها. ويفرّق هذا عن التّخيير العقليّ حيث يكون متعلّق الأمر هو الطّبيعة أي الجامع الّذي يكون الملاك والغرض التّامّ فيه من حيث هو جامع، وتكون وظيفة المكلّف تطبيقه على مصداقه. ولذلك لو أمكن إيجاد ذاك الجامع بلا الخصوصيّات لوجب؛ إذ هو المأمور به.

وفي الحقيقة، ما كان الغرض فيه هو الّذي يتعلّق به الأمر، فعلى مسلك الطّبيعة الملاك والغرض في الطّبيعة نفسها وعلى الفرد الملاك والغرض في الفرد الحاوي للخصوصيّات الوجوديّة المشخّصة.

على هذا، فالفرق بين الواجب التّخييريّ والواجب التّعيينيّ أنّه على الثّاني هناك أفراد متعدّدة لكن جميعها لها ملاك أيّ لها تعدّد الحصص فهي مصاديق دون أن يتعدّد الملاك على خلاف الواجب التّخييريّ حيث يتعدّد الأفراد ويتعدّد الملاك لكون المتعلّق هو الفرد لا الطّبيعة. ولذلك يكون الجامع فيه  جامعًا انتزاعيًّا مثل "أحدهما" ولا ملاك واحد بل ملاكات متعدّدة بتعدّد الأفراد. مثلًا في الكفّارة يتردّد الواجب بين العتق والإطعام والجامع بينهما أحدهما؛ أي يتردّد بين هذا الفرد ذي الغرض الخاصّ وذاك ذي الغرض الآخر وليس المطلوب جامع الإنفاق مثلًا بل كلّ فرد بعينه ولكلّ منهما ملاك خاصّ يتزاحمان في مقام الاستيفاء وهذا ليس مجرّد تعبير مختلف بل هو مختلف في تشييداته وثمراته.

وكيف كان، هذا الكلام المعتمد على الإرجاع إلى التّخيير الشّرعيّ والعقليّ للفرد والطّبيعة على التّرتيب ليس كلامًا مختلفًا عن كلام الآخوند بحسب شيخنا الأستاذ؛ بل هو تعبير آخر عن مراده، سواء كان من نقل عنه المحقّق النّائينيّ هو المحقّق الآخوند أو غيره.

ثمّ أشكل المحقّق النّائينيّ ثلاثة إشكالات على هذا التّفسير لتعلّق الأمر بالفرد؛ لأنّه استبعد أن يكون مراد القائلين بتعلّق الأوامر بالأفراد هذا المعنى من الفرد أي التّخيير الشّرعيّ مقابل التّخيير العقليّ وإلّا فالنّزاع بلا معنى. وذلك أنّه:

  • إذا كان عنوان الفرد متعلّقًا للأمر[1] أي كونها من باب التّخيير الشّرعيّ والإطلاق بمعنى جمع القيود فلازم ذلك أن يلتزم القائل بالتّقدير،[2] لأنّ الأمر لم يتعلّق بالطّبيعة بل بفردها والتّقدير خلاف الأصل والقائل ملتزم بكونه خلاف الأصل فلا بدّ أن لا يكون مراده من الأمر هو هذا.
  • إذا كان واقع الفرد متعلّقًا للأمر،[3] فلازم ذلك عدم تناهي الأوامر بحيث يمكن أن يكون لكلّ طبيعة أفراد لا متناهية لحاظ المشخّصات واللّوازم الفرديّة المختلفة، فتكون للصّلاة مثلًا أمر متعلّق بكلّ صلاة في كلّ آن من آنات الوقت طولًا بين الحدّين وعرضًا بتعدّد الأثواب والأماكن والحالات والطّوارئ... فيلزم عدم تناهي الحكم الواحد لأنّه سينحلّ الحكم أحكامًا غير متناهية في حقّ المكلّف الواحد. (ويمكن أن يقال إنّ عدم التّناهي هذا عرفيّ).[4] [5] [6]
  • إذا كانت الأحكام على نحو التّخيير الشّرعيّ فلا معنى للتّخيير العقليّ.[7] مع أنّه لا خلاف في وقوع التّخيير العقليّ في الجملة حتّى عند القائل بالفرد. فلا بدّ من تفسير الفرد بما يتناسب مع التّخيير العقليّ.

فتحصّل أنّه لا يصحّ تفسير القول بتعلّق الأمر بالفرد بالبيان الّذي تقدّم من قبل الشّيخ الآخوند وبعض الأساطين.

حكى السّيّد الصّدر[8] استبعاد المحقّق النّائينيّ لهذا القول ولم يذكر أدلّته؛ وفهم من ذلك أنّ القائل بتعلّق الأمر بالفرد هو بصدد نفي أصل التّخيير العقليّ ثمّ أشكل بإشكالين على ذلك:

  • إذا كان المراد من الفرد الجزئيّ المشخّص في الخارج لكان الأمر بالفرد أمرًا بتحصيل الحاصل.
  • إذا كان المراد من الفرد هو غير الوجود المتحقّق، فكلّ قيد أضيف إليه سوف لن يحوّل الطّبيعة الكلّيّة إلى جزئيّ بل غاية ما يوجبه هو التّضييق لا جعله فردًا، وهذا يعني أنّه ينتهي أمره إلى التّخيير العقليّ. فلا مناص مهما قيّد وضيّق في متعلّق الأمر من التّخيير العقليّ بين أفراد ذلك الكلّيّ الطّبيعيّ، وبالتّالي هذا البيان لتعلّق الأمر بالفرد لا يلزم منه إنكار التّخيير العقليّ  وهو مطلوب القائل به وانحصار التّخيير بالشّرعيّ، فسقط الدّاعي المفروض لأخذ تلك القيود على نحو جمع القيود في متعلّق الأمر.

الجواب: هذا إشكال عجيب؛ فالقائل بتعلّق الأوامر بالأفراد أراد أن يقول إنّ القيود داخلة فقلنا يلزم التّخيير الشّرعيّ، ولم يرد أن يقول إنّه لا تخيير عقليّ في كلّ فرد من أفراد هذا التّخيير الشّرعيّ حتّى يُشكل بأنّ ما زال للتّخيير العقليّ محلّ حتّى على القول بالفرد. بل لا ينبغي أن يتوهّم هذا لأنّ مردّه إلى القول بكون الأمر متعلّقًا بالوجود الخارجيّ وإلّا ما معنى ألّا يبقى مجال للتّخيير العقليّ والكلام في عنوان كلّيّ؟! بعبارة أخرى: لا يريد القائل بتعلّق الأمر بالفرد القول باستحالة التّخيير العقليّ أو انتفائه حتّى يقال له إنّ التّخيير العقليّ يجري حتّى على القول بالتّخيير الشّرعيّ بين الأفراد.

فلا يتمّ هذا الإشكال من السّيّد الصّدر؛ ولمزيد البيان نقول:

إنّ القائل بتعلّق الأمر بالفرد ذهب إلى أنّ المولى عندما شخّص أغراضه وجدها متعلّقة بكلّ فرد على حدة فلما أراد الجعل جعل على الطّبيعة المطلقة بإطلاق جمع القيود بحيث تكون الخصوصيّات دخيلة في المطلوب لأنّها دخيلة في الغرض. ولمّا كان الأمر كذلك لزم أن يكون كلّ فرد من حيث هو مطلوبًا بذاته وهذا يعني تعدّد المطلوبات بتعدّد الأفراد على التّبادل بينها بحيث يتخيّر المكلّف بينها لكن ليس التّخيير المشيّد هنا عقليًّا بل هو بجعل الجاعل الّذي لحظها جميعًا. فانتهى الأمر بمن قال بتعلّق الأمر بالفرد إلى القول بالتّخيير الشّرعيّ. وليس قوله هذا نفيًا للتّخيير العقليّ بل هو ليس بصدد نفيه، كيف وكلّ ما حصل هو تضييق ليس إلّا لا يجعل الكلّيّ جزئيًا. إذا عرفت هذا عرفت أنّه لا يرد ما ذكره السّيّد الصّدر إشكالًا على القول وإنّما الإشكال هو ما ذكره المحقّق النّائينيّ.

ولا بدّ من التّذكير بأنّ المراد من تعلّق الأمر بالفرد أي طلب إيجاده وتكوينه وإفاضته في الخارج لا أنّ الأمر قد تعلّق بالفرد الخارجيّ من حيث هو خارجيّ إذ هذا لا ينبغي أن يتوهّم بل تعلّق به ملحوظًا في مقام الجعل لتكوينه وإيجاده أم كما عبّر المحقّق الأصفهانيّ تعلّق به من حيث هو مفروض الوجود.

ثمّ بيّن المحقّق النّائينيّ كلامًا وبيانًا دقيقًا في تصوير محلّ النّزاع بين الطّبيعة والفرد، وفهم كلامه يحتاج إلى دقّة فائقة.

 

[1]  أجود التّقريرات،ج1،ص305:"لاستبعاد احتياج تعلّق الطّلب بشيء إلى تقدير كلمة "أو" بمقدار أفراده العرضيّة والطّوليّة".

[2]  أشار المحقّق النّائينيّ إلى تقدير خصوص "أو" لا إلى التّقدير مطلقًا كما جاء في كلام شيخنا الأستاذ فاقتضى التّنبيه.[المقرّر].

[3]  أجود التّقريرات،ج1،305:"مع عدم تناهيها غالبًا".

[4]  بل إنّ عدم التّناهي هذا عقليّ؛ لأنّ الآنات الممكنة بحسب القسمة الوهميّة بين الحدّين لا نهاية لها عقلًا ولا تصل إلى حدّ يمتنع فيه قسمتها، وعليه فالصّلاة الملحوظة في كلّ آن ستكون أفرادها المطابقة للزّمان اللّامتناهي القسمة لا متناهية العدد أيضًا.[المقرّر].

[5]  قد يقال: إنّ الواقع متناهٍ بالفعل والفرض كون الواقع للأفرد قد أُخذ متعلّقًا للأمر، فعلى هذا لا بدّ من القول بأنّ عدم التّناهي عرفيّ بل غالبيّ. لكنّنا نقول: إنّ الكلام على جعل الأوامر وهي إنّما تُجعل في مرتبة اللّحاظ المولويّ وإنّما تُلحظ ليُطلب إيجادها قبل وجودها؛ فالكلام قبل فعليّة الوجود وهو في دائرة اللّحاظ واللّحاظ عمل عقليّ تجري فيه القسمة الوهميّة بلا مانع ولذلك لا تتناهى الملحوظات المولويّة عقلًا بناءً على لحاظ الأفراد بخصوصيّاتها. ولا نحتاج إلى مزيد مقيس إليه لنقول بعدم التّناهي بل يكفي الزّمان وآناته العقليّة.[المقرّر].

[6]  لم يشر المحقّق النّائينيّ في عبارة الأجود إلى التّفصيل على ما لو أريد عنوان الفرد أو واقعه.[المقرّر].

[7]  أجود التّقريرات،ج1،ص305:"مضافًا إلى أنّ وجود التّخيير العقليّ في الجملة ممّا تسالم عليه الجميع ظاهرًا".

[8]  البحوث،ج2،ص402:"وقد استبعد الميرزا قده أن يكون هذا غرض الأصوليّين القدماء من عقد هذا البحث وذلك لوضوح عدم المحذور في التّخيير العقليّ وعدم الكلام فيه وإنّما الكلام بينهم في التّخيير الشّرعيّ.

ونحن نضيف على ذلك أنّه لا يمكن إنكار التّخيير العقليّ حتّى لو قيل بتعلّق الحكم بالأفراد والحصص على سبيل البد وذلك باعتبار أنّ العنوان تارة: يؤخذ مشيرًا إلى حصّة معيذنة وفرد في الخارج مفروغ عنه، وأخرى: لا يؤخذ كذلك. فعلى الأوّل لا يمكن تعلّق الأمر به، لما تقدّم من أنّه تحصيل للحاصل وأنّ متعلّق الأمر لا بدّ وأن يكون المفهوم بما هو هو لا بما هو مشير إلى واقع خارجيّ مفروع عنه. وعلى الثّاني يكون متعلّق الامر مفهومًا كلّيًّا مهما ضُيّق وحُصّص وقُيّد بقيود مختلفة إذ يبقى مع ذلك كلّيًّا ما لم يفرغ عن وجوده الّذي يكون به التّشخّص الحقيقيّ.

نعم لو فرض اختيار المسلك القائل بعروض الوجود على الماهيّة الشّخصيّة الّذي يعني تعقّل التّشخّص في الماهيّة بغير الوجود أمكن تعلّق الحكم بالفرد بمعنى الماهيّة الشّخصيّة دون أن يلزم تحصيل الحاصل ولا يكون تخييرًا عقليًّا حينئذٍ إلّا أنّ هذا المسلك غير مقبول في نفسه على ما حقّق في محلّه".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است