تعلق الامر بالطبائع (۶ ربیع الثانی ۱۴۴۴)

قرّرنا كلام المحقّق النّائينيّ في المراد من الفرد في مقابل الطّبيعة. وملخّصه: أنّ المقصود بتعلّق الأمر بالطّبيعة أن تكون مأخوذة من دون الخصوصيّات والمشخّصات، فيما الفرد هو الطّبيعة مع الخصوصيّات لكن مع عدم دخول الخصوصيّات في مقوّم الماهيّة، لأنّها متوئمة للماهيّة وليست مقيّدة لها على خلاف ما ذكره المحقّق  الآخوند؛ فتأمّل.

والتّوأمة الّتي تحدّثنا عنها هنا تختلف بعض الشّيء عن توأمة المحقّق العراقيّ من حيث إنّها عنده أعمّ من المقوّم وغيره، أمّا هنا فأردنا منها خصوص المقارن غير المقوّم من الخصوصيّات الخارجة عن الذّات. فقد ذكر المحقّق العراقيّ في مورد الحصّة التّوأم الذّاتيّات كالفصل يكون مقوّمًا للجنس، والحصّة بهذا المعنى هي محلّ خلاف بين العلماء أمّا بالمعنى الّذي ذكرناه والّذي يرجع إلى ما أفاده المحقّق النّائينيّ فهي محلّ قبول عند الجميع.

ومثالها ما لو أمر المولى بالصّلاة المحتفّة بالمشخّصات المختلفة على نحو التّبادل بحيث تلتصق تلك الخصوصيّات بالماهيّة قهرًا من دون أن تلحظ بإرادة تتعلّق بها لكونها ذات غرض عند الشّارع، لا بل هي غير دخيلة في الغرض، والملاك كلّه في الماهيّة من حيث هي، لكنّها لا يمكن من حيث هي تعلّق الأمر بها بناءً على عدم وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج.

ذكر المحقّق النّائينيّ _بناء على ما جاء في أجود التّقريرات_ عبارة إن لم تتلقّ جيّدًا ستكون محلًّا للإشكال، وهي قوله بأنّ الخصوصيّات توجد قهرًا عند وجود الطّبيعة بناءً على القول بتعلّق الأوامر بالطّبائع حيث يكون التّشخّص في رتبة الوجود.[1] على أنّ هذه العبارة لم تأت في الفوائد بل عبّر بدل القهريّة بالتّبعيّة[2].

فما هو المراد من القهريّة؟ هل هي قهريّة متعلّقة بفعله تعالى؟ بحيث يُقهر عزّ وجلّ على ترتيب تلك المشخّصات وجوديًّا على وجود الطّبيعة؟ لا؛ أصلًا لا علاقة لها بهذه الحيثيّة. بل معنى هذه القهريّة هو كونها غير داخلة في إرادة الجاعل الّتي تعلّقت بالماهيّة بما هي هي لكون الغرض فيها ولا غرض له في الخصوصيّات، ولكن لا وجود من دون تشخّص فلزمت وترتّبت وهي خارج دائرة المتعلّق. وعليه فإرادة الماهيّة لا تتقوّم بإرادة مشخّصاتها ولك أن تقول إنّ للمشخّصات إرادة تبعًا لإرادة الماهيّة غير المنفكّة عنها.

نعم، حتّى تُخلق وتُكوّن لا بدّ لها من إرادة تكوينيّة ولا كلام في ذلك. ولو كان الغرض المولويّ فيها لتعلّقت الإرادة التّشريعيّة بها ولكان لها إرادة مستقلّة مختلفة عن الإرادة الّتي تتعلّق بالطّبيعة لكون الملاك فيها دون أيّ خصوصيّة زائدة على ذاتها.

وكيف كان: لوازم الوجود ليست لوازم إرادة الماهيّة بل تراد تلك الخصوصيّات واللّوازم بتبع إرادة الماهيّة.

لكن أليس هذا المعنى يعيدنا إلى الإشكال الّذي كان المحقّق النّائينيّ بصدد التّفصّي عنه وهو كون القول بالفرد مستلزمًا للتّخيير الشّرعيّ وإنكار التّخيير العقليّ بين الأفراد؟

والجواب أنّ المأمور به هنا هي الماهيّة الجامعة بين الماهيّات المتوزّعة على حصص من حيث المشخّصات. نعم الحصص متباينة لكنّها متباينة وجودًا لا ماهيّة وحقيقة. إذ كنّا قد ذكرنا أنّ الماهيّات على الفرد ليست متعلّقًا للأمر بقيد خصوصيّاتها ومشخّصاتها؛ فيكون متعلّق الأمر هو الجامع لا المتباينات من حيث هي متباينات. ومن هنا تعرف أنّ التّخيير الشّرعيّ يتأتّى حيث تكون متعلّقات الأوامر متباينة في الحقيقة لا في الوجود ولتتباين الحقائق لا بدّ من دخول الخصوصيّات في حريم المأمور به أي أن تتعلّق بها الإرادة المولويّة. إذا تبيّن هذا: ظهر أنّ التّخيير العقليّ هو المحكّم في مقام الامتثال.

لكن مع ذلك، الفرق يظهر من جهة اجتماع الأمر والنّهي، فمع كون الماهيّات مشتركة والتّخيير بينها عقليًّا إلّا أنّه هنا لا مجال لاجتماع الأمر والنّهي. فإنّه إذا كانت الحصّة  التّوأم للمشخّصات هي المأمور بها وعلى الرّغم من عدم كون المشخّصات قيدًا للماهيّة وعدم كون التّوأميّة قيدًا كذلك إلّا أنّه لا معنى للأمر بالحصّة والنّهي عن توأمها؛ فيأمر بالصّلاة مثلًا ويُنهى عن شيء من مشخّصاتها كالغصب.

ثمّ إنّه قد جاء في الأجود[3] تحرير النّزاع بناء على وجود وعدم وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج وبالتّالي هل معروض الوجود هي الماهيّة من حيث هي قبل التّشخّص بحيث يحصل التّشخّص في عرض الوجود أم أنّ الماهيّة  الّتي حصل التّشخّص في عرضها وقبل الوجود هي معروض الوجود؟ والإشارة إلى كون ثمرة الاختلاف في المبنى هو القول باجتماع الأمر والنّهي أو عدمه تبعًا للقول بوجود الماهيّة وعدمها. فيما جاء في الفوائد[4] [5] أنّ الاجتماع وعدمه لا يبتني على وجود الطّبيعة وعدمه في الخارج. لكن مع ذلك لا تهافت بين العبارتين كما يظهر بدوًا؛ وذلك أنّه إذا فسّرنا النّزاع في تعلّق الأمر بالطّبيعة أو بالفرد بالنّزاع في انتزاعيّة الطّبيعة أو وجودها فلا صلة لبحث اجتماع الأمر والنّهي بهذا. يعني إذا فسّرنا النّزاع في وجود وعدم وجود الكلّيّ الطّبيعيّ في الخارج  بأنّه نزاع في كون الطّبيعة أمرًا انتزاعيًّا أم لا، فلا علاقة للنّزاع في اجتماع الأمر والنّهي بالمقام؛ لأنّه حتّى القائل بالفرد قائل بوجود الطّبيعة والماهيّة وليس منكرًا لذلك ولا يقول بكونها أمرًا انتزاعيًّا بمعنى خارج المحمول. فلا يبتني بحث الاجتماع على كون الماهيّة انتزاعيّة أو حقيقيّة. لكن إذا فسّرناه بالمعنى الّذي أشار إليه المحقّق النّائينيّ من أنّه هل تكون المشخّصات معروضًا للوجود أم لا هي في رتبة الوجود، فالنّزاع في مسألة الاجتماع يبتني على ذلك.[6]

وقد ذكر في الفوائد أنّ النّزاع في تعلّق الأمر بالطّبيعة أو بالفرد هو نزاع في أنّه هل تكون المشخّصات متعلّقًا للأمر بإرادة تبعيّة أم لا؟ ونظّر لذلك بتعلّق إرادة تبعيّة بالمقدّمة،[7] على ما بين المقامين من تفاوت واختلاف ظاهر. والتّفاوت هو أنّ إرادة المقدّمة غير منفكّة عن إرادة ذي المقدّمة لكن بإرادة مستقلّة تكون بتبع إرادة ذي المقدّمة، بحيث تكون إرادة المقدّمة مقوّمة لإرادة ذي المقدّمة لأنّ المقدّمة علّة وجودها فما لم ترد المقدّمة سوف لن يتحقّق ذو المقدّمة. أمّا إرادة الخصوصيّات في محلّ الكلام فليست من هذا القبيل بل هي غير مقوّمة لإرادة الماهيّة.

وقد أشار المحقّق النّائينيّ في آخر الكلام إلى مطلبين:

الأوّل عدم ابتناء بحث اجتماع الأمر والنّهي على أصالة الوجود أو الماهيّة،[8] فسواء كانت الماهيّة أصيلة أم كان الوجود هو الأصيل سيبقى مجال للنّزاع لأنّه يرجع إلى التّركيب الانضماميّ والتّركيب الاتّحاديّ.

والثّاني هو أنّ بحث اجتماع الأمر والنّهي لا يبتني على دلالة الدّليل على وجود الملاك أو عدم دلالته،[9] بل يتأتّى البحث في الجواز والامتناع حتّى على مسلك الأشعريّ القائل بعدم تبعيّة الأحكام للملاكات.

 

[1]  أجود التّقريرات،ج1،ص306:"بل المراد من هذا النّزاع _على نحو يكون نزاعًا معقولًا_ هو أنّ الإرادة الفاعليّة الموجدة للشّيء في الخارج هل تتعلّق بنفس الشّيء مع قطع النّظر عن مشخّصاته _وهي إنّما توجد معه قهرًا؛ لاستحالة وجوجد الشّيء بدون التّشخّص_ أو أنّ المشخّصات تكون مقوّمة للمراد بما هو مراد ويستحيل تعلّق الإرادة بنفس الطّبيعيّ من دون مشخّصاته؟"

[2]  الفوائد،ج1،ص417:"بالّذي يمكن أن يكون محلّ النّزاع على وجه يرجع إلى أمر معقول: هو أن يكون النّزاع في سراية الأمر بالطّبيعة إلى الأمر بالخصوصيّات ولو على النّحو الكلّيّ، أي خصوصيّة ما، بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطّلب تبعًا".

[3]  أجود التّقريرات،ج1،ص305.

[4]  الفوائد،ج1،ص416:"وعلى هذا لا تبتني مسألة جواز اجتماع الأمر والنّهي على ذلك بل إنّ للبحث عن المسألة مجالًا سواء قلنا بوجود الكلّيّ الطّبيعيّ أو لم نقل".

[5]  المصدر نفسه،ص417:"فظهر أنّ منع ابتناء المسألة على تلك المسألة بإطلاقه لا يستقيم".

[6]  رفع التّهافت ليس بما ذكر؛ بل بالقول إنّ لبحث الاجتماع وعدمه مجالًا على القول بتعلّق الأوامر بالطّبائع على ما أشار المحقّق النّائينيّ، فلا إطلاق للابتناء ولا لعدمه. عبارته في الفوائد،ج1،ص417:"لو قيل بتعلّق الأحكام بالأفراد بالمعنى المتقدّم من سراية الأمر إلى الخصوصيّة ولو تبعًا فلا مجال للنّزاع في الجواز لأنّه يلزم أن يتعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النّهي ولو بالتّبعيّة فيمتنع الاجتماع. ولو قلنا بتعلّق الأحكام بالطبائع من دون أن يسري الأمر إلى الخصوصيّات كان للنّزاع مجال، من جهة وجود المتعلّقين بتأثير واحد. فظهر أنّ منع ابتناء المسألة على تلك المسألة بإطلاقه لا يستقيم".[المقرّر].

[7]  الفوائد،ج1،ص417:"بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطّلب تبعًا نظير تعلّق الإرادة التّبعيّة بالمقدّمة وإن لم يكن من ذلك. فالقائل بتعلّق الأحكام بالأفراد يدّعي السّراية والتّبعيّة والقائل بتعلّق الأحكام بالطّبائع يدّعي عدم السّراية وأنّ المأمور به هو الطّبيعة المعرّاة عن كلّ خصوصيّة أي السّاذجة غير الملحوظ معها خصوصيّة أصلًا".

[8]  المصدر نفسه،ص418:"نعم ابتناء المسألة على مسألة أصالة الوجود أو الماهيّة ممّا لا وجه له؛ فإنّه لا يفرق الحال فيما نحن فيه بين أن نقول بأصالة الوجود أو أصالة الماهيّة، فإنّه حتّى على القول بأصالة الوجود يجري النّزاع من جهة دعوى اتّحاد وجود المتعلّقين أو عدم اتّحاده وأنّ لكلّ منهما حظًّا من الوجود يخصّه لا ربط له بالآخر".

[9]  المصدر نفسه:"كما أنّ  ابتناء المسألة على كون كلّ من الدّليلين متكفّلًا للمناط والمصلحة الّتي أوجبت الأمر والمفسدة الّتي أوجبت النّهي ممّا لا وجه له، فإنّ البحث في المقام لا يتوقّف على المناط والمصلحة لوالمفسدة حيث إنّ البحث يجري ولو قلنا بمقالة الأشارعة وأنكرنا المصالح والمفاسد، بل الّذي يتوقّف عليه البحث في المقام هو أنّ يكون الموجود في مورد الاجتماع تمام ما هو موضوع الأمر وتمام ما هو موضوع النّهي من دون أن يكون أحدهما فاقدًا لقيد اعتبر فيه".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است