الواجب التخییری (۱ جمادي الاولی ۱۴۴۴)

بحثنا في حقيقة الواجب التّخييريّ وقد قرّرنا بيان الشّيخ الآخوند وكما رأينا هناك ثمرة عمليّة مترتّبة على اختلاف المباني.

لكنّه لم يرد صريحًا[1] في عبارة الكفاية القول بكون الواجب التّخييريّ هو الواجب المشروط على ما فهمه منه السّيّد الصّدر وكذا السّيّد الخوئيّ. بل ما ذكره صاحب الكفاية هو التّفريق بين التّخيير العقليّ والتّخيير الشّرعيّ[2] على أساس الآثار معبّرًا عن وجود وجوب ما في مورد التّخيير الشّرعيّ يقتضي نحوًا خاصًّا من التّبعات بحيث يكون المتعلّق واحدًا في التّخيير العقليّ وكذا الغرض واحدًا، غاية الأمر وجود أفراد يتحقّق فيها الطّبيعيّ والغرض المطلوب. وهذا النّحو من التّخيير خارج عن محلّ الكلام. نعم؛ أحيانًا تكون أفراد المتعلّق واضحة الاندراج تحت كلّيّ واحد، وأخرى تكون الأفراد متباينة عرفًا غير مندرجة تحت كلّيّ جامع مثل الإطعام والعتق، ومن حيث إنّها مؤثّرة في أمر واحد وغرض واحد نفهم أنّها ترجع إلى جامع واحد لأنّ الأمور المتباينة من حيث هي كذلك لا يمكن أن تؤثّر أثرًا واحدًا، لأنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد. فلا بدّ لها من جهة اشتراك هو الجامع بينها وله وحدة نوعيّة. مثال الأوّل الأمر بالعتق وله أفراد؛ ومثال الثّاني العتق والإطعام. فالعتق والإطعام متفاوتان من حيث حقيقتهما، ولكنّ تأثيرهما في غرض واحد يكشف عن وحدة ما بينهما هي الجامع المأمور به حقيقة وذلك ببرهان السّنخيّة.

وعلى حدّ قول المحقّق الأصفهانيّ[3] تأثير الغضب والشّمس والنّار والحركة في الحرارة لا بدّ أن يكون راجعًا إلى وجود جامع بين هذه الأمور لتؤثّر في أمر واحد.[4]

ولكن لنا قرينة في المقام هي الظّهور يعيّن لنا كون تعلّق الأمر بأمور متعدّدة أمرًا بتلك الأمور المتعدّدة على ما هي عليه من الاختلاف، ففي مقام الإثبات متى تعلّق الأمر بأمور مختلفة كان ذلك كاشفًا عن وجود أغراض متعدّدة في كلّ واحد منها على ما له من خصوصيّة واختلاف وهذا يعني عدم كون التّخيير القائم بينها تخييرًا عقليًّا. فالتّخيير الشّرعيّ يثبت حيث يكون هناك أغراض متعدّدة إلزاميّة التّحصيل مع عدم وجود قابليّة لاستيفائها في عرض واحد. وهذا يعني أنّه حيث أوجب الشّارع خصالًا فقد أوجب كلًّا منها بوجوب تعيينيّ نستكشف من خلال آثاره.

وهذا ما فهم منه السّيّد الصّدر قول الشّيخ الآخوند برجوع الواجب التّخييريّ إلى الواجب المشروط[5] في حين أنّه لو أراد الواجب المشروط لعبّر عن ذلك بأريحيّة. والحال أنّ الشّيخ الآخوند لم يذكر ذلك بل عبّر عن وجوب وإن لم نفهم حقيقته إلّا أنّنا نفهم جيّدًا آثاره وتبعاته وهي:

  1. لا يجب الجمع بين الأطراف فيجوز ترك كلّ منها الى البدل؛[6]
  2. إذا وقع الجمع في الخارج ففيه امتثال واحد كما لو أطعم وأعتق لكن لو كان واجبًا مشروطًا لكان في المقام امتثالان لا امتثال واحد،[7] وذلك أنّ شرط فعليّة كلّ من الوجوبات المشروطة هو عدم امتثال الآخر في رتبة سابقة فلو لم يمتثل الكلّ كان الكلّ فعليًّا ولو امتثلها في عرض واحد لتحقّق عدم الامتثال في رتبة سابقة فلا بدّ من تعدّد في الامتثال[8]؛ وهذا ما أشكل به من فسّر مقالة الشّيخ الآخوند بالواجب المشروط والحال أنّه لم يقل بتعدّد الامتثال بل قال بامتثال واحد للواجب التّخييريّ فكيف يكون من الواجب المشروط؟؛
  3. العقاب على ترك الكلّ هو عقاب واحد لا عقابان،[9] وأشكلوا بأنّه ما الفرق بين الواجب المشروط الّذي صحّح على أساسه التّرتّب وبين الواجب المشروط الّذي أُرجع إليه الواجب التّخييريّ حتّى يُقال في الأوّل بتعدّد العقاب ثمّ يقال هنا بوحدته وهل الشّيخ الآخوند بغافل عن مثل هذه اللّوازم الفاسدة؟ كيف والشّيخ الآخوند فرض المقام من باب التّزاحم بين الملاكات في الاستيفاء[10] بحيث لا يمكن الجمع بين المتعلقات في الاستيفاء فيجب كلّ من الخصال بنحو وجوب لم يقل إنّه وجوب تعيينيّ مشروط بل قال بوجوب ما نعرفه بآثاره.

فلا مجال لوجوب أحدهما بل يجب كلّ منهما في المقام؛ فلا يجب أحدهما المفهوميّ ولا أحدهما المصداقيّ. فكيف يقال بوجوب أحدهما مفهومًا والحال أنّ الغرض في الكلّ؟ وهذا يعني أنّ وجوب أحدهما مفهومًا غلط لأنّ الفرض أنّ كلًّا من الأطراف واجد لغرضه ومصلحته.

وكيف يقال بوجوب أحدهما المصداقيّ والحال أنّه لا معنى لتعيين أحدهما بعينه؟ لو قيل بذلك لقيل بترجيح طرف على الآخر ليكون هو بشخصه متعلّقًا للأمر دون غيره.

وكذلك لا معنى للقول بسقوط الأمر بالاتيان بأحدهما، لأنّه إن كان يمكن الجمع بينهما لوجبا معًا وإن لم يمكن الجمع لما وجبا معًا، فلا معنى للمشروطيّة على مستوى السّقوط.

فلا أحدهما المفهوميّ هو الواجب ولا أحدهما المصداقيّ ولا هما معًا على نحو التّعيين بل الطّرفان أو الأطراف واجبة بنحو من الوجوب ذي الأثر المعيّن.[11]

وقد ذكر الشّيخ الآخوند مطلبًا مهمًّا في التّعليقة[12] يرتبط بأحدهما المفهوميّ وهو معنى الفرد المردّد كنّا قد بيّناه في الفرد المردّد؛ مفاده: أنّ الفرد المردّد لا واقع له لكن لا إشكال في تعلّق الأمر الاعتباريّ (الّذي لا يكون بداعي البعث والتّحريك) به وكذا لا إشكال في تعلّق بعض الصّفات الحقيقية كالعلم به أيضًا، فقد يعلم المرء بأنّ النّجس هو إمّا هذا وإمّا ذاك. لكن هذا شيء والبعث نحو الفرد المردّد شيء آخر، بحيث لا يعقل البعث نحو الأمر المردّد، إذ البعث على وزان الإرادة للفعل. فهل يصحّ إرادة المردّد من حيث هو مردّد وتحريك العضلات باتجاهه؟ فكما أنّه لا يصحّ تعلّق الإرادة بالمردّد في التّكوينيّات بل تتعلّق بالمتعيّنات، كذلك لا يصحّ في التّشريعيّات أي في إرادة الشّيء من الغير، وهذا ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ[13] وجذوره موجودة في كلام الشّيخ الآخوند. فما يمكن دفع الآخر إليه هو ما يمكن أن أندفع إليه تكوينًا ولا يصحّ التّحريك باتجاه ما لا يصحّ التّحرّك إليه. وعلى هذا؛ صحّ أنّ العلم وكذا الأمر الاعتباريّ يتعلّقان بالفرد المردّد، لكن لا يجوز أن يتعلّق الأمر الحقيقيّ المتقوّم بالبعث والتّحريك بالفرد المردّد.

لكن هنا نكتة:

ما ورد في كلام الشّيخ الآخوند منسجم تمامًا مع ما نظّر له المحقّق العراقيّ من الوجوب النّاقص[14] الّذي كنّا أفردنا له بحثًا عقيب التّرتّب. إذ ليس الوجوب النّاقص إلا وجوبًا ما ونحو من الوجوب غير المشروط، وعلى أساسه حلّ المحقّق العراقي عويصة التّزاحم في الامتثال حيث ذهب إلى عدم الحاجة إلى القول بالاشتراط مع إمكان حلّ التّزاحم من دون اشتراط بل يبقى الوجوب على حاله في الإطلاق وهو معنى الأمر بسدّ باب العدم إلّا من جهة الأهمّ. وهو بعينه يطبّق هنا؛ فهنا أمر بسدّ باب الإطعام من غير جهة العتق وكذا بسدّ باب العتق من غير جهة الإطعام وليس المكلّف مأمورًا بالجمع. تمامًا كصلاتي القصر والتّمام حيث لا يتمكّن المصلّي للتّمام من أن يستوفي ملاك القصر بعد أن سبق اتيانه بالقصر اتيانه بالتّمام لارتفاع شرط استيفاء مصلحة القصر. لكن بعد الوقوف على تبعات الوجوب التّخييريّ يتأتّى إشكالات أيضًا تمنع من حمل كلامه عليه وإن كان ما جاء في كلام صاحب الكفاية صالحًا لأن يكون جذرًا للتّنظير للوجوب النّاقص.

 

 

 

[1] المباحث،ج1 من القسم الثّالث،تعليقة السّيّد كاظم الحائريّ،ص283:"كأنّ هذا توجيه لكلام صاحب الكفاية، وإلّا فهو لم يصرّح برجوع الوجوب التّخييريّ في هذا القسم إلى وجوبين مشروطين وإنّما قال ما نصّه...".

[2] الكفاية،ج1،ص197:"والتّحقيق أن يقال إنّه إن كان الأمر بأحد الشّيئين بملاك أنّه هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ولذا يسقط به الأمر كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، وكان التّخيير بينهما بحسب الواقع عقليًّا لا شرعيًّا؛ ولذلك لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين...

وإن كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر باتيان كان كلّ واحد واجبًا بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته، من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر وترتّب الثّواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما".

[3]  بل ما ذكره المحقّق هو خلاف ما استشهد به شيخنا الأستاذ.[المقرّر].

[4]  نهاية الدّراية،ج1،ص491:"لذا قيل باستناد الواحد النّوعيّ إلى المتعدّد كالحرارة المستندة إلى الحركة تارة، وإلى النّار أخرى، وإلى شعاع الشّمس ثالثة، وإلى الغضب أيضًا وكالاأجناس فإنّها لوازم الفصول والفصل كالعلّة المفيدة لطبيعة الجنس فيستند الواحد الجنسيّ إلى فصول متعدّدة مع تباين الفصول بتمام دوالّها بل قال بعض الأكابر لو لزم استناد الجهة المشتركة إلى جهة مشتركة أخرى لزم التّسلسل ولا يكفي انتهاؤها إلى جهة مشتركة ذاتيّة لأنّ الجهة المشتركة لا تخرج عن حيثيّة الاشتراك والوحدة النّوعيّة بمجرّد كونها ذاتيّة...

وأمّا مسألة المناسبة والسّنخيّة بين العلّة والمعلول فلا يقتضي الانتهاء إلى جامع ماهويّ ضرورة أنّ المؤثّر هو الوجود ومناسبة الأثر لمؤثّره لا تقتضي أن يكون هذا المقتضي والمقتضي الآخر مندرجين بحسب الماهيّة تحت ماهيّة أخرى، ألا ترى أنّ وجودات الأعراض مع تباين ماهيّاتها لكونها أجناسًا عالية أو منتهيّة إليها مشتركة في لازم واحد وهو الحلول في الموضوعات...

بحيث لا يكون استلزماها لها عن جهة أخرى غير ذاتها حتّى يجب الانتهاء إلى جامع يكون ذلك الجامع هو السّبب بالذّات، فليكن الفرض اللّازم لوجود الصّوم والعتق والإطعام كذلك وإن كان تأثّر النّفس مثلًا أومحلّ آخر بذلك الأثر القائم بها قيام العرض بموضوعه مثلًا بلحاظ قيام الأثر الخاصّ بمؤثّرات مخصوصة إلّا أنّ هذا المعنى لا يستدعي انتهاء الأثر القائم بالصّوم والعتق والإطعام إلى جامع بين الأفعال الثّلاثة وإن كان تأثّر المحلّ بذلك الأثر من تلك الأفعال بالسّنخيّة والمناسبة بين الأثر القائم بالمحلّ والغرض القائم بتلك الأفعال فتدبّر جيّدًا".

[5] المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص283:"النّظريّة الثّانية:ما ذكره صاحب الكفاية بالنّسبة لبعض موارد الواجب التّخييريّ من أنّه إذا كان في كلّ واحد من العدلين ملاك إلزاميّ مستقلّ إلّا أنّه لم يمكن الجمع بين الملاكين لتنافر بينهما وإن أمن الجمع بين الفعلين، فحينئذٍ يصبح وجوب كلّ منهما مشروطًا بترك الآخر، فيرجع الوجوب التّخييريّ في هذا المورد إلى وجوبين تعيينيّين مشروطين".

[6]  الكفاية،ج1،ص197:"من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر".

[7] المصدر نفسه:"وترتّب الثّواب على فعل الواحد منهما".

[8]  والصّحيح أنّ الشّرط هو عدم امتثال الآخر مطلقًا بدون قيد في رتبة سابقة أي ليس الشّرط عدم سبق امتثال الآخر بل عدم امتثال الآخر.[المقرّر].

[9] الكفاية،ج1،ص197:"والعقاب على تركهما".

[10] المصدر نفسه:"وإن كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصلو الغرض في الآخر باتيانه كان كلّ واحد واجبًا بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته".

[11]  المصدر نفسه:"فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقًا ولا مفهومًا كما هو واضح، إلّا أن يرجع إلى ما ذكرناه في ما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينهما. ولا أحدهما معيّنًا مع كون كلّ منهما مثل الآخر ي أنّه وافٍ بالغرض ولا كلّ واحد منهما معيّنًا مع السّقوط بفعل أحدهما بداهة عدم السّقوط مع إمكان استيفاء ما في كلّ منهما من الغرض وعدم جواز الإيجاب كذلك مع عدم إمكانه، فتدبّر".

[12] المصدر نفسه، التّعليقة:"فإنّه وإن كان ممّا يصحّ أن يتعلّق به بعض الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة كالعلم فضلًا عن الصّفات الاعتباريّة المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما ممّا كان من الخارج المحمول الّذي ليس بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه_ إلّا أنّه لا يكاد يصحّ البعث حقيقة إليه والتّحريك نحوه، كما لا يكاد يتحقّق الدّاعي لإرادته والعزم عليه ما لم يكن نائلًا إلى إرادة الجامع والتّحرّك نحوه فتأمّل جيّدًا".

[13] نهاية الدّراية،ج1،ص495:"وممّا ذكرنا يتّضح أنّ عدم تعلّق البعث بالمردّد ليس لخصوصيّة في البعث بلحاظ أنّه لجعل الدّاعي ولا ينقدح الدّاعي إلى المردّد، بل لأنّ البعث لا يتعلّق بالمردّد حيث إنّ تشخّص هذا الأمر الانتزاعيّ أيضًا بمتعلّقه وإلّا فالبعث بما هو لا يوجد فلا يتعلّق إلّا بالمعيّن والمشخّص، ولو كان بمفهوم المردّد فإنّ المردّد بالحمل الأوّليّ معيّن بالحمل الشّايع، والكلام في المردّد بالحمل الشّايع وهكذا الإرادة التّكوينيّة والتّشريعيّة لا تشخّص لهما إلّا بتشخّص متعلّقهما إذ الشّوق المطلق لا يوجد بافهم واغتنم".

[14] نهاية الأفكار،ج1،ص368:"ومن ذلك البيان ظهر الحال في كلّيّة التّخييرات الشّرعيّة أيضًا إذ نقول برجوع الأمر التّخييريّ في جميع الموارد إلى إيجاب كلّ واحد من الفردين أو الأفراد لكن بإيجاب ناقص بنحو لا يقتضي إلّا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو التّرك في حال ترك الآخر مع كون التّرك في حال وجود الآخر تحت التّرخيص كما صنعه صاحب الحاشية قدس سرّه في تعريف الواجب التّخييريّ حيث عرّفه بأنّه طلب الشّيء مع المنع عن جميع أنحاء تروكه الرّاجع في الحقيقة إلى كون الواجب في كلّ واحد من الفردين التّخييريّين هي الحصّة الملازمة مع عدم الآخر لا مطلق وجودهما على الإطلاق".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است