الواجب الكفايي (۱۱ جمادي الثانیة ۱۴۴۴)

أحد التّصويرات الّتي طرحت للواجب الكفائي هو حرمة ترك المكلّف للفعل المقارن لترك سائر المكلّفين.[1] فمعنى الوجوب الكفائيّ هو الجمع بين التّروك بحيث يكون ترك تجهيز الميّت من المكلّف المنضمّ إلى سائر تروك المكلّفين للتّجهيز مبغوضًا عند المولى، أمّا إذا لم يترك الجميع لما كان منضمًّا ترك المكلّف إلى كلّ التّروك فهو ليس بمبغوض. أي متى كان ترك المكلّف مصداقًا للتّرك المنضمّ إلى تروك البقيّة كان حرامًا. وهذا بحسب تقرير السّيّد الصّدر.

ولعلّ ما هو بصدده هو بيان فهمه لقول المحقّق العراقيّ في الوجوب النّاقص. وهنا قال[2] إنّه كلام معقول على المستوى الثّبوتيّ ويمكن أن يكون الوجوب الكفائيّ لفظًا يعبّر عرفًا عن هذه الحرمة للتّرك المنضمّ، لكن هذا التّصوير للوجوب يرجع إلى الحرمة والحرمة مبغوضيّة وكراهة فيما الوجوب حبّ وإرادة، فهذا البيان لا ينسجم مع كون الحكم وجوبًا وتفسيرالوجوب بالحبّ والإرادة.

لم يتعرّض السّيّد الصّدر في الوجوب التّخييريّ للوجوب النّاقص لكن أحد مقرّريه أشكل على الوجوب النّاقص بهذا الإشكال الّذي ذكره السّيّد الصّدر هنا، إذ تطبيق فهمه للوجوب النّاقص تقتضي إرجاع الوجوب التّخييريّ إلى ممنوعيّة ترك الفعلين معًا وجواز التّرك غير المنضمّ إلى ترك العدل، كما أنّ معناه هنا بحسبه ممنوعيّة ترك الفعل على تقدير ترك الآخرين له. فقد فهم السّيّد الصّدر من الوجوب النّاقص حرمة في الجملة، لا كما ذكرنا من الوجوب ذي المقتضي القاصر، وذلك حتّى يتأتّى إشكاله وكذا إشكال تلميذه.

وكيف كان، هذا وجه من وجوه تصوير الواجب الكفائيّ، ولا إشكال ثبوتيّ فيه. لكن من أين علمنا بأنّ الوجوب حبّ وإرادة؟ في الصّوم مثلًا يمكن أن يفسّر وجوب الصّوم على حرمة الإفطار ويمكن أن يبيّن على وجوب الإمساك وهو من حيث هو متناسق مع الاثنين. وكما في شرب الخمر قد يقول شرب الخمر حرام وقد يقول يجب الإمساك عن شرب الخمر، فإن قال يجب الإمساك لم يكن ذلك منسجمًا مع كونه ذا مفسدة؟ والمصالح والمفاسد هي حيثيّات تعليليّة لا تقييديّة بالنّسبة للأحكام. ولا نقول بدلالة وظهور الوجوب في المصلحة وكون الفعل محبوبًا.

وأحد تصويرات الواجب الكفائيّ هو على أساس الوجوب النّاقص كما كنّا بيّنّا ونبيّنه من جهة يظهر خطأ فهم السّيّد الصّدر:

معنى الوجوب النّاقص هو أنّه في فرض فعل الآخر لا أمر، لأنّ الوجوب ناقص واقتضاءه ناقص، فهومن باب قصور المقتضي في الأمر لا من باب تقييد الأمر. فالأمر بالصّلاة منتف عند فعل الإزالة أي لا أمر بسدّ باب عدم الصّلاة. عند تجهيز الميت من قبل زيد فلا أمر بسدّ باب العدم من قبل سائر المكلّفين، ففي حال فعل الآخرين ليس هناك وجوب رأسًا لقصوره لأنّ الوجوب ناقص. نعم، مطلوبيّة الفعل تستلزم أن يكون التّرك حرامًا في فرض عدم إقدام الآخرين. وإذا كان الوجوب تامًا يصير عينيًّا في المورد. والطّلب النّاقص يستلزم عدم وجوب سدّ باب العدم لا أنّ معنى الطّلب هو المنع، فيما الطّلب التّامّ يستلزم عدم الرخصة في التّرك المطلق مع وجود رخصة إذا كان الطلب ناقصًا. وهنا خلط بين مفهوم الوجوب وما يستلزمه، فمفهوم الوجوب شيء وهو يستلزم ترك التّرك على الإطلاق في التّام وفي بعض الحالات في النّاقص.

وهذا تصوير معقول لا شكّ فيه ولا إشكال يعتريه على مستوى الثّبوت، وقد ذهب المحقّق العراقيّ[3] إلى أنّ ما فصّله في التّخييري يأتي هنا على مستوى الثّبوت واللّحاظ ويفترق عنه في مقام الإثبات؛ بيانه:

تارةً يكون الغرض واحدًا وأخرى متعدّدًا، وحيث يكون متعدّدًا يكون على نحو لا يمكن الجمع بين الأغراض في الاستيفاء، وعلى هذا قد تكون القدرة دخيلة في الاتّصاف بالغرض وقد تكون دخيلة في الاستيفاء.

ولكن يُتصوّر قسم واحد على مستوى الإثبات وهو ما لو كان بلحاظ غرض واحد. أي يتصور ثبوتًا الغرض الواحد وكذا الأغراض المتعدّدة، لكن إثباتًا هو دائمًا من باب الغرض الواحد الجامع بين الأغراض المتعدّدة بنحو لو أتوا به دفعة واحد لما كان هناك إشكال. وفي الحقيقة هو قال بالغرض الواحد ليفرّ من إشكال تضادّ الملاكات والأغراض حال تعدّدها، فكيف يتأتّى الكلام عن أغراض متعدّدة والفرض أنّ الأغراض المتعدّدة مقيّدة بالتّضادّ وعدم إمكان الجمع في الاستيفاء؟ وهذا يلزم منه أنّهم إذا جاؤوا بالفعل الواحد ذي الأغراض المتعدّدة المتضادّة في عرض واحد لما كان امتثال من أيّ منهم. مع الالتفات إلى أنّ المراد بكون الأفعال في عرض واحد هو كونها تنتهي في آن واحد مع عدم ضرورة أن تبدأ معًا في آن واحد، ومثّل لذلك بصلاة الميّت الّتي ينهي فيها المكلّفون التّكبيرة الخامسة معًا في آن واحد.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّه قد طرح مثال للوجوب الكفائيّ في تقريرات الشّيخ الآخوند وهو ما لو حمل عشرة أشخاص حجرًا ثقيلًا بدلًا من شخص واحد وهذا خطأ، ففي هذه الحالة يكون كلّ منهم جزءًا للعلّة في حين أنّ الشّيخ الآخوند قد صرّح بأنّه إذا جاء عدّة أشخاص بعمل كانوا جميعًا ممتثلين  وكانت أفعالهم من باب توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد. فلا بدّ أن يكون المثال أنّ عدّة أشخاص حملوا حجرًا كان كلّ واحد منهم حاملًا مستقلًّا له. وقد ألفتنا إلى أنّ توارد العلل على معلول واحد هو غير معقول في التّكوين لكنّه معقول في الاعتبار.

هذا تمام الكلام في الوجوب الكفائيّ.

 

 

[1] البحوث،ج2،ص426:"أن يكون الوجوب الكفائيّ مرجعه إلى تحريم ترك الفعل المنضمّ إلى ترك الآخرين لا مطلق التّرك وبهذا التّحويل نستطيع التّحفّظ على كلّ خصائص الوجوب الكفائيّ إذ يكون ترك الجميع عصيانًا من الجميع لصدور التّرك المذكور من كلّ واحد منهم وعلى تقدير مجيء واحد منهم أمكن للآخرين التّرك وعهلى تقدير مجيء أكثر من واحد كان كلّ منهم قد حقّق  الملاك وامتثل حيث تجنّب الحرام".

 

[2] المصدر نفسه:"وهذا التّفسير صياغة تشريعيّة معقولة للإيجاب بناءً على افتراض المسلك المشهور من كون الوجوب مجعولًا شرعيًّا ولعلّ الإيجاب على الجميع بنحو الوجوب الكفائيّ يكون تعبيرًا عرفيًّا عن هذه الصّياغة  التّشريعيّة كما أنّ هذا التّفسير معقول في الوجوب التّخييريّ بلحاظ المتعلّق ولكنّه لا يفي بتفسير روح الوجوب إذا أريد به الإرادة والحبّ كما لا يخفى".

[3] نهاية الأفكار،ج1،ص395:"بل ولئن تأمّلت ترى جريان الشّقوق المتصوّرة في الواجب التّخييريّ في المقام أيضًا من حيث تعلّق غرض وحدانيّ تارة بجامع فعل المكلّفين القابل للانطباق على فعل كلّ واحد من آحادهم، وأخرى تعلّق أغراض متعدّدة بفعل كلّ واحد من المكلّفين مع كونها بنحو لا يكاد حصول الغرض في واحد مع حصوله وتحقّقه في الآخر نظرًا إلى ما كان بين تلك الأغراض حينئذٍ من المضادّة. إمّا في مرحلة الوجود والتّحقّق وإمّا في مرحلة الاتّصاف بالغرض والمصلحة، حيث إنّ مرجع الجميع كما عرفت إلى تعلّق وجوب ناقص بفعل كلّ واحد من المكلّفين، ففي جميع الصّور كان المكلّفون كلّ واحد منهم مكلّفًا بالإيجاد، ولكن بتكليف ناقص بنحو لا يقتضي إلّا المنع عن التّرك في حال ترك البقيّة ونتيجة ذلك إنّما هو سقوط التّكليف بفعل بعضهم عن الجميع واستحقاقهم جميعًا للعقوبة عند إخلالهم بالامتثال مع امتثال الجميع أيضًا واستحقاقهم للمثوبة لو أتوا بالمأمور به دفعة واحدة، نعم هذا الأخير مخصوص بالفرض الأوّل وهو فرض قيام الغرض الوحدانيّ بالجامع، فإنّ قضيّته حينئذٍ هو تحقّق الامتثال بفعل الجميع فلا يجري في بقيّة الفروض، لأنّه فيها حسب مضادّة تلك الأغراض القائمة بأفعالهم إمّا بحسب الوجود أو الاتّصاف لا يكاد انتهاء النّوبة إلى امتثال الجميع مع اتيانهم دفعة واحدة حتّى يترتّب عليه استحقاقهم أجمع أيضًا للمثوبة بل ومقتضى بطلان التّرجيح بلا مرجّح حينئذٍ هو عدم حصول الغرض وعدم تحقّق الامتثال من واحد منهم أيضًا كما لا يخفى، هذا.

ولكن الّذي يسهّل الخطب هو أنّ ما ذكرناه من الفروض الأخر في الواجب الكفائيّ مجرّد فرض وبيان إمكان جريان فروض الواجب التّخييريّ في الكفائيّ أيضًا، وإلّا فما هو الواقع في الواجبات الكفائيّة طرًّا إنّما هو خصوص الفرض الأوّل، وعليه فكما أنّه بإخلالهم بالامتثال يستحقّ الجميع العقوبة كذلك باتيانهم جميعًا للمأمور به دفعة واحدة يتحقّق الامتثال من الجميع ويستحقّ الجميع المثوبة، نعم على فرض وقوع ما عدا الفرض الأوّل فيها أيضًا يبقى الكلام في أنّه هل يمكن فيها تصوير إناطة التّكليف بكلّ واحد منهم بعدم اتيان البقيّة كي يلزمه المصير إلى كون التّكليف المتوجّه إلى كلّ مكلّف تامًّا منوطًا بعدم اتيان البقيّة أم لا يمكن فينحصر تكليفهم كما في الواجب التّخييريّ بالتّكليف النّاقص حسب ما عرفت وفي ذلك كان التّحقيق هو الثّاني".

برچسب ها: الواجب الكفايي

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است