امتثال النهي بترك جميع أفراده (۲۲ رجب ۱۴۴۴)

تقدّم الكلام في جهتين من جهات البحث أولاهما في مفهوم النّهي وثانيتها في الكفّ والتّرك وهذه ثالثتها، ومفادها: كلّ من الأمر والنّهي طلب لكنّهما يختلفان على مستوى الامتثال بحيث يقال بأنّ امتثال الأمر يقع بالفعل الواحد والمرّة وإن لم يكن مفاد الأمر هي المرّة بل يسقط الأمر بالامتثال؛ فيما في النّهي يقال بأنّ التّرك غير الدّائم المستمرّ لا يكون امتثالًا، بل لا بدّ من ترك كلّ الوجودات المتعدّدة للطّبيعة المنهيّ عنها. فإذا كان مفاد كليهما شيء واحد هو الطّلب فلماذا يختلفان؟

(وهناك جهة رابعة للبحث حيث يقع فيها الكلام عن أنّه هل يسقط النّهي بعد عصيان واحد؟ بحيث لا يبقى محذور في ارتكاب متعلّق النّهي؟ أم أنّ النّهي يقتضي النّهي عن بقيّة الأفراد الطّوليّة بعد وقوع فرد العصيان؟ والتّفصيل ممكن عقلًا بحيث يكون الغرض في أن لا يقع هذا المنهيّ عنه أبدًا لكن متى وقع لم يعتنِ الشّارع بعدُ بالأفراد الأخرى كما في حرمة الإفطار بعد الظّهر في قضاء شهر رمضان المبارك حيث متى وقع منه الاتيان بالمفطر لم يعد مخاطبًا أصلًا بالامتناع عن تناول المفطرات ولا يوجد حكم بوجوب الإمساك تأدّبًا كما في الشّهر الكريم. وتظهر الثّمرة في أنّنا إن قلنا بالشّمول لم نحتج في إثبات حرمة الأفراد الطّوليّة للمنهيّ عنه إلى دليل جديد وإن قلنا بعدم الشّمول كان القول بالحرمة في البقيّة متوقّفًا على قيام دليل خاصّ.

والفرق واضح بين الجهتين.)

وقد تعرّض الشّيخ الآخوند لكليهما.

أمّا الثّالثة: ممنوعيّة الجميع في النّهي في مقابل جواز الاكتفاء بالواحد في الأمر:

أجاب الشّيخ الآخوند[1] أنّ هذا لا يرتبط بدلالة الأمر والنّهي بل هو مفاد حكم العقل. فالمأمور به هي الطّبيعة وهي تصدق بفعل واحد ويتحقّق المطلوب الّذي هو صرف الوجود وهذا هو دليل جواز الاكتفاء بالمرّة، لا أنّ معنى الأمر هو الاتيان بالمرّة بحيث تصير الطّبيعة مقيّدة بالمرّة الواحدة ولا يكون صرف الوجود حينئذٍ متعلّقًا للأمر. قوله: صلّ يفيد كون المطلوب هي الطّبيعة ،ولا يدخل التّكرار ولا عدمه في مفادها، لكن تتعيّن المرّة لأنّها مصداق الطّبيعة ومتى صدقت الطّبيعة سقط الأمر بسبب الامتثال. وإطلاق الأمر يقتضي نفي الخصوصيّة الزّائدة أي التّكرار فيثبت وجوب المرّة لكن لا من حيث إنّ الأمر يدلّ عليها بل من حيث إنّه بها يتحقّق المطلوب وهو صرف الوجود أي الوجود الأوّل للطّبيعة.

وأمّا في النّهي فحيث إنّ مفاده طلب التّرك أو الزّجر، فإنّه وإن كان متعلّق النّهي هو الطّلب لكنّه متعلّق بالتّرك للطّبيعة، وهذا التّرك لا يتحقّق إلّا بترك الطّبيعة مطلقًا، فلا يكون ممتثلًا إلّا بترك الكلّ. فلو استطاع الاتيان بأكاذيب متعدّدة في عرض واحد وجب عليه ترك الكلّ وبذلك يكون ممتثلًا أمّا أن يترك مرّة ويفعل ألفًا فقد أتى بالطّبيعة المنهيّ عنها والمطلوب إعدامها.

تنبّه: لا نريد أن نقول إنّ الأكاذيب ارتباطيّة بل المراد أنّه مكلّف بجميع التّروك، وليس ذلك لأنّ مفاد النّهي هو ترك الكلّ، بل مفاده هو طلب ترك الطّبيعة، لكنّ هذا التّرك لا يكون إلّا بترك المصاديق جميعًا لا بترك مصداق ما. ولا ينحلّ النّهي إلى نواهٍ متعدّدة ولكن ينحلّ على الأفراد فيكون حال ترك البعض ممتثلًا بترك الطّبيعة في الجملة ويستحقّ الثّواب على جملة دون الكلّ.[2] وهذا انحلال عرضيّ مقابل الانحلال الطوليّ الّذي يأتي في الجهة الرّابعة. فالكلام على الأفراد العرضيّة قبل عصيان وفي كون النّهي شاملًا للكلّ فيما البحث في الجهة الرّابعة هو أنّه بعد العصيان هل يبقى النّهي متعلّقًا بسائر الأفراد الطوليّة؟

علّق المحقّق الأصفهانيّ وكذلك السّيّد الخوئيّ بعدم صحّة هذا البيان، لأنّ التّقابل بين الوجود والعدم لا بدّ أن ينظر فيه أحدهما إلى الآخر بحيث إذا كان وجود الطّبيعة يصدق بفرد واحد فإنّ عدم الطّبيعة حالها هو عدم الفرد الموجود، أي إذا كان الوجود صادقًا بحصّة معيّنة فإنّ العدم يصدق بعدم تلك الحصّة خاصّة. فلا معنى لأن تقيّد بحصّة في الوجود فيما في النّهي والعدم يكون شاملًا لجميع الحصص بحيث يكون عدم ذاك الوجود الخاصّ هو مطلق عدم الحصص. المطلوب هو الوجود الخاصّ والمطلوب بالعدم هو عدم ذاك الوجود خاصّة لا عدم هذا الوجود وأعدام سائر الوجودات الأخرى أيضًا، بحيث تنتفي الطّبيعة وطبائع أخرى. وذلك أنّ نسبة الكلّيّ الطّبيعيّ إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة الأب الواحد إلى الأبناء. ولا يمكن باقتضاء حكم العقل أن يكون وجود الطّبيعة بوجود واحد وعدمها بعدم الكلّ، لأنّ التّقابل عقلًا هو بين وجود الطّبيعة وعدم الطّبيعة. فإذا كان المطلوب وجود جميع حصص الطّبيعة فعدمه عدم جميع حصص الطّبيعة، وإذا كان المطلوب وجود حصّة فعدمها هو عدم تلك الحصّة.

عدم الكلّيّ الطّبيعيّ لا مطابق له في الخارج فليس لدينا هكذا شيء فلا يوجد أمر واحد هو عدم الطّبيعة بل هناك أعدام لا متناهية بالنّسبة إلى كلّ فرد من أفراد الطّبيعة.

 

[1] الكفاية،ج1،ص207:"ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته على الدّوام والتّكرار كما لا دلالة لصيغة الأمر وإن كان قضيّتهما عقلًا تختلف ولو مع وحدة متعلّقهما بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرّة والنّهي أخرى؛ ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع كما لا يخفى.

ومن ذلك يظهر: أنّ الدّوام والاستمرار إنّما يكون في النّهي إذا كان متعلّقه طبيعة مطلقة غير مقيّدة بزمان أو حال، فإنّه حينئذٍ لا يكاد يكون مثل هذه الطّبيعة معدومة إلّا بعدم جميع أفرادها الدّفعيّة والتّدريجيّة.

وبالجملة قضيّة النّهي ليس إلّا ترك تلك الطّبيعة الّتي تكون متعلّقة له كانت مقيّدة أو مطلقة وقضيّة تركها عقلًا إنّما هو ترك جميع أفرادها".

[2] مع أنّه لا هو مطيع ولا هو منقاد بحكم العقل بل يصدق عليه كونه عاصيًا، والطّلب واحد هنا وإن انحلّ على الأفراد فما معنى استحقاقه للثّواب وهل يحكم بذلك العقل فعلًا في المقام؟[المقرّر].

برچسب ها: صیغه نهی

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است