الشک فی وجوب المقدمة (الدرس ۹۳)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ما زال الكلام في الأصل الجاري حال الشّكّ في الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، واختار الشّيخ الآخوند أنّ الأصل لا يجري في الملازمة مع جريانه في الوجوب على الإطلاق. وقد تقدّم منه إشكالان على جريانه في الوجوب وكذا تقدّم منه ردّهما.

طرح المحقّق الأصفهانيّ إشكالًا ثالثًا على جريان الأصل في وجوب المقدّمة نقلًا عن بعض العلماء،[1] [2]وهو في الحقيقة عين ما مرّ في الإشكال الأوّل؛ ومفاده: أنّ المرفوع باستصحاب عدم وجوب المقدّمة لا بدّ أن يكون تحت اختيار الشّارع، ووجوب المقدّمة ليس كذلك. فهو أمر قهريّ يترتّب بمجرّد جعل وجوب ذي المقدّمة، ولا يجري الأصل في أمر غير مجعول ليُحكم بنفيه، إذ لا بدّ أن تكون زمام مجراه بيد الحاكم وإلّا لا سلطة له عليه.

وبنظر شيخنا الأستاذ هذا عين ما قاله الشّيخ الآخوند في الإشكال الأوّل[3] من أنّ وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة، فهو غير مجعول بجعل شرعيّ ولذلك لا يجري الأصل. وما فسّرنا عليه عبارة "من قبيل لوازم الماهيّة" هو أنّه ليس مجعولًا شرعيًّا واقعًا تحت اختيار الشّارع، ولا هو ممّا يترتّب عليه أثر مجعول. ولو كان من أثر فهو ليس بمهمّ ها هنا كما عبّر صاحب الكفاية، والمهمّ هنا هو الجريان في مسألة أصوليّة وذلك لا يكون إلّا إن جرى الأصل في الملازمة أو في الوجوب العامّ الشّامل لكلّ الموارد، وليس بمهمّ في المسألة الأصوليّة جريان الأصل في مثل حرمة أخذ الأجرة على الواجبات وأمثالها، إذ يخرج الجريان عن التّثمير الأصوليّ. ولذلك لا يجري الأصل في وجوب المقدّمة على هذا الإشكال. هذا ما قرّرنا عليه إشكال الشّيخ الآخوند الأوّل.

ولذلك، إنّ جواب هذا الإشكال هو عين الجواب الإشكال المتقدّم. وهو أنّه وإن لم يكن وجوب المقدّمة مجعولًا بالذّات إلّا أنّه مجعول بالتّبع والعرض، فهو وإن لم يكن مجعولًا على نحو استقلاليّ عن وجوب ذي المقدّمة ولملاك نفسه، لكنّه يمكن أن يكون مجعولًا على نحو غير استقلاليّ تابع لإرادة ذي المقدّمة. فإيجاب ذي المقدّمة وقع بالاختيار، وترتّب وجوب المقدّمة قهرًا لا ينافي الاختيار. فهو قهريّ لكنّه اختياريّ بالتّبع والواسطة أي يمكن للمولى أن لا يجعل وجوب المقدّمة بعدم جعل وجوب ذي المقدّمة. والاستقلاليّة المتحدّث عنها هنا هي بمعنى الجعل المستقلّ لا الوجود المنحاز والاستقلال في الوجود.

نعم، لو كان مقصوده أنّ كون وجوب المقدّمة قهريًّا فإنّ جريان الأصل مؤدٍّ إلى احتمال التّفكيك بين المتلازمين وهذا محال لرجع مقصوده إلى الإشكال الثّاني الّذي ذكره الشّيخ الآخوند، فعلى كلّ حال ما طرحه ليس بالإشكال الجديد. ولعلّ المحقّق الأصفهانيّ نقل هذا الإشكال لأنّه قد فسّر إشكال الشّيخ الآخوند على معنى آخر،[4] بحيث  فهم عبارة "من قبيل لوازم الماهيّة" أنّ وجوب المقدّمة بالنّسبة لوجوب ذيها كالزّوجيّة بالنّسبة للأربعة. فردّ ذلك وقال بل هو من لوازم الوجود، وأنّ لوجوب المقدّمة وجودًا منحازًا كوجوب ذي المقدّمة، فهو غيره وليس عينه. لكنّ الشّيخ الآخوند لم يقل أنّه من لوازم الماهيّة بل قال هو من قبيل لوازم الماهيّة، أي ليس مجعولًا بالذّات بل مترتّبًا قهرًا، ومراده أنّه لا وجود اختياريّ له لا أنّه لا وجود استقلاليّ منحاز له. ولذلك أجاب عنه بأنّه وإن كان ترتّبه قهريًّا إلّا أنّه بالاختيار بتبع اختياريّة إيجاب ذي المقدّمة. من هنا تعلم أنّه لا محلّ لجواب المحقّق الأصفهانيّ هنا عن الإشكال الأوّل لصاحب الكفاية من أنّ وجود وجوب المقدّمة مستقلّ لا أنّه غير منحاز؛ وكلامه في الحقيقة غير قابل للقبول.

ثمّ، أورد إشكال آخر يستفاد من كلام السّيّد الخوئيّ[5] وغيره وهو إشكال تامّ بنظر شيخنا الأستاذ، فلا يجري الأصل في الوجوب لأجل هذا الإشكال. ومفاده: أنّ جريان الأصل لا بدّ أن يكون بلحاظ أثر عمليّ، أمّا إن لم يكن أثر عمليّ في المقام، ففي أي ّ شيء يجري الأصل؟ أمّا البراءة فلا تجري لعدم احتمال العقوبة، وأمّا إن كان الأثر من قبيل حرمة أخذ الأجرة على المقدّمات فذلك ليس بمهمّ لخروجه عن الأصوليّة. وما يُرتقب استقاء الأثر من جانبه هو وجوب الاتيان، بحيث لا يُعذر المكلّف بترك ذي المقدّمة بسبب ترك المقدّمة. ولكنّ هذا الأثر عقليّ، لا يحتاج إلى جعل شرعيّ ليترتّب. بل ولو جرى استصحاب العدم في الوجوب الشّرعيّ بقي الوجوب العقليّ على حاله، هذا. إلّا في جريان الأصل في مورد المقدّمات المفوّتة كما نبّه السّيّد الخوئيّ، فإنّها بحسب العقل غير واجبة لعدم فعليّة الوجوب، لذا احتاجت إلى حجّة تجعل وجوبها على ذمم المكلّفين قبل زمان الوجوب، فإن جرى الأصل فيها كان له أثر عمليّ هو رفع وجوب الاتيان بها لأجل الحجّة مع عدم ثبوت لزوم عقليّ في المقام، فيخلو المقام من حكم العقل وكذا يرتفع حكم الشّرع ويتأمّن المكلّف إن شكّ في الوجوب الشّرعيّ. ولكن هذا خارج عن محلّ الكلام، إذ كلامنا في كبرى الملازمة والإشكاليّة في جريان الأصل فيها أو في الوجوب العامّ.

وإن شئت قلت: إنّ جريان الأصل لا بدّ أن يكون بلحاظ ثمرته التّامّة الّتي نقلناها عن السّيّد الرّوحانيّ، فيكون أثر القول بعدم وجوب المقدّمة هو إثبات التّزاحم باستصحاب العدم أو بإجراء البراءة، فيُنفى بالأصل التّعارض ويثبت التّزاحم، إلّا أنّ الأصل الجاري هنا هو من أوضح مصاديق الأصل المثبت. إذ إنّ ترتّب التّعارض أو التّزاحم ليس من اللّازم الشّرعيّ، فلا التّعارض ولا التّزاحم من المجعولات الشّرعيّة، بل التّعارض مثلًا أمر عرفيّ يقول فيه العرف بالتّهافت بين خطابين ولا معنى لجعل الشّارع له من حيث هو. وعليه، وبتماميّة هذا الإشكال لا أصل في المسألة لا في الملازمة ولا في الوجوب. نعم يجري في موارد وجريانه فيها ليس من الجريان في مسألة أصوليّة.

على أنّ للسّيّد الصّدر في المقام إشكالات بعضها غير تامّ، وهو قد عالج ما جاء في الثّمرات هنا في باب جريان الأصل بحيث يكون انتفاء الثّمرة أثرًا عمليًّا. منها: ذكره أنّ من ثمرات وجوب المقدّمة تحقّق عنوان الإصرار على الذّنب بترك المقدّمات المتعدّدة، وبجريان الأصل عند الشّكّ يثبت عدم الإصرار عند تركها أي يُنفى تحقّق الفسق وهذه ثمرة. وأشكل عليها بأنّ الأصل هنا مثبت لأنّ المراد إثباته بالأصل هو تحقّق عنوان عدم الإصرار، إذ تحقّق عنوان الإصرار لازم عقليّ لتكرّر التّرك للمقدّمة وتعدّده على القول بوجوب المقدّمة، فإنّ عنوان الإصرار عنوان وحدانيّ لا تركيبيّ فلا يمكن إثباته أو نفيه بنفي الوجوب وإلّا كان الأصل مثبتًا. وعلّق شيخنا الأستاذ على هذا بأنّ مفهوم الإصرار مفهوم بسيط لكنّ مردّه إلى عنوان تركيبيّ، فهو ارتكاب الذّنب بعد الذّنب، وهذا لا تهافت فيه، لأنّه مفهوم بسيط عقليًّا لكنّه مركّب عرفيًّا. وحاله هذا حال مفهوم "الصّلاة متطهّرًا"، وسيلزم من ذلك عدم صدق الفسق في كلّ الموارد الّتي تثبت فيها المخالفة من خلال أصل عمليّ، كما لو علم بحرمة شيء وشكّ في بقائه على الحرمة فاستصحب الحرمة، فإذا ارتكبه لم يكن ذلك موجبًا لإثبات الإصرار من حيث إنّه موضوع للفسق، وهذا غير قابل للالتزام به في فقهيًّا. وكذلك العدالة لا تثبت باستصحاب عدم الحرمة.[6] [7]

بعد ذلك دخل الشّيخ الآخوند في البحث الأصليّ لوجوب المقدّمة، وهو من القائلين بوجوب المقدّمة بوجوب شرعيّ مولويّ وإلّا فالوجوب العقليّ مسلّم بلا خلاف. ولا بدّ من الإلفات إلى أنّ من قال بعدم ثمرة بحث وجوب المقدّمة إنّما تكون هاتان الصّفحتان من البحث بلا ثمرة، أمّا ما مرّ من مباحث مهمّة وضروريّة فهي ذات ثمرة عظيمة قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل.

 

[1]  أنظر نهاية الدّراية،ج1،ص415:"وإن أريد الإشكال على اختياريّة الإيجاب المقدّميّ حيث إنّه لا يتمكّن المولى من عدمه بعد إيجاب ذي المقدّمة فقد أشرنا سابقًا إلى دفعه من أنّ الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار فإنّ العلّة المتأصّلة فيهما واحدة تمّت تلك العلّة وبلغت حدّ الوجوب وجد معلولها قهرًا وهو عين الإيجاد بالإرادة والاختيار".

[2]  أنظر نهاية الدّراية،ج1،الحاشية،ص415:"كما هو ظاهر بعض أعلام العصر ويندفع بأنّ المراد من كون الوجوب المقدّميّ قهريًّا إن كان تماميّة علّيّة الإيجاب المقدّميّ بإيجاب ذيها فهو لا ينافي الاختياريّة كما في المتن [...] وإن كان المراد ترتّب الإيجاب المقدّميّ على إيجاب ذي المقدّمة قهرًا أراده أم لم يرده فهو محال لأنّ طبيعة الإيجاب وهو الإنشاء بداعي جعل الدّاعي متقوّم بالقصد والإرادة فيستحيل تحقّقها بلا إرادة. نعم إرادة المقدّمة بعد إرادة ذيها قهريّة إلّا أنّ الكلام في الوجوب المجعول من الشّارع وإلّا فإرادة المقدّمة كإرادة ذي المقدّمة تحصّل عقيب الدّاعي قهرًا لا بإرادة أخرى".

[3]  أنظر الكفاية،ج1،ص176:"وتوهّم عدم جريانه لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهيّة غير مجعولة ولا أثر آخر مجعول مترتّب عليه ولو كان لم يكن بمهمّ ها هنا، مدفوع بأنّه وإن كان غير مجعول بالذّات [...] إلّا أنّه مجعول بالعرض وبتبع جعل وجوب ذي المقدّمة وهو كافٍ في جريان الأصل".

[4]  المصدر نفسه،ص414:"ظاهر كلامه زيد في علوّ مقامه تسليم كون المورد من قبيل لوازم الماهيذة إلّا أنّ حاله حالها في عدم قبول الجعل استقلالًا وبالذّات وقبول الجعل بالعرض وهو كافٍ في جريان الأصل. والتّحقيق كونه من قبيل لوازم الوجود لا لوازم الماهيّة إذ ليست إرادة المقدّمة بالإضافة إلى إرادة ذيها كالزّوجة بالإضافة إلى الأربعة فإنّ الزّوجيّة من المعاني الانتزاعيّة من الأربعة بلحاظ نفسها مع قطع النّظر عن الوجودين من الذّهن والعين وهو مناط كون الشّيء من لوازم الماهيّة [...] بخلاف إرادة المقدّمة فإنّها بحسب الوجود غير إرادة ذيها لا أنّ إرادة واحدة متعلّقة بذيها بالذّات وبها بالعرض ومع تعدّد الوجود يجب تعدّد الجعل فلا يعقل كون الوجوب المقدّميّ بالإضافة إلى الوجوب النّفسيّ من قبيل لوازم الماهيّة الّتي لا اثنينيّة لها مع الماهيّة وجودًا وجعلًا".

[5]  أنظر المحاضرات،ج2،ص278:"والثّاني وهو الاستصحاب فأيضًا لا يجري لأنّ موضوعه وإن كان تامًّا، إلّا أنّه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الاتيان بها. وعلى الجملة فلا يترتّب أي أثر على استصحاب عدم وجوبها بعد لابدّيّة الاتيان بها على كلّ تقدير ومعه لا معنى لجريانه. نعم، لا مانع من الرجوع إلى الأصل من ناحية أخرى، وهي ما ذكرناه سابقًا من الثّمرة فيما إذا كانت المقدّمة محرّمة وقد توقّف عليها واجب أهمّ، فعندئذٍ لا بدّ من ملاحظة دليل حرمة المقدّمة فإن كان لدليلها إطلاق أو عموم لزم التّمسّك به في غير مقدار الضّرورة وهو خصوص المقدّمة الموصلة".

[6]  أنظر المباحث،ج2 من القسم الأوّل،ص549:"وأمّا ثانيًا: فلو سلّم تعميم عنوان الإصرار لذلك فهو حالة نفسانيّة ملازمة لتعدّد المخالفة، ولا يثبت انتفاؤه باستصحاب عدم الوجوب، وذلك بناءً على أنّ موضوع الحكم هو الإصرار على الذّنب بنحو التّقييد لا الإصرار على الشّيء وكون ذلك الشّيء ذنبًا بنحو التّركيب وإلّا فالإصرار هنا متحقّق بتعدّد ما تركه وكون ذلك ذنبًا منفيّ باستصحاب العدم، فيثبت بذلك انتفاء الموضوع، والظّاهر هو التّقييد فإنّ الظّاهر: أنّه إنّما أخذ الإصرار على الذّنب موضوعًا لحكم الفسق بما هو إصرار في مقابل المولى".

[7]  أنظر البحوث،ج2،ص273:"وثالثًا لو سلّم كون المراد بالصّغيرة مطلق المخالفة وترك الواجب أو فعل الحرام مع ذلك لا يمكن إثبات عنوان الإصرار على الصّغيرة أو نفيه باستصحاب وجوب المقدّمة أو نفيه، لأنّه عنوان وحدانيّ وليس تركيبيًّا فلا يمكن إثباته أو نفيه بنفي الوجوب إلّا على القول بالأصل المثبت".

برچسب ها: الشک فی وجوب المقدمة

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است