اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۶)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أحد وجوه نفي المقدّميّة هو ما كنّا قدّمنا بيانه وهو منقول عن السّيّد الصّدر، ومحصّله: أنّه حيث نفترض تمانعًا بين مقتضيي الضّدّين، فلا ينبغي أن يكون هناك تمانع بين الضّدّين. إذ حال تساوي المقتضيين، فإنّهما لا يؤثّران وإلّا للزم اجتماع الضّدّين، وكذا لا يؤثّر أحدهما وإلّا للزم ترجّح أحدهما بلا مرجّح. ولا يبقى إلّا أن يتمانعا بحيث يمنع أحدهما الآخر في هذه الحالة.

وأمّا مع فرض أقوائيّة أحدهما، فإنّه سيتحقّق أثره، أي سيوجد ضدّ من سنخ هذا المقتضي. وهنا سيقول المدّعي للمقدّميّة بأنّ الضّدّ الموجود منع المقتضي الآخر عن التأثير، إضافة لكون ذاك المقتضي ممنوعًا ومغلوبًا من قبل مقتضي الضّدّ الموجود ولذلك انعدم أثره أي الضّدّ الصّادر عنه. ومفاد ذلك هو اجتماع مانعيّتين على المقتضي لكنّ إحداهما متقدّمة رتبة على الأخرى، بحيث ترجع مانعيّة الضّدّ بالمعنى المصدريّ إلى منع ما هو ممتنع أصلًا في رتبة سابقة. وبعبارة أخرى: المقتضي مانع عن المقتضي الآخر ومتى فرضنا مانعيّة للضّدّ المعلول للمقتضي المانع بالفعل، لكانت مانعيّة بعد الممنوعيّة ومنعًا بعد الامتناع، بحيث به ومن دونه الممنوع ممنوع بغيره.

ومن هنا تعرف أنّ امتناع الضّدّ المعدوم بحسب هذا الوجه لا لعدم وجود مقتضيه كما ذُكر في براهين أخرى بل نفترض المقتضي موجودًا لكنّه مغلوب وممنوع، والمانعيّة فرع إمكان الممنوع.

هذا برهانه الأوّل ومعه برهانه الرّابع.

أشكل السّيّد الهاشميّ على السّيّد الصّدر بما مفاده أنّه: إذا تساوى المقتضيان تمانعا، لكن يمتنع تساوي المقتضيين حال كونهما لضدّين لا ثالث لهما لأنّهما لا يجتمعان وكذلك لا يرتفعان. وعليه، ينتفي فرض التّساوي في الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما ويختصّ الكلام بمورد تعدّد الأضداد. ولعلّه في مورد الأضداد المتعدّدة استند عدم تحقّق الضّدّين إلى وجود الضّدّ الثّالث بحيث يكون مانعًا عن وجودهما لا لكون التّمانع حاصلًا بين المقتضيين كما قُرّب.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ عن إشكال السّيّد الهاشميّ بأنّ ما طرحه السّيّد الصّدر قضيّة فرضيّة شرطيّة لا تتوقّف صحّتها على فعليّة طرفيها، ففرض المحال ليس بمحال. ومفاد كلامه: إنّه في حال تساوي المقتضيين _وإن كان ممتنعًا في الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما_ فلا بدّ أن يكون كلّ منهما مانعًا للآخر.

فلو فرضنا مقتضيين متساويين ولو كانا لضدّين لا ثالث لهما، فإنّ التّمانع سيقع بينهما وتأثير أحدهما سيكون محالًا لرجوعه إلى ترجّح بلا موجب ولا مرجّح وتأثير كليهما سيكون محالًا لاستلزامه لاجتماع الضّدّين[1]، فلا يبقى إلّا أن لا يؤثّرا معًا. وفي حال تفوّق أحد المقتضيين فله التأثير ويغلب صاحبه. وبالتّالي، يرد في موردهما عين ما ورد في مورد الأضداد المتعدّدة ولو بالفرض.

وعليه يصحّ برهان السّيّد الصّدر لأنّ القول بتمانع المقتضيين وعدم وقوع التّمانع بين الضّدّين يجري في الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما، وهذا لا يتوقّف على الوقوع الفعليّ للتّساوي بين هذين المقتضيين بل يكفي صحّة فرضه لنرتّب على القضيّة الفرضيّة نتائجها.

ضمائم في بيان الضّدّ عند الحكماء:

الأسفار،ج2،ص114_118:"ومن التّقابل ما يكون بين المتضادّين. والمتضادّان على اصطلاح المشّائين هما الوجوديّان غير المتضايفين المتعاقبان على موضوع واحد لا يتصوّر اجتماعهما فيه وبينهما غاية الخلاف. وقد مرّت الإشارة إلى أنّ الطّبائع الجنسيّة لا تتقابل، فالتّضادّ إنّما يعرض للأنواع الأخيرة، كما يدلّ عليه الاستقراء. وقد ظنّ بعضهم وقوع التّضادّ في الأجناس لزعمهم أنّ الخير والشّرّ متضادّان وكلّ واحد منهما جنس لأنواع كثيرة. وهذا الظّنّ باطل من وجهين [...].

ومن شرط التّضادّ أن يكون بين الأنواع الأخيرة الّتي توصف به داخلة تحت جنس واحد قريب؛ وكون الشّجاعة تحت الفضيلة والتّهوّر المضادّ لها تحت الرّذيلة لا يرد نقضًا على هذه القاعدة، لأنّ كلّ واحد منهما في نفسه كيفيّة نفسانيّة، وكونه فضيلة أو رذيلة إنّما هو صفة عارضة له لا أنّها مقوّمة له؛ فالفضيلة والرّذيلة ليستا من الأجناس للفضائل والرّذائل النّفسانيّة. ثمّ إنّ الشّجاعة ليست ضدًّا لشيء من التّهوّر والجبن، لكونها واسطة بينهما. وأمّا الطّرفان فلكونهما في غاية التّباعد كانا متضادّين. بل تضادّ الشّجاعة مع كلّ منهما تضادّ بالعرض، إذ الشّجاعة ماهيّة لها عارض وهو كونها فضيلة، وكلّ من التّهوّر والجبن ماهيّة لها عارض وهو كونها رذيلة؛ والتّضادّ بالحقيقة بين العارضين وفي المعروضين بالعرض. وأمّا التّضادّ بين التّهوّر والجبن فنوع آخر من التّضادّ غير ما يكون باعتبار الفضيلة والرّذيلة.

ومن أحكام التّضادّ _على ما ذكرنا من اعتبار غاية التّباعد_ أنّ ضدّ الواحد واحد، لأنّ الضّدّ على هذا الاعتبار هو الّذي يلزم من وجوده عدم الضّدّ الآخر. فإذا كان الشّيء وحدانيًّا وله أضداد، فإمّا أن يكون مخالفتها مع ذلك الشّيء من جهة واحدة أو من جهات كثيرة: فإن كانت مخالفتها معه من جهة واحدة، فالمضادّ لذلك الشّيء بالحقيقة شيء واحد وضدّ واحد_وقد فرض أضدادًا_؛ وإن كانت المخالفة بينها وبينه من جهات عديدة، فليس الشّيء ذا حقيقة بسيطة بل هو كالإنسان الّذي يضادّ الحارّ من حيث هو بارد، ويضادّ البارد من حيث هو حارّ، ويضادّ كثيرًا من الأشياء لاشتماله على أضدادها. فالتّضادّ الحقيقيّ إنّما هو بين الحرارة والبرودة، والسّواد والبياض ولكلّ واحد من الطّرفين ضدّ واحد. وأمّا الحارّ والبارد، فالتّضادّ بينهما بالعرض؛ فالشيئان إذا كان بينهما تضادّ حقيقيّ يكون بين محلّيهما بما هما محلّاهما تضادّ بالعرض. فمن الضّدّين ما بينهما وسائط، ومنهما ما لا وسائط بينهما [وهما على كلّ حال لا ثالث لهما من حيث الضّدّيّة (المقرّر)] سواء كان الوسط حقيقيًّا كما بين الحارّ والبارد من الفاتر أو غير حقيقيّ مرجعه الخلوّ عن جنس الطّرفين كاللّاخفيف واللّاثقيل، فإنّ الفاتر لا يخرج عن جنس الحرارة والبرودة [وهو مع ذلك ليس ضدًّا لهما (المقرّر)] بخلاف اللّاخفيف واللّاثقيل، لخروجه عن جنس الخفّة والثّقل كالفلك [بحيث لا يتًّصف بكونه خفيفًا ولا بكونه ثقيلًا ولا يتّصف إلّا بعدم هذين الضّدّين. ولك أن تمثّل لارتفاع كثير من المتضادّات لا إلى ثالث وجوديّ في المجرّدات بالنّسبة للمادّيّات.(المقرّر)].

وقد يكون أحد الضّدّين على التّعيين لازمًا لموضوع، كالبياض للثّلج والسّواد للقارّ؛ وقد لا يكون. وحينئذٍ إمّا أن يمتنع خلوّ المحلّ عنهما كالصّحّة والمرض للإنسان أو يمكن كالثّقل والخفّة للفلك.

وعلى هذا الاصطلاح لا تضادّ حقيقيًّا بين الجواهر إلّا باعتبار ما يعرض لها من المتضادّات. وأمّا على اصطلاح المتقدّمين، ففي المادّيّات من الصّور المتخالفة المتعاقبة على محلّ واحد تضادّ حقيقيّ. وكذا يجوز عندهم أن يكون لشيء واحد أضداد كثيرة، حيث لا يشترطون في التّضادّ غاية الخلاف. فالسّواد عندهم كما يضادّ البياض يضادّ الحمرة أيضًا، لأنّ اصطلاحهمن يحتمل ذلك". انتهى.

التّلويحات،المشرع الثالث،الفصل الثّالث،ص314-316:"وممّا عدّ من المتقابلات تقابل الضّدّين. والضّدّان على اصطلاح المشّائين هما الذّاتان المتعاقبتان على موضوع واحد لا يتصوّر اجتماعهما فيه وبينهما غاية الخلاف. والمتقدّمون يجوّزون أن يكون لشيء واحد أضداد كثيرة لأنّهم لا يشترطون غاية الخلاف، فعندهم السّواد كما يضادّ البياض يضادّ الحمرة والخضرة، واصطلاحهم يحتمل ذلك. والمشّاؤون على قواعدهم ضدّ الشّيء الواحد واحد، وهو ما يقع في غاية البُعد عنه. وإذا كان الشّيء يُفرض كالوسط وله طرفان كلّ واحد منهما في غاية البُعد كالشّجاعة بين التّهوّر والجبن، فالتّضادّ الحقيقيّ بين الطّرفين ولا يضادّ أحدهما الوسط تضادًّا حقيقيًّا [...].

ومن الضّدّين ما بينهما وسائط، ومنها ما لا وسائط بينهما. وقسّموا الوسائط إلى حقيقيّة كما بين الحارّ والبار من الفاتر، وإلى ما هي غير حقيقيّة كاللّاخفيف واللّاثقيل. وقد علمت أنّ الفاتر أيضًا لا حارّ ولا بارد أعني غاية الحارّ والبارد في نفسه، وإن يُستحرّ بالقياس إلى البارد ويُستبرد بالقياس إلى الحارّ إلّا أنّ  الفاتر لا يخرج عن جنس الحرارة والبرودة، والّذي ليس بخفيف ولا ثقيل يخرج من جنس الخفيف والثّقيل". انتهى.

ابن كمّونة البغداديّ،الكاشف،ص100-103:"والمتقابلان هما الأمران المتصوّران اللّذان لا يصدقان على شيء واحد في حالة واحدة من جهة واحدة. واحترز بالأخير عن مثل التّقابل بين الأب والابن فإنّه إذا لم يشترط اتّحاد الجهة جاز أن يكون الواحد أبًا باعتبار وابنًا بآخر. وكلّ أمرين كذلك: إن كانا وجوديّين: فإن كانت ماهيّة أحدهما معقولة بالقياس إلى الآخر فهما "المضافان" كالأبوّة والبنوّة، وإلّا فهما الضّدّان كالسّواد والبياض.[...].

وأمّا الضّدّان فلأنّهما يكذبان عند عدم المحلّ وعند وجوده إذا لم يتّصف بأحدهما.

وقد يطلق الضّدّان على معنى آخر غير ما سبق وهو أنّهما موجودان في غاية التّخالف، تحت جنس قريب يصحّ منهما أن يتعاقبا على موضوع واحد أو يرتفعا عنه. فما مثل السّواد والحمرة على هذا الاصطلاح ليسا بضدّين، إذ ليس بينهما غاية الاختلاف. وأمّا البياض والسّواد فهما ضدّان بالمعنيين. والضّدّ بالمعنى الأخير (راجع :أساس الاقتباس/55) أخصّ من الضّدّ بالمعنى الأوّل.

والضّدّان بالمعنى الأخصّ: إمّا أن يكون أحدهما بعينه لازمًا للموضوع مثل البياض للثّلج؛ وإمّا أن لا يكون كذلك ولا يخلو: إمّا أن يمتنع خلوّ المحلّ عنهما مثل الصّحّة والمرض [مع أنّه يخلو ما لا يتّصف بهما منهما رأسًا كالمجرّدات وليس الأمر كذلك في التّناقض، فتنبّه.(المقرّر)]؛ وإمّا أن لا يمتنع ذلك؛ وهو منقسم إلى: ما يكون موصوفًا بالوسط، سواء عبّر عنه باسم محصّل كالفاتر والأحمر. أو بسلب الطّرفين كقولنا: لا جائر ولا عادل. وإمّا ما لا يكون كذلك كالشّفّاف". انتهى.

نهاية الحكمة،ج1،المرحلة السّابعة،ص308:"الفصل التّاسع في تقابل التّضادّ. قد عرفت أنّ المتحصّل من التّقسيم السّابق أنّ المتضادّين أمران وجوديّان غير متضائفين لا يجتمعان في محلّ واحد في زمان واحد من جهة واحدة. والمنقول عن القدماء أنّهم اكتفوا في تعريف التّضادّ على هذا المقدار، ولذلك جوّزوا وقوع التّضاد بين الجواهر وأن يزيد أطراف التّضادّ على اثنين. لكنّ المشّائين أضافوا إلى ما يتحصّل من التّقسيم قيودًا أخر، فرسموا المتضادّين بأنّهما أمران وجوديّان غير متضائفين متعاقبان على موضوع واحد داخلان تحت جنس قريب بينهما غاية الخلاف. ولذلك ينحصر التّضادّ عندهم في نوعين أخيرين من الأعراض داخلين تحت جنس قريب بينهما غاية الخلاف، ويمتنع وقوع التّضادّ بين أزيد من طرفين.[...]

وأما اعتبار غاية الخلاف بين المتضادّين فإنّهم حكموا بالتّضادّ بين أمور ثم عثروا بأمور متوسّطة بين المتضادّين نسبيّة، كالسّواد والبياض المتضادّين وبينهما من الألوان والصّفرة والحمرة والخضرة وهي بالنّسبة إلى السّواد من البياض، وبالنّسبة إلى البياض من السّواد، وكالتّهوّر والجبن المتوسّط بينهما الشّجاعة، فاعتبروا أن يكون الضّدّ في غاية الخلاف ونهاية البعد عن ضدّه.[...].

ومن أحكامه أنّ المتضادّين متعاقبان على الموضوع لاعتبار غاية الخلاف بينهما، سواء كان بينهما واسطة أو وسائط [وصفها أنّها هي بالقياس...]هي بالقياس إلى كلّ من الجانبين من الجانب الآخر، أم لم تكن وأثره أن لا يخلو الموضوع منهما معًا [علّق على هذه العبارة الشّيخ الفيّاضيّ:"فلا يرتفعان. وهذا ما يقال: إنّ الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما في حكم النّقيضين. يريدون بذلك أنّهما لا يرتفعان كما لا يجتمعان".]، سواء تعاورا عليه واحدًا بعد واحد أو كان أحد الضّدّين لازمًا لوجوده كالبياض للثّلج والسّواد للقارّ". انتهى.

حاشية السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ على الكفاية،ص126:"قوله ره بداهة ثبوت المانعيّة من الطّرفين وتوقّف وجود كلّ منهما على عدم الآخر لا يستلزم توقّف عدم كلّ على وجود الآخر لإمكان تصادق العدمين على مورد واحد. إذ غير المتناقضين من المتقابلين لا يأبى من ارتفاع الطّرفين معًا وهذا يوجب عدم توقّف أحد العدمين على وجود الطّرف الآخر وهو ظاهر. ومن هنا ظهر أنّ الدّور غير تامّ. والحقّ بعد ذلك كلّه أنّ القول بتوقّف وجود الشّيء على عدم مانعه قول مجازيّ فإنّ الأمر الوجوديّ لا يترشّح إلّا عن الوجود، والعدم لا ذات له، بل المانع حيث ما فرض أمر وجوديّ يضادّ الممنوع الّذي هو أيضًا أمر وجوديّ، فهو في مورد التّضادّ الحقيقيّ، فيرجع معنى توقّف الشّيء على عدم مانعه إلى اشتراط صلاحيّة المحلّ لوجود الشّيء فيه لفرض خلوّه عن الضّدّ الآخر ولا ثالث للضّدّين؛ كلّ ذلك لأمور مبيّنة في محلّه. هذا في الحقائق غير أنّ الأمر في الاعتباريّات سهل".

 

 

[1]  [وعدم تأثير أحد منهما سيستلزم محالًا وهو ارتفاع الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما. والحقّ أنّه كما يفسد الاحتمال بلازم فاسد كالتّرجّح بلا مرجّح يفسد أيضًا باستلزامه لارتفاع الضّدّين اللّذين لا ثالث لهما أي اللّذين لا وسائط بينهما وإلّا فكلّ ضدّين لا ثالث لهما.

فإذا بطل احتمال التّساوي لم يصحّ التّمسّك به لإثبات مانعيّة الأقوى من المقتضيين حال عدم التّساوي بمناط الأولويّة ولا بمناط أنّ ما كان مؤثّرًا المنع ولم يعرض عليه ما يفسد مؤثّريّته فلا وجه لرفع اليد عن مؤثّريّته؛ فصير كلاهما بلا معنى محصّل.(المقرّر)].

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است