اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۷)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

انتهى بنا الكلام إلى بحث الضّدّ العامّ وأنّ الأمر بالشّيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه العامّ أم لا؟ فهل الأمر بالصّلاة يقتضي النّهي عن ترك الصّلاة مثلًا؟

وفي الحقيقة هذا المبحث يقع تتمّة لمبحث الضّدّ الخاصّ وإلّا لا أثر لبحثه مستقلًّا. إذ لا معنى في الشّريعة للسّؤال عن أنّه إذا وجب شيء فهل يحرم نقيضه بحيث يكون المكلّف عند العصيان مستحقًّا لعقابين، أحدهما لتركه فعل الواجب والآخر لتركه ترك ترك الواجب. أي هنا ترك للواجب وفعل للحرام حال العصيان، حتمًا ليس الأمر كذلك.

ولا أثر لهذا البحث عمليًّا أيضًا، فإذا قال المولى صلّ فإنّ المكلّف إمّا أن يمتثل وإمّا أن يعصي سواء قلنا إنّ هذا الأمر يقتضي النّهي عن الضّدّ العامّ أو لا، أي إنّه لا يثبت شيء إضافي على ذلك الوجوب ليكون المكلّف مدفوعًا بدافعيّتين إحداهما للوجوب والأخرى للحرمة وليكون على عهدته كلفتان إحداهما للوجوب والثّانية للحرمة. بل كلّما امتثل الوجوب كان ممتثلًا للحرمة وكلّما عصى الوجوب عصى الحرمة،  فهما متلازمان لا ينفكّان على مستوى الامتثال، أي لا ثمرة للحديث عن حرمة على مستوى الامتثال.

فأين ثمرة هذا البحث إذن؟

تظهر الثّمرة في بحث الضّدّ الخاصّ. فإنّ من أراد القول بحرمة الضّدّ الخاصّ وتاليًا بفساده، كالصّلاة المضادّة للإزالة، فلا بدّ أن يثبت حرمة الضّدّ العامّ. وذلك إمّا من باب المقدّميّة وإمّا من باب التّلازم على ما مرّ: إذ إنّ مقدّمة امتثال الإزالة هو ترك ضدّها الخاصّ أي الصّلاة، وإذا وجب ترك الصّلاة فإن قيل باستدعاء الأمر بالشّيء للنّهي عن ضدّه العامّ، كان الأمر بترك الصّلاة مستدعيًا للنّهي عن فعلها ولصارت محرّمة. أو من حيث إنّ فعل الضّدّ ملازم لترك ضدّه الخاصّ ولأنّ المتلازمين متّحدان في الحكم فترك الضّدّ الخاصّ محكوم بالوجوب وضدّه العامّ حرام على القول بالاستلزام. فثمرته في إنتاج بحث الضّدّ الخاصّ ويقع مقدّمة من مقدّمات قياسه. فهناك لا بدّ أوّلًا من القول بوجوب الإزالة ثمّ بوجوب ترك الضّدّ الخاصّ أي الصّلاة ثمّ بحرمة الضّدّ العام لهذا الضّدّ الخاصّ أي الصّلاة فلا بدّ من القول بحرمة نقيض التّرك وهو الفعل، فإذا حرم وكان منهيًا عنه ثبت البطلان.

إذا تبيّن هذا، فقد تعرّض الشّيخ الآخوند لمطلب الضّدّ العامّ في الأمر الثّالث وقد قدّم ثلاثة احتمالات والتزم في النّهاية بحرمته بناءً على أحد الاحتمالات.

الاحتمال الأوّل: التّضمّن أي كون وجوب الشّيء متضمّنًا للنّهي عن الضّدّ العامّ.[1]

الاحتمال الثّاني: الالتزام أي كون وجوب الشّيء مستلزمًا للنّهي عن الضّدّ العامّ كلازم غير بيّن.

الاحتمال الثّالث: العينيّة أي كون وجوب الشّيء عين حرمة ضدّه العامّ، فوجوب الصّلاة عين حرمة ترك الصّلاة.

أمّا الاحتمال الأوّل: فأساس هذا الكلام هو ما يرجع إلى تحليل الوجوب من أنّه مطلوبيّة الشّيء مع ممنوعيّة تركه. فإذا كان المنع عن التّرك داخلًا في حقيقة الوجوب فالوجوب متضمّن لحرمة النّقيض.

وقد ردّ الشّيخ الآخوند ذلك بكلمة: وهي أنّ الوجوب أمر بسيط وليس مركّبًا وهو بمعنى الإلزام. وليس مطلوبيّة مع ممنوعيّة. نعم، إنّما يبيّن الوجوب أحيانًا على نحو مركّب في مقام تحليله لا في مقام حدّه  وبيان تركّبه. إذ ممنوعيّة التّرك لازم للإلزام لا جزء منه والاتيان باللّازم في مقام بيان الحقيقة لا يجعل منه مقوّمًا للحقيقة. مثلًا لو كان التّعجّب لا ينفكّ عن الإنسان فهذا لا يعني دخول التّعجّب في مقوّمات الإنسان. [2]

نعم لو التفت الآمر[3] إلى ترك الواجب فإنّه لا يرضى به وهذا يكشف عن كونه لازمًا ليس ببيّن "لو التفتيّ". نعم المقصود من كونه غير بيّن أي غير بيّن بالمعنى الأخصّ وإن كان بيّنًا بالمعنى الأعمّ بحيث لو التفت إليه لسلّم به بلا حاجة إلى برهان. وكما رأيت فقد جاء الشّيخ الآخوند بما ادّعاه من التّلازم قبل التّعرّض للاحتمال الثّاني، ودليله شهادة الوجدان ببساط الإلزام والوجوب وعدم تركّبه.

وأمّا العينيّة فقد ردّها بالأولويّة بعد ردّ التّضمّن ببيان أنّه إذا لم تكن الحرمة جزءًا من الوجوب بل هي أمر مغاير ملازم، فمن باب أولى أن لا تكون عين الوجوب. إذ ما ليس بجزء لمغايرته للشّيء كيف يتأتّى الكلام عن كونه عين الشّيء؟[4]

وما يمكن أن يكون دليلًا على العينيّة هو توهّم كون التّعبير المجازيّ تعبيرًا حقيقيًّا عن الحمل الهوهويّ. بيان ذلك: أنّه ربّما يعبّر عن الوجوب بممنوعيّة التّرك نقول مثلًا: الصّوم هو وجوب الإمساك تارةً ونقول أخرى الصّوم هو ممنوعيّة الإفطار. فجعلوا صحّة التّعبير عن الوجوب بالممنوعيّة وعن ممنوعيّة التّرك بلزوم الاتيان شاهدًا على العينيّة، فالوجوب عين الممنوعيّة مع اختلاف في المتعلّق.

وردّ ذلك: أنّ التّعبير مجازيّ هنا وليس إلّا المقام مقام حكاية عن الحقيقة ولو مجازًا ومن باب حمل لازمها عليها. فممنوعيّة التّرك لازم لوجوب الفعل وحمل اللّازم على الملزوم حمل مجازيّ فهما متغايران وبالحمل لا يصيران واحدًا. نعم، لو كان التّعبير حقيقيًّا وكان من قبيل الحمل الهوهويّ لا الاستعمالات الشّائعة لثبتت العينيّة لكن أنّى القول بذلك.

وقد يُفهم من ظاهر عبارة الشّيخ الآخوند وجود قائل بالعينيّة فيمن تقدّم عليه، وكيف كان فإنّ السّيّد الصّدر قال بالعينيّة، وقد قال مقرّر درسه بكون ذلك لازمًا لمبنى المحقّق الأصفهانيّ في تفسير حقيقة الحكم فيمن تأخّر عن الشّيخ الآخوند.

وهنا احتمال رابع وهو ما ذهب إليه السّيّد الخوئيّ وهو عدم كون الأمر بالشّيء مستلزمًا ولا متضمّنًا ولا عينًا للحرمة، بل هو أمر مغاير غير ملازم أصلًا.[5]

ثمّ إنّ مسألة الاقتضاء تارةً تعالج من حيث المبادئ (الحبّ والبغض) وأخرى تعالج من حيث الحكم أي البعث والزّجر.

أمّا من حيث الحكم، وهو ظاهر عنوان البحث، فهل أنّ الأمر يستدعي النّهي؟ أي الوجوب يستدعي الحرمة؟

على أنّها لو لم تثبت حرمة الضّدّ العامّ لانتفت حرمة الضّدّ الخاصّ كما أشرنا ولدخل البحث في باب التّرتّب كما سيأتي.

وفي معالجة هذه المسألة سأل السّيّد الصّدر عن معنى النّهي المذكور هنا،[6] فهل هو بمعنى المطلوبيّة أم هو بمعنى الزّجر؟

على الأوّل هو عين الوجوب لأنّه مطلوبيّة للتّرك ومتعلّق التّرك هو ترك متعلّق الوجوب. لو أمر المولى بالصّلاة فإنّ متعلّق وجوبه هو الصّلاة والنّهي في المورد هو نهي عن ترك الصّلاة أي مطلوبيّة لترك ترك الصّلاة أي مطلوبيّة لفعل الصّلاة، فعاد النّهي عين الأمر، وعدنا إلى العينيّة.

وعلى الثّاني فالنّهي مغاير للأمر لأنّ الزّجر غير المطلوبيّة.

ويعلّق السّيّد الصّدر على الاستلزام بأنّ ما ينفع القائل به هو كون إحدى الدّلالتين مستلزمة للأخرى. بمعنى كون الطّلب الإنشائي الوجوبيّ مستلزمًا للزّجر الإنشائيّ الإلزاميّ. لكنّ الإنشاء أمر اختياريّ بحيث إن شاء المولى أنشأ وإن لم يشأ لم يُنشئ ولا تلازم بين الأفعال الاختياريّة.[7]

لكنّ الكلام أنّ القائل بالتّلازم قد يكون قائلًا به من حيث المبادئ.

 

 

 

[1]  راجع الكفاية،ج1،ص187:"أنّه قيل بدلالة الأمر بالشّيء بالتّضمّن على النّهي عن الضّدّ العامّ بمعنى التّرك حيث إنّه يدلّ على الوجوب المركّب من طلب الفعل والمنع عن التّرك".

[2]  المصدر نفسه:"والّتحقيق أنّه لا يكون الوجوب إلّا طلبًا بسيطًا ومرتبة وحيدة أكيدة من الطّلب لا مركّبًا من طلبين. نعم في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ربّما يقال: الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن التّرك ويتخيّل منه أنّه يذكر له حدًّا.

فالمنع عن التّرك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته بل من خواصّه ولوازمه بمعنى أنّه لو التفت الآمر إلى التّرك لما كان راضيًا به لا محالة وكا يبغضه البتّة".

[3]  المصدر نفسه:"بمعنى أنّه لو التفت الآمر إلى التّرك لما كان راضيًا به لا محالة وكا يبغضه البتّة".

[4]  المصدر نفسه:"ومن هنا انقدح أنّه لا وجه لدعوى العينيّة ضرورة أنّ اللّزوم يقتضي الاثنينيّة لا الاتّحاد والعينيّة".

[5]  راجع: المحاضرات،ج2،ص337:"ونتيجة مجموع ما ذكرناه نقطتان: الأولى: أنّ الأمر بشيء لا يقتضي النّهي عن ضدّه العامّ لا بنحو العينيّة أو الجزئيّة ولا بنحو اللّزوم".

[6]  راجع: البحوث،ج2،ص315:"فإذا قلنا بأنّ النّهي عن شيء عبارة عن طلب نقيضه وأنّ نقيض الفعل التّرك ونقيض التّرك الفعل كان الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه العامّ بنحو العينيّة إذ ليس النّهي ن ترك ذلك الشّيء غير طلب فعله حسب الفرض.

وأمّا إذا قلنا إنّ النّهي عبارة عن اعتبار الزّجر مثلًا والأمر عبارة عن اعتبار البعث والإرسال فلا محالة يكون أحدهما غير الآخر، فلا يعقل اقتضاء أحدهما للآخر بنحو العينيّة".

[7]  المصدر نفسه:"فيرد عليه ما قلناه في بحث مقدّمة الواجب على القائل بالملازمة بلحاظ عالم الجعل والاعتبار من انّ الاعتبار فعل اختياريّ للمولى فيكون منوطًا بمبادئه الاختياريّة".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است