اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۸)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

نلفت إلى أنّ البحث في الضّدّ العام كما البحث في الضّدّ الخاصّ هو بحث عقليّ، بحيث يقع السّؤال عن الاستلزام العقليّ لوجوب شيء للنّهي عن ضدّه العامّ أو الخاصّ. وليس بحثًا لفظيًّا إثباتيًّا، فالوجوب سواء كان مستفادًا من دليل لفظيّ أو من غيره نسأل في اقتضائه للنّهي عن ضدّ متعلّقه.

البحث في الاقتضاء كما ذكرنا تارة يقع من حيث المبادئ وأخرى من حيث الحكم والتّكليف. أمّا من حيث الحكم، فقد ذهب الشّيخ الآخوند إلى استلزام وجوب الشّيء لتحريم ضدّه العام بالملازمة العقليّة البيّنة بالمعنى الأعمّ. وقد وقع كلامه هذا محلًّا للإشكال واعتُرض عليه بأنّ التّكليف فعل اختياريّ والحال أنّه لا معنى للتّلازم بين الأفعال الاختياريّة، فإذا أنشأ المولى بعثًا فلا قهريّة لإنشائه زجرًا عن نقيض المتعلّق وإلّا لخرج إنشاؤه عن الاختياريّة رأسًا.[1] وعليه فلا تلازم بين الأمر بالشّيء والنّهي عن ضدّه العامّ في مقام الحكم والتّكليف. وأمّا من حيث المبادئ، فقد قال السّيّد الخوئيّ إنّه أيضًا لا يوجد أيّ تلازم بين محبوبيّة شيء ومبغوضيّة تركه. فنحن إذ قلنا باستلزام وجوب الشّيء لحرمة ضدّه العامّ لكانت تلك الحرمة إمّا نفسيّة وإمّا غيريّة، وتبعًا لها ستكون المبغوضيّة إمّا نفسيّة وإمّا غيريّة. لكنّ الحرمة النّفسيّة منفيّة لأنّها خلف الفرض، إذ فرضنا المسلّم من أوّل الأمر أنّه لا يوجد في المقام إلّا تكليف واحد وهو الوجوب. وكذلك تنتفي المبغوضيّة الغيريّة لأنّ ترك نقيض الشّيء ليس مقدّمة لفعل الشّيء، بل المقدّميّة غير قابلة للتّصوّر، في حين أنّها قابلة للتّصوّر في مورد الضّدّ الخاصّ وإن كنّا لم نسلّم بها. وحيث لا مقدّميّة لا ملاك غيريّ ولا مبغوضيّة غيريّة.[2]

وأشكل عليه السّيّد الصّدر بأنّ كلامه مصادرة، إذ كيف حصر المبغوضيّة الغيريّة بالمقدّميّة من أوّل الأمر بحيث إذا انتفى كون الشّيء مقدّمة انتفى في مورده البغض الغيريّ، ليبني على ذلك بأنّه لا مقدّميّة فانتفت المبغوضيّة؟ المدّعي للاستلزام يقول إذا كان شيء ما محبوبًا فإنّ نقيضه يكون مبغوضًا على نحو تتلازم محبوبيّة الشّيء مع مبغوضيّة نقيضه من دون ادّعاء مقدّميّة أصلًا. لكنّ المقدّميّة هي أحد الموارد الّتي تكشف عن مبغوضيّة غيريّة لكنّها ليست المورد المنحصر لوجود مبغوضيّة غيريّة.[3] وكأنّه بهذا الكلام يميل إلى وقوع الملازمة بين المبادئ.

ثمّ إنّ ما يستفاد من كلمات بعض الأعلام ومنهم صاحب هداية المسترشدين وكما قد يستفاد من كلمات المحقّق الأصفهانيّ هو أنّ مطلوبيّة الشّيء هي عين مبغوضيّة تركه، هذا على مستوى المبادئ. بل على مستوى الحكم والتّكليف الأمر كذلك. فيثبتون ما نفاه الشّيخ الآخوند.[4]

المستفاد من كلامه أنّ التّغاير القائم بين وجوب الشّيء والنّهي عن تركه هو تغاير اعتباريّ. فالإلزام بالفعل يعني الإلزام بعدم تركه وإن كنّا على مستوى التّعبير عن هذه الحقيقة الواحدة تارة نعبّر بالأمر وأخرى بالنّهي. وهذا ما جاء في النّصوص الشّرعيّة وهو كاشف عن حقيقة واحدة. خصوصًا أنّ ثمرة القول بحرمة الضّدّ العام تظهر في مورد الضّدّ الخاصّ بحيث يكون ترك الضّدّ الخاصّ واجبًا فلا يمكن مع ذلك القول بوجوب الفعل حتّى على التّرتّب ولو كان الطّلب غيريًّا.
إنّ حقيقة وجوب الشّيء هي أنّ المولى لا يرضى بتركه، فكيف يمكن أن تقول إنّ الشّيء واجب لكنّه تركه غير منهيّ عنه بل كيف يمكن أن تكون حرمة التّرك ملازمًا مغايرًا؟ بل حرمة التّرك وممنوعيّته هي عين الوجوب. وهذا نعرفه بالوجدان في مقام بيان حقيقة الحكم. بل وحتّى في مورد المصلحة والمفسدة، إذ إنّ السّيّد الخوئيّ يقول بأنّ ملاك الوجوب قد يكون أنّ في تركه مفسدة. أي إنّ المفسدة قد تكون منشأ للوجوب وكذا قد تكون منشأ للحرمة بحيث يمكن أن لا يكون هناك تباين على مستوى الملاك بين الوجوب والحرمة. فهنا حقيقة واحدة هي الحكم أو الجعل قد نُظر إليها بلحاظين واعتبارين من حيث محبوبيّة الشّيء تارة ومن حيث مبغوضيّة تركه أخرى. ومن هنا يمكن أن يقال إنّه متى أنشأ الإلزام بالشّيء كان ذلك عبارة أخرى عن إنشاء الزّجر عن تركه. وهذا في مقام إثبات الحكم. وكذا يمكن الحديث عن ذلك في مقام جعل الحكم ثبوتًا. نعم الدّلالة الالتزاميّة تتأتّى حيث المغايرة، والمغايرة مفروضة على مستوى لحاظ الجعل الواحد، فنقول إنّ لحاظ  حيثيّة الفعل ملازم ومغاير للحاظ حيثيّة التّرك.

وبالتّالي صحّ بحسب شيخنا الأستاذ ما جاء في كلام صاحب الهداية بعد االتّدقيق في العينيّة المقصودة، بحيث تتّحد الحقيقة ويختلف النّظر واللّحاظ الّذي يستوجب وجود تغاير اعتباريّ لا حقيقيّ.

يرى المحقّق الأصفهانيّ أنّ حقيقة الحكم في الأوامر هي البعث والتّحريك وأنّ حقيقته في النّواهي هي الزّجر والمنع. وعلى هذا المبنى فإنّ البعث لا ينفك عن الزّجر عن نقيضه بشكل أوضح، بحيث لا معنى للقول إنّ الأمر هو البعث ولا يكون ذلك نهيًا عن عدم البعث. وبالتّالي ما ذكره السّيّد الصّدر من صحّة العينيّة إن كان المقصود من النّهي هو مطلوبيّة التّرك يأتي بعينه هنا.

وهذا بنظر شيخنا الأستاذ كلام تامّ. وبه يتمّ الاستلزام بين وجوب الشّيء وحرمة ضدّه العامّ فإن كان من خلل في قياس الضّدّ الخاصّ فليس من جهة إنكار هذا الاستلزام بل من جهة إنكار المقدّميّة.

ولعلّ مقصود القائل بالتّضمّن هو هذا، بعيدًا عن تفسير كلامه بإرادة كون الوجوب والإلزام مركّبًا لا بسيطًا، بل المراد ما تقدّم من معنى العينيّة بحيث يكون التّركيب المذكور هو فقط في مقام بيان معنى الوجوب وتمييزه عن مطلق الطّلب الشّامل للاستحباب.

بعد ذلك يطرح بحث التّرتّب كثمرة عمليّة لبحث الضّدّ وهو بحث عقليّ أيضًا. وقد قيل إنّ ثمرة بحث الضّدّ هو بطلان الضّد الخاصّ العباديّ، على نحو لو وجبت الإزالة لوجب ترك ضدّها الخاصّ أي الصّلاة ووجوب التّرك هذا مستلزم لحرمة فعل الضّدّ الخاصّ والحرمة تقتضي الفساد والبطلان. وإن لم نقل بحرمة الضّدّ الخاصّ فينتفي الفساد وتثبت الصّحة للضّدّ العباديّ.

لكنّ الشّيخ البهائيّ أنكر هذه الثّمرة وقال بعدم ترتّب ثمرة على بحث الضّدّ، لأنّ الصّلاة ستقع فاسدة على كلّ حال سواء قلنا بالنّهي أم لم نقل، وذلك لأنّ المصحّح للعبادة هو الأمر بها وهي سواء قلنا بالنّهي عنها أم لم نقل غير مأمور بها، فلا يتأتّى الاتيان بها لعدم أمر، إذ يمتنع الأمر بالضّدّين معًا.

لكنّ الشّيخ  الآخوند دافع عن الثّمرة بحيث إن لم نقل بحرمة الضّدّ الخاصّ لحكمنا بصحّة الصّلاة مثلًا لاشتمالها على الملاك وإن لم يكن مأمورًا بها بالفعل. إذ هذا العمل الصّلاتيّ لا يقلّ أهميّة عن غيره على مستوى اشتماله على الملاك وهو محبوب وإن لم يكن مأمورًا به. وذلك أنّ الامتناع في المقام هو من جهة الأمر بالضّدّين لا من جهة كون كلّ من الضّدّين ذا ملاك. وبالتّالي، العمل ذو الملاك الّذي لم يؤمر به ولم ينه عنه يكون قابلًا للتّصحيح من خلال الملاك.

وقد تابع العلماء القائلون بإمكان التّرتّب الالتزام به كثمرة من ثمرات بحث الضّدّ وسيأتي الكلام عليه.

 

 

[1] البحوث،ج2،ص316.

[2]  راجع: المحاضرات،ج2،ص336:"وإن شئت فقل: إنّ القائل باستلزام وجوب شيء لحرمة تركه، إمّا أن يدّعي الحرمة النّفسيّة أو يدّعي الحرمة الغيريّة. وكلتا الدّعويين فاسدة: أمّا الدّعوى الأولى: فلأنّ الحرمة النّفسيّة إنّما تنشأ من مفسدة إلزاميّة في متعلّقها ومن الواضح أنّه لا مفسدة في ترك الواجب، فتركه ترك ما فيه المصلحة لا فعل ما فيه المفسدة.[...] وأمّا الدعوى الثّانية: فلعدم ملاك الحرمة الغيريّة فيه أوّلًا لانتفاء المقدّميّة وكونها لغوًا ثانيًا لعدم ترتّب أثر عليها من العقاب أو نحوه. وعليه فلا موضوع لدعوى الملازمة أصلًا".

[3]  راجع: البحوث،ج2،ص318:"ولا يرد ما أفيد من قبل الأستاذ على القول بالاستلزام للنّهي الغيريّ: بأنّ الحرمة الغيريّة ملاكها المقدّميّة ولا مقدّميّة بين الشّيء وضدّه العامّ، فإنّ هذا مصادرة إذ مدّعى القائل بالاستلزام أنّ هناك ملاكًا آخر للحرمة الغيريّة وهو كون الشّيء نقيض المحبوب والمطلوب فكما أنّ المقدّميّة للمحبوب ملاك للوجوب الغيريّ كذلك كون الشّيء نقيضًا له ملاك للحرمة الغيريّة التّبعيّة كما هو واضح".

[4]  لا أعلم أين نفى ذلك الشّيخ الآخوند (ره).[المقرّر].

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است