تعلق الامر بالطبائع (۱۲ ربیع الثانی ۱۴۴۴)

بعد بيان محلّ النّزاع على الوجوه المتقدّمة نطرح محلّ النّزاع بحسب بيان السّيّد الصّدر[1] [2] والمتوقّف فعلًا على بيان المراد من الفرد عند القائلين به.

يدعي السيد الصّدر أنّ الخصوصيّات ومشخّصات الماهيّة هي سابقة بحسب النّظرة العرفيّة على الوجود وإن كانت بحسب الدّقّة العقليّة هي متأخّرة عن الوجود وبه تكون المشخّصات وتتحقّق. لكنّ المقام من باب التّفسيرات العرفيّة للأوامر ليُعلم المراد من دفعها التّشريعيّ، فما هو متعلّق الأمر المطلوب إيجاده أهو الماهيّة أم الماهيّة وكذا المشخّصات؟ والحال هذا، فإنّ العرف إذا نظر إلى المشخّصات رآها سابقة على الوجود أي واقعة في رتبة الماهيّة ومعروض الوجود ولا يمكن قراءة الأدلّة من أوامر ونواهٍ إلّا بحسب المتفاهم العرفيّ. فتحصّل أنّ المشخّصات بالفهم العقليّ واقعة في عرض الوجود وأمّا بالفهم العرفيّ واقعة في عرض الماهيّة، ولأنّ المقام مقام تحديد المرادات بحسب المتفاهم العرفيّ فلا بدّ من الرجوع إلى الفهم العرفيّ وتقديمه على التّدقيق العقليّ في تلقّي المراد جدًّا فتكون المشخّصات مطلوبة مع الماهيّة وتكون بهذا المعنى مقوّمة للمطلوب لأنّها جزؤه. هذا، ولكنّ  المسلّم كون التّشخّصات عند العقل ليست معروضًا للوجود بل هي في رتبة الوجود ومن لوازمه سواء قلنا بتعلّق الأوامر بالطّبائع أم بالأفراد بلا فرق.[3]

والشاهد[4] على هذا المتفاهم العرفيّ هو تعريفهم الأشخاص بمشخّصاتهم من لون وطول وعرض وغير ذلك من الأعراض الشّخصيّة الواقعة كلوازم للوجود، فكأنّهم عدّوا المشخصات مقوّمة للمطلوب.

على هذ البيان للسّيّد الصّدر، فليس صحيحًا أنّه على القول بتعلّق الأوامر بالأفراد تكون المشخّصات معروضة الوجود، وليس صحيحًا أنّهم قائلون بكون التشخص في رتبة الماهيّة عقلًا. بل مبنى الفرد هو مبنى من قال بكون المشخّصات متقدّمة على الوجود وواقعة معروضًا له عرفًا لا عقلًا، لكأنّها عند العرف هي هو.

وهذا، في مقابل الطّبيعة حيث تكون المشخّصات بنظر العقل وكذا بنظر العرف أيضًا غير داخلة في المطلوب وهي من لوازم الوجود عقلا وعرفًا، وليست في عرض الماهيّة ولا هي منطبق الماهيّة أي متعلّق الحكم، ولا بلحاظ هي بداخلة في المطلوب من حيث مبادئ الحكم أي من حيث الحبّ والبغض.

أمّا كونها ليست متعلّقًا للحكم فلأنّ متعلّق الحكم هي الطّبيعة بحسب الفرض، لا الطبيعة المتشخّصة، ولا هي مأخوذة في متعلّق المبادئ أي ليست متعلّقًّا للحبّ المولويّ؛ لأنّ الحبّ لا يتعلّق إلّا: إمّا بالشّيء المطلوب؛ وإمّا بمقدّمة المطلوب، دون لوازم المطلوب وإن ثبت بأنّ الملازم تسري إليه المبادئ من حبّ وبغض لقلنا بالسّراية هنا ولكن قد علم فساد ذلك وأنّ المتلازمين لا يلزم أن يحكما بحكم واحد بل يكفي أن لا يُحكم الملازم بحكم مضادّ لملازمه حتّى لو استلزم ذلك أن يخلو عن الحكم الفعليّ ولو كان ذا حكم إنشائيّ.

وبالتالي، على الفرد يكون الأمر متعلّقًا بالطّبيعة بلا الخصوصيّات بحسب العقل، ولكن عرفًا الخصوصيًات داخلة في المأمور به لأنّها عندهم في رتبة الماهيّة لقولهم بتشخّص الماهيّات قبل وجودها. ولذلك يجدون من الأمر بالماهيّة الفرد طلبًا لتحقّق المشخّصات في الخارج وإيجادها تمامًا كما طُلب المتعلّق؛ فالحبّ للصّلاة حبّ للمشخّصات.[5]

هذا تفسير السيد الصدر للطبيعة والفرد.

وسواء كان الفرد بمعنى جمع القيود أو كان بالمعنى المفسّر عند النّائينيّ حيث تكون المشخّصات في عرض الماهيّة أو كان بمعنى كون المشخّصات في عرض الماهيّة عرفًا لا عقلًا، فالحقّ هو تعلّق الأوامر بالطّبائع بحيث لا يكون هناك موجب للسّريان إلى المشخّصات. ونتيجة السّيّد الشّهيد هي نتيجة المحقّق النّائينيّ من حيث الاجتماع والامتناع، بحيث لا يمكن النّهي عن المشخّصات الّتي افترض سريان الحكم أو مبادئه إليها.

وقد أضاف شيخنا الأستاذ نكتة مفادها: أنّه هل متعلّق الأمر هي الحيثيّات أم الوجودات والماهيّات بلحاظ الوجود المطلق؟

وعلى أساس هذا السّؤال قدّم بيانًا لمحلّ النّزاع ولعلّه يمكن تبيين كلام المحقّق النّايني عليه.

وتوضيحه: نسأل هل متعلّق الأمر هي الصّلاة بمعنى أنّ الأمر بالصّلاة هو أمر بهذه الماهيّة حيثما وُجدت من حيث هذه الماهيّة؟ أم أنّ الأمر بالماهيّة هو التّرخيص في تطبيق هذه الماهيّة على تمام الحصص بالفعل بلحاظ تمام الخصوصيّات؟ بحيث لو قال صلّ لكان مفاد ذلك هو الأمر بالجامع ووجب الاتيان بالصّلاة في حصّة ما من حصصها وتطبيق الطّبيعيّ على الحصّة المعيّنة مرخّص فيه من قِبل المولى للعبد فيتخيّر بينها.

ونحن تارةً نقيد الصّلاة بكونها في الثّوب المأكول اللّحم فتكون باطلة في ما لا يؤكل لحمه؛ وأخرى لا نقيّدها كما لو لم تقيّد الصّلاة بكونها في المكان المباح. على الثّاني المكلّف مرخّص في تطبيق الصّلاة على أيّ حصّة كانت ولو على حصّة المكان المغصوب. وليس معنى ذلك هو سريان الوجوب بحيث تكون الصلاة المضافة كلّ الحصص حصّة حصّة واجبة؛ لا البتّة. وهذا يختلف عن حرمة الخمر حيث تحرم جميع الحصص لأنّ النّهي يرجع إلى طلب إعدام تلك الطّبيعة ولا يحصل مثل ذلك إلّا بنفيها رأسًا وفي كلّ الحصص. إذن: معنى تعلّق الأمر بالطّبيعة هو كون المكلّف مرخّصًا من حيث تطبيق هذه الطبيعة على حصّة المأمور به، وليس معناه كون الحصص مأمورًا بها؛ بل تبطل الصّلاة  إذا جيء بها بقيد الخصوصيّة المحصّصة، لأنّه اتيان بمأمور به تخيّليّ لأمر تخيّليّ. والصّحيح أنّ المكلّف مجاز اختيار الحصّة لا مأمور في تطبيق الصّلاة على الحصّة المعيّنة ذات الخصوصيّة المعيّنة. ففي الحقيقة هنا ترخيص _لا أمر_ بالنّسبة إلى الحصص، كما أنّه يوجد إلزام ووجوب بالنّسبة إلى الجامع. فيمكن للمكلف أن يأتي بأيّ حصّة مقدورة ولو قدر على بعض الحصص لكان التّكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور صحيحًا كما اتّفق على ذلك المحقّقون، لأنّه قادر على الامتثال في الحصّة المقدورة.

من هنا تعرف أنّه من الغلط أن يقال إنّ الأمر يسري إلى الحصص لتكون الحصص متعلّقًا للوجوب، بل هناك ترخيص في تطبيق المأمور به على الحصص. نعم حيث يكون المجموع مرادًا كحرمة جميع أفراد الخمر وحصصه لا ترخيص في الحصص، وفي فرض الوجوب، لو كان المأمور به في أمر الصّلاة هي جميع أفراد الصّلاة لكان الإلزام والوجوب ساريًا.وهذا التّفنيد لمتعلّق الوجوب ولما هو محلّ للتّرخيص والإجازة من المولى هو ممّا لا ينبغي التّرديد فيه.

وإنّما الكلام هو في كون هذا الترخيص في الحصص هل هو حيثيّ أم فعليّ؟

وبيان ذلك: تارةً يرخّص المولى في الاتيان بالصّلاة في أيّ حصّة من الحصص بلا فرق لكن من حيث هي صلاة ومنطبق للمأمور به بحيث لا فرق عنده بين أفراد الصّلاة الطّوليّة والعرضيّة فالصّلاة في السّاعة الأولى والصّلاة في السّاعة الثّانية والصّلاة بالثّوب الأبيض والصّلاة بالثّوب الأسود و...كلّها صلاة ومرخّص في تطبيق الصّلاتيّة عليها من حيث الصّلاتيّة؛ فهذا ترخيص حيثيّ ساكت عن سائر تطبيقات الطّبائع على هذه الحصّة.

وأخرى يكون معنى هذا التّرخيص هو التّرخيص الفعليّ أي من كلّ الجهات لا فقط من حيث هي صلاة، ليترتّب على ذلك نفي حرمة الغصب الواقع خصوصيّة لحصّة من حصص الصّلاة. مثلًا، لو حصلت شكّ وشبهة حكميّة في جواز الصّلاة في الأرضي المتّسعة غير المحجّرة ولا المحاطة أو في جواز التّصرّف في المياه المتّسعة _كبحيرة كبيرة مملوكة للغير_ من شرب أو وضوء أو ما شاكل من هذه التّصرّفات أو في جواز مسّ حائط الغير البرّانيّ من حيث هو تصرّف في مال الغير؛ فما الحكم في مثل ذلك؟ وهل يجب التّحرّز؟ فلو أغمضنا عن أمارة أو أصل محكّمين في المقام هل يكون الأمر بالصّلاة ترخيصًا فعليًّا بالصّلاة في الحصّة المكينة في الأراضي المتّسعة؟ وهل يكون الأمر بالوضوء ترخيصًا فعليًّا في الحصّة المضافة إلى الماء المأخوذ من المياه المتّسعة؟ ليكون هذا الأمر بنفسه دليلًا على جواز التّصرّف ومن أدلّة جواز الصّلاة في الأراضي المتّسعة وجواز الوضوء من المياه المتّسعة؟ أم لا؟ الحقّ أنّه لا؛ فهنا لا ترخيص فعليّ ومن كلّ جهة في الحصّة بل ترخيص حيثيّ أي من حيث تطبيق الصلاة على هذه الحصّة المعيّنة. أمّا تحقيق الأمر في جواز التّصرّف في الموضوعات المفروضة فعلاجه لا يكون إلّا بالنّظر في دليله المرتقب من سيرة عقلائيّة أو متشرّعيّة أو أصل عمليّ. فتبيّن مستوى انحصار هذا الوجوب في جهة وإغماضه عن الجهات الأخرى فهو حيثيّ ساكت عمّا زاد عمّا هو في مقام البيان من جهته حتّى أنّ هذا الوجوب لا يقوم مقام الأصل العمليّ في إباحة التّصرّف عند الشّكّ والاشتباه. فالأوامر في مورد الطّبائع وإن كانت مرخّصة في الحصص إلا أنّها لا تفيد ترخيصًا بالفعل بل هي ترخيص من حيثيّة خاصّة أي من حيث الصلاة، بمعنى أنّه لا فرق بين هذه الصّلاة وتلك من حيث الصّلاتيّة وانطباق الكلّيّ الطّبيعيّ عليها لكن لا يفيد ترخيصًا في التّصرّف في الأراضي المتّسعة وهو ساكت عن هذه الجهة بحيث لا يثبت ولا ينفي.

فتحصّل: أنّ الأمر بالطّبيعة مستبطن لترخيص تطبيق الطّبيعة على كلّ الحصص من حيث الطّبيعة، لكنّه ليس ترخيصًا في الفعل من حيث طبيعة أخرى بل فقط من حيث طبيعة الصّلاة. والحقّ كما ذكرنا أنّ الأمر بالطّبائع يتضمّن وجوب الجامع وترخيصًا في الحصص لكن من حيثٍ معيّن لا بالفعل من كلّ الجهات، وبالتّالي لا ينفع إطلاق دليل "صلّ".

ومن هنا تعرف لماذا رأى القائلون بالامتناع تعارضًا بين الأمر والنّهي في المجمع، لأنّ مفاد الأمر هو التّرخيص الفعليّ في جميع الحصص وإلّا مع الاعتقاد في كون الأمر بالطّبيعة متضمّنًا لترخيص في تطبيق متعلّق الأمر على الحصص المختلفة من حيث وجود المأمور به فيها سوف لن يكون في البين تعارض ولا تنافٍ.

فتحصّل أنّه على الامتناع؛ قالوا بوقوع التّعارض بين الأمر والنّهي، وهذا مبتنٍ على كون الأمر بالصّلاة ترخيصًا فعليًّا في الحصص وكون النهي نهيًّا عمّا أمر به ليقع التعارض. أمّا إذا قلنا بالتّرخيص الحيثيّ لم يقع التّعارض؛ لأنّ كلّ واحد من الأدلّة ناظر إلى حيثيّة طبيعته.

وأمّا في تعلق الأمر بالفرد فيكون التّرخيص فعليًّا أي من حيث التّصرف فيها بلا محذور ولا يكون ترخيصًا حيثيًّا فقط.

وهذا نزاع معقول جدًّا وواقع. وهذا ما يمكن إرجاع كلام المحقّق النّائينيّ إليه.

وقد تعرّض شيخنا الأستاذ لبحث التّرخيص الحيثيّ بصورة مفصّلة في الدّورة السّابقة، كما قد يفهم ذلك من كلمات بعض الأعلام وإن لم تكن بصورة منقّحة، وقد يستفاد ذلك من بعض كلمات السّيّد الخوئيّ.

 

 

[1]  المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص263-264:"إذا عرفت ذلك فنقول: يمكن أن يكون المقصود من مبحث تعلّق الأمر بالطّبائع أو الأفراد: أنّ الأمر هل يسري بحسب جعله أو بحسب التّطبيق إلى الأفراد، أي إلى هذه الوجودات بما معها من ضمائم أو لا؟

فمعنى تعلّق الأمر بالأفراد هو السّريان والتّوسّع في دائرة التّطبيق بلحاظ هذه الضّمائم أو السّريان والتّوسّع بلحاظها بحسب عالم الجعل أو على الأقلّ بحسب عالم الحبّ، فلن يقف الحبّ على ذات الصّلاة بل يسري إلى تلك الضّمائم بجوامعها، أي أن تكون الصّلاة في مكان ما أو زمان ما ونحو ذلك؛ لاحتياج الصّلاة إليها. ولئن كان لا يعقل السّريان بحسب التّكليف باعتبار قهريّة هذه المشخّصات وحتميّة وقوعها فلا أقلّ من السّريان بحسب روح التّكليف وهو الحبّ.

وفي مقابل ذلك: القول بتعلّق الأمر بالطّبيعة أي أنّه لا يسري إلى تلك الضّمائم لا بحسب عالم الجعل ولو بروحه ولا بحسب التّطبيق. أمّا الأوّل فلأنّ الجعل تابع لملاكه والملاك إنّما هو في ذات الطّبيعة ولو فُرضت لا في زمان أو مكان، ومجرّد الملازمة لا يوجب سريان الحبّ إلّا بناء على وحدة المتلازمين في الحكم. وأمّا الثّاني فلأنّ مطبق الماهيّة إنّما هو الحصّة وأمّا العوارض فكلّ واحد منها مطبق لماهيّة أخرى لا لهذه الماهيّة فلا معنى لسريان الأمر إليها بالتّطبيق.

والأثر العمليّ لذلك هو: أنّه لو قلنا إنّ الحرام هو الكون في المكان المغصوب وقلنا إنّ هذا الكون من العوارض لماهيّة الصّلاة، فبناءً على تعلّق الأمر بالطّبيعة لا بأس باجتماع الأمر والنّهي ولا يلزم من ذلك اجتماع الضّدّين على مصبٍّ واحد. أمّا بناء على تعلّقه بالفرد فالكون في المكان صار مصداقًا للواجب أو للمحبوب على الأقلّ فيلزم الاجتماع الباطل.

وقد اتّضح من خلال البيان أنّ الحقّ هو تعلّق الأمر بالطّبائع".

[2]  البحوث،ج1،ص404-405.

[3]  المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص263:"أنّ المشخّص الحقيقيّ للماهيّة هوالوجود وهو يسبق المشخّصات العرضيّة والضّمائم الخارجيّة من قبيل الطّول والعرض واللّون والحجم والتّكوّن في مكان معيّن أو زمان معيّن ونحو ذلك، إلّا أنّ المشخّص عرفًا ومسامحة هو هذه الضّمائم العرضيّة الّتي هي في الحقيقة ليست إلّا مصاديق لماهيّات أخرى".

[4] المصدر نفسه:"فحينما يُسأل أحد:من هو زيد؟ يستعين بهذه المشخّصات لتعيينها ويضمّها إلى الوجود المحور لهذه المشخّصات، فيتكوّن بذلك ما نطلق عليه اسم الفرد، ونطلق على ذات ذاك الوجود اسم الحصّة".

[5]  المصدر نفسه:" فالفرد عبارة عن ذاك الوجود المنضمّ إليه تلك المشخّصات العرفيّة، والحصّة عبارة عن ذات ذاك الوجود المتشخّص بالذّات بغض النّظر عن كلّ هذه الضّمائم".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است