انحاء العروض و نحو عروض الحکم علی المتعلق (۱۸ ربیع الثاني ۱۴۴۴)

يختلف المدرَك فتارة يكون عينيًّا خارجيًّا؛ وأخرى يكون أمرًا ذهنيًّا؛ وثالثة يكون أمرًا واقعيًّا غير عينيّ كمثل الكلّيّات والقضايا الحقيقيّة.[1] إذ لا وجود في الخارج والعين للكلّيّ، بل الموجود هو مصداقه الّذي ينطبق عليه الكلّيّ كما كنّا أسلفنا، فالكلّيّ من حيث هو كلّيّ لا وجود له في الخارج بل الموجود مصداقه.

ومن هذه الواقعيّات غير العينيّة واقعيّة، مفهوم اجتماع النّقيضين أو الضّدّين _مثلًا_ هما من الأمور الحقّة الثّابتة في وعائها وإن لم تثبت في وعاء الأعيان الخارجيّة. من هنا عبّر السّيّد الصّدر عن انقسام الموجودات إلى ما هي موجودة بالخارج وإلى ما هي موجودة بنفسها.[2] والأخير اصطلاح جديد خاصّ به فلا مشاحّة في ذلك وإن كان في النّفس من هذا التّعبير شيء.

وذكر السّيّد الصّدر بعد أن أتمّ الكلام على الأقسام الثّلاثة الأولى قسمًا رابعًا[3] هي الأعراض ذات الإضافة إلى الخارج، حيث يكون العروض في هذا القسم ذهنيًّا وكذا الاتّصاف فحاله كحال الأعراض الذّهنيّة لكن يختلف عنها من حيث إنّ له نحو حكاية عن الخارج.

دقّق معي:

قولنا "الإنسان نوع" يقف فيه الحكم بالنّوعيّة على موضوع القضيّة وهو مفهوم الإنسان من دون أن يسري هذا الحكم إلى الفرد الخارجيّ،  فليس الفرد الخارجيّ نوعًا بوجه من الوجوه.

لكن قولنا "نحب عليًّا عليه السّلام"[4] لا يقف فيه الحبّ على متعلّقه من حيث هو صورة ذهنيّة وذلك أنّ المتعلّق يحكي عن الخارج لأنّه ذو إضافة بحيث يتقوّم بتلك الإضافة، فلولا هذه الإضافة لما تحقّق الحبّ. وليس معنى كونه ذا إضافة كون الحكم لم يقف على المتعلّق بحيث سرى إلى الخارج على نحو يصير مقوّم الحبّ هو محكيّ ذاك المتعلّق، لا بل المقوّم هو المتعلّق الذّهنيّ بنفسه، وهذا يدلّ عليه الوجدان والبرهان:

أمّا الوجدان؛[5] لو راجعنا وجداننا لوجدنا أنّ الحبّ يتعلّق بالمعدوم غير ذي الوجود العينيّ وغير ذي الواقعيّة، وهذا يحصل في حالات منها في الجهالات المركّبة. أما ترى العالمين بعلم غير مطابق للواقع قد ينصبّ حبّه على متعلّق لا وجود له أصلًا ولا واقع له وراء متخيّلهم؟! فلعلّ من آمن بشريك الباري المعدوم بالضّرورة والّذي لا واقع له، تعلّق حبّه به، وكيف يتأتّى هذا الحبّ لو كان متقوّمًا بالخارج ولا خارج؟ فينبّهنا الوجدان إلى كون الصّفات ذات الإضافات متقوّمة بصور الإضافات الذّهنيّة على أن يكون لتلك الإضافات حكاية عن الخارج بغضّ النّظر عن صدق الحكاية أو كذبها، وهذه الأعمّيّة لحال الصّدق والكذب تقتضي أن يكون المقوّم ثابتًا على كلّ حال وليس الثّابت على كلّ حال إلّا الصّورة الذّهنيّة للإضافة بما هي مرآة لا بما هي واسطة سريان للحكم إلى الخارج. فتحصّل تقوّم بعض الأعراض بإضافتها الحاكية من دون تقوّمها بالمحكيّ.

وتطبيقًا على المثال، يكون المحبوب لنا هي الصّورة الذّهنيّة الحاكية عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من دون سراية للحبّ إلى الفرد الخارجيّ العينيّ.

ولكن كما ترى، هذه الأعراض مع كون العروض فيها وكذا الاتّصاف ذهنيّين إلّا أنّها مختلفة عن "الإنسان نوع"، لأنّ هذه لا إضافة لها إلى الخارج مع كون "عليّ محبوب" فيها عرض ذو إضافة وهي الصّورة الذّهنيّة لكن الحاكية مع عدم سراية.

وأمّا البرهان؛[6] ما كان من المفاهيم والصّفات ذات إضافة فهو في الذهن أيضًا ذو إضافة، بحيث لا ينفكّ حتّى في مرتبة تصوّر ذاته عن طرفه. ليتحصّل من ذلك ضرورة ثبوت المضاف إليه في المرتبة الذّهنيّة للمفهوم أو الصّفة. ويختلف بهذا عن المعقولات المنطقيّة من القسم الأوّل حيث تعرض تلك المفاهيم على الذّهن بما هي هي لا بما هي ذات إضافة على نحو المرآتيّة.

وأشكل شيخنا الأستاذ على ما ذكره السّيّد الصّدر بما مفاده: إنّنا لا نحبّ الصّور الذّهنيّة الواقعة في صقع النّفس بل نحبّ الواقع الخارجيّ[7] المحكيّ لتلك الصّور، أما ترى في حبّ أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه ينصبّ حبّنا على شخصه الخارجيّ العينيّ المبارك؟! أوليس هذا من الوجدان النّافي لذاك الوجدان المدّعى؟

نعم؛ في مورد الجهل المركّب لا يكون المحبوب هو الواقع الحقيقيّ بل يكون الواقع التّخيّليّ (وإن كان في هذا التّعبير ما فيه من الجمع بين الواقع والتّخيّل) كواقع شريك الباري الّذي لا تحقّق خارجيّ له وإن كان له واقع يناسب حاله. ومع القول بالسّريان إلى الواقع وكونه هو المحبوب وهو المعلوم وهو المبغوض أي هو الّذي تعلّقت به حقيقة تلك الصّفات النّفسانيّة، يرجع هذا القسم الرّابع إلى ما رجعت إليه الأقسام الثّلاثة الأولى من كون الأعراض فيها جميعًا ذات عروض خارجيّ وكذا اتّصاف خارجيّ.

والمنبّهات على فساد هذا القسم بهذا المعنى المذكور كثيرة، كما في العلم: فالعلم يتعلّق حقيقة بالخارج لا بالصّورة الذّهنيّة والمسلم يتلبّس بالإسلام لإيمانه بالخارج الّذي علم به لا لإيمانه بالصّورة الذّهنيّة الحاكية عن الخارج بل لا دور للصّورة إلّا أن تكون مرآة إلى ذاك الخارج لتنصبّ الأحكام والصّفات والأعراض عليه.

ثمّ إنّ ما أنكر على أساسه السّريان إلى الواقع من وقوع الجهالات المركّبة لا يعني أنّ المعلوم بالعرض لا يكون معلومًا بل حتّى في الجهل المركّب لا يقف العلم على الصّورة الذّهنيّة ويسري إلى الواقع، نعم الواقع هنا بحسبه وهو تخيّليّ متوهَّم كما لو توهّم وجود شريك الباري واقعًا بعد علمه بمفهومه الثّابت واقعًا أيضًا.

ثم ذكر قسمًا خامسًا[8] عليه العمدة والمعوّل في تعلّق الأحكام الشّرعيّة بالمتعلّقات، وصفته أنّه يشترك مع الأعراض الذّهنيّة أي المعقولات الثّانية المنطقيّة في كون الذّهن ظرفًا للعروض وكونه ظرفًا للاتّصاف أيضًا لكن له طرف إضافة (وهذه جهة يشترك فيها مع القسم الرّابع)، لكنّ طرف الإضافة كلّيّ[9] هو الجامع والماهيّة ولا مطابق له في الخارج من حيث هو صرف الوجود، والموجود في الخارج هو مصداق المحكيّ بهذه الإضافة أي الصّورة الذّهنيّة الحاكية عن الخارج، فيما في القسم الرّابع كان المحكيّ بالصّورة الذّهنيّة للإضافة هو  الشّخص الخارجيّ لا الماهيّة والطّبيعة.

فالطّلب هو صفة ذات إضافة تتعلّق بالصّورة الذّهنيّة بما هي حاكية عن الخارج لكن لا بما هي حاكية عن الخارج المطابق لها، لأنّها من كلّيّ من حيث هي والكلّيّ بعنوان كلّيّته لا مطابق لها في الخارج. ولم يُطلب الواقع الخارجيّ الموجود حتّى يلزم تحصيل الحاصل ولا الصّورة الذّهنيّة إذ ليس الغرض فيها من حيث هي صورة ذهنيّة بل الغرض في الوجود الخارجيّ للصّلاة الّذي تحكي عنه الصّورة الذّهنيّة للمتعلّق من حيث إنّها طبيعة كلّيّة لها صلاحية الانطباق على المصداق المأتيّ به. وإنّما يتحقّق ذاك المصداق ببركة الطّلب المولويّ ولا يتقوّم الطّلب بالوجود الخارجيّ لأنّه بحسب الفرض غير موجود بعد بل بالصّورة الذّهنيّة الكلّيّة المسمّاة الطّبيعة أو الماهيّة المفيدة لصرف الوجود.

وبهذا تنحلّ عويصة[10] لم يحلّها إلّا الأوحديّ من العلماء ترتبط بكيفيّة تعلٌّق الحكم بالمتعلّق أهو الفرد الخارجيّ أم الوجود الذّهنيّ أم الصّورة الحاكية عن الواقع الجزئيّ أم الصّورة الحاكية عن الواقع من حيث هي طبيعة؟ اختار السّيّد الصّدر هذا الأخير كما قد عُلم.

وأشكل شيخنا الأستاذ على ذلك: ما ذكره من كون الوجوب عرض ذهني على المفهوم الكليّ بما له مصداق في الأعيان غير تامّ، لأنّنا قلنا إنّ الكلّيّ من حيث هو كلّيّ ليس أمرًا ذهنيًّا، نعم ليس عينيًّا لكن له واقع. فلا معنى للقول تعلّق بأمر ذهنيّ بل تعلّق بمفهوم واقعيّ حقّ يسري الحكم منه إلى محكيّه، وليس محكيّه الوجود الخارجيّ الحاصل ليلزم تحصيل الحاصل ولا هو الوجود الخارجيّ المقدّر الوجود كما في تعلّق الحكم بالموضوع بل هو الوجود الخارجيّ المطلوب تحقّقه بواسطة داعويّة الحكم. وقد صرّح بهذا المحقق الاصفهاني حيث ذهب إلى أنّ المطلوب هو إخراج ما هو مفروض ومتصوّر إلى الوجود الخارجيّ العينيّ.

 

 

[1] هذه القضايا من قسم الأمور الذّهنيّة وليست قسمًا مستقلًّا.[المقرّر].

[2] دروس في الفلسفة الإسلاميّة،الشّهيد مطهّريّ،ترجمة عبد الجبار الرّفاعيّ،ج2،ص261:"بعد ذلك لا بدّ من القول: إنّ الذّهن يجب أن يطابق الذّهن. فإذا كان الأمر كذلك يزول الحاجز بين الصّدق والكذب، لأنّ كلّ قضيّة هي مطابقة لنفسها. فالقضيّة الصّادقة تطابق نفسها وكذلك القضيّة الكاذبة تطابق نفسها.

بينما نلاحظ الفرق واضحًا بين القضايا الصّادقة والقضايا الكاذبة فكيف يكون ذلك؟ هذه هي صورة الإشكال الّذي ذكره القدماء على عدم انطباق تعريف الحقيقة على القضايا الذّهنيّة".

[3] المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص254:"العوارض الذّهنيّة الّتي تكون كالمعقولات الثّانويّة المنطقيّة، إلّا أنّه يختلف عنها في أنّ المعروض هنا يلحظ مرآة للخارج، ولذا يكون للعرض معروض آخر بالعرض، كما في الحبّ والبغض والعلم ونحوها من الصّفات النّفسيّة ذات الإضافة فهي من الكيف النّفسانيّ ومعروضها بالذّات قائم في عالم النّفس وهي الصّورة الذّهنيّة القائمة في نفس ذلك الأفق لا الخارج".

[4] المصدر نفسه:"أنّه في القسم الرّابع كان يوجد في الخارج معروض بالعرض، فحينما نحبّ الإمام عليه السّلام يكون حبّنا عارضًا بالذّات وحقيقة على الصّورة الذّهنيّة وبالعرض على شخص الإمام باعتبار أنّ تلك الصّورة إنّما يعرض عليها الحبّ بما هي ملحوظة بالنّظر التّصوّريّ الّذي يرى به عين الخارج، فهذا المحبّ يرى بالنّظر التّصوّريّ أنّه يحبّ الشّخص الخارجيّ".

[5]  المصدر نفسه،ص255:"أمّا الوجدان فلأنّه قد يعلم بشيء أو يحبّه وهو غير موجود فيعلم بإمامة زيد مثلًا أو يحبّها بينما هو في الواقع ليس بإمام".

 

[6] المصدر نفسه:"وأمّا البرهان فلأنّ العلم ونحوه صفة نفسيّة ذات إضافة فلا يتصوّر بتمام مراتبه بما فيها مرتبة ذاته أن ينفكّ عن طرفه وهذا معناه لزوم ثبوت المضاف إليه حتّى في مرتبة ذاته".

[7] صرّح السّيّد الصّدر في القسم الرّابع بأنّ الحبّ يتعلّق بالخارج لكن بالعرض لا بالذّات كما أنّ العلم يتعلّق بالخارج بالعرض لا بالذّات، وزاد بأنّ المحبّ يحبّ الشّخص الخارجيّ بالنّظر التّصوّريّ وإن كان الأمر ليس كذلك بالنّظر التّصديقيّ، أي إذا أعمل التّحليل الدّقيّ رأى وجود واسطة هي المرآة الفانية في الخارج. وهذا الكلام لا يتّسق مع ما فهمه من عبارته شيخنا الأستاذ، فليس متعلّق الحبّ ولا العلم هي الصّورة الذّهنيّة على نحو يقفيّ بل هي الصّورة الفانية في خارجها حتّى أنّ العالم يكون عالمًا بالخارج والمحبّ محبًّا للخارج.

أنظر عبارته في المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص255:"فالحبّ مثلًا يعرض للصّورة الذّهنيّة لا بما هي صورة ذهنيّة بل بما هي تري بالنّظر التّصوّريّ عين الخارج وفانيًا في الخارج وإن كانت بالنّظر التّصديقيّ غيره، ولذا وُجد في هذا القسم معروض بالعرض وهو ما في الخارج الّذي تحاكيه تلك الصّورة، بينما في القسم الأوّل لا يوجد معروض بالعرض". ففرقه عن القسم الأوّل أي المعقولات الثّانية المنطقيّة هو وجود معروض بالعرض، وفرقه عن القسم الخامس مع الاشتراك في المرآتيّة والفناء في الخارج هو كون الصّورة الذّهنيّة الّتي تعلّق بها الطّلب والحاكية عن الخارج والفانية فيه ليس لها مطابق في الخارج بل المطلوب هو صرف الوجود.

أنظر عبارته في المصدر نفسه،ص255-256:"فهذا القسم (أي الخامس) يشترك مع القسم الرّابع في المرآتيّة والفناء لكن فرقه عن القسم الرّابع: أنّه في القسم الرّابع كان يوجد في الخارج معروض بالعرض...أمّا في المقام فالبرّغم من كون الطّلب قد تعلّق بالصّورة الذّهنيّة بما هي حاكية عن الخارج لكنّه مع ذلك ليس هناك مطابق لهذه الصّورة الذّهنيّة في الخارج، فإنّ المولى حينما يعطش يطلب صرف وجود الماء؛ إذ لا يفرق في حقّه أيّ فرد من الأفراد، وصرف الوجود ليس له مطابق في الخارج وكلّ ما هو موجود في الخارج إنّما هو مصداق لمحكيّ الصّورة لا نفس محكيّها".

وفي عبارة أخرى يقول صراحة في المصدر نفسه ص256:"أنّ تلك الصّورة إنّما يعرض عليها الحبّ بما هي ملحوظة بالنّظر التّصوّريّ الّذي يُرى به عين الخارج، فهذا المحبّ يرى بالنّظر التّصوّريّ أنّه يحبّ الشّخص الخارجيّ".

[8] المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص255:"العوارض الذّهنيّة الّتي تختلف عن القسم الأوّل والقسم الرّابع كالطّلب الّذي معروضه بالذّات هو الصّورة الذّهنيّة بنفس البرهان والوجدان الماضيين لكنّها ليست صورة ذهنيّة ملحوظة بما هي هي كالقسم الأوّل، فإنّنا لو لاحظنا الصّورة الذّهنيّة بما هي صورة ذهنيّة لم نطلبها؛ لأنّنا مثلًا عطاشى، والصّورة الذّهنيّة لا ترفع العطش".

[9] لم يجعل السّيّد الصّدر بحسب عبارته ما يعرض عليه العرض معنى كلّيًّا بالضّرورة، بل الأحكام وهي بعض الأعراض تكون من قبيل ما يتعلّق بأمور كلّيّة وإلّا القسم من حيث هو أعمّ من الكلّيّ والجزئيّ.[المقرّر].

[10] المصدر نفسه:"وبهذا تنحلّ عويصة في المقام وهي: أنّ الطّلب إن كان موضوعه أمرًا خارجيًّا ففعليّته في طول تحقّق الموضوع، وهذا تحصيل للحاصل، وإن كان أمرًا غير خارجيّ فمن الواضح أنّ الطّالب لا يطلب أمرًا غير خارجيّ، فإنّ غرضه إنّما يحصل بالعمل في الخارج".

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است