انحاء العروض و نحو عروض الحکم علی المتعلق (۱۷ ربیع الثاني ۱۴۴۴)

أبى السّيّد الصّدر التّفكيك بين عالم العروض وعالم الاتّصاف وفاقًا لبعض المحقّقين،[1] وذهب إلى أنّ منشأ كون الاتّصاف في الخارج هو كون العروض في الخارج ولا يعقل أن يكون الشّيء الذّهنيّ معروضًا لوصف في حين أنّ المتّصف به هو الشّيء الخارجيّ؛ فهذا لا معنى له.[2] فكيف يكون الإنسان الذّهني معروضًا للإمكان مع كون الإنسان الخارجيّ هو المتّصف بالإمكان؟ بل الصّحيح اتّحاد وعاء العروض والاتّصاف كما في قسم الأعراض الذّهنيّة أو الخارجيّة. وإلّا فلنا أن نسأل كيف سرى الحكم باعتبار إلى الحكم باعتبار آخر؟ فالمعروض هو الإنسان الذّهنيّ فكيف صار المتّصف هو الإنسان الخارجيّ؟ وهذا هو إشكاله الأوّل وهو صحيح برأي شيخنا الأستاذ.

وأمّا إشكاله الثّاني؛ هو أنّ هذه الأمور الذّهنيّة ليست بمعنى الاعتباريّة حتّى يتمشّى اعتبار ما هو على خلافها بل هذه أمور حقّة[3] ولو لم يكن في البين معتبر ولا عقل ولا فكر أصلًا. ثمّ قسّم الاعتبار إلى أقسام[4] كنّا أشرنا إليها: الأوّل: ما كان اختياريًّا بالكامل بحيث بيد الذّهن الوضع والرّفع ومن الواضح أنّ الإمكان لا يثبت للإنسان من باب الاعتبار الاختياريّ الكامل. والثّاني: ما كان من قبيل الأمور الّتي وإن لم يكن لها حقيقة عقليّة إلّا أنّ الذّهن ينسبق إليها فيزيولوجيًّا كمثل موارد العادة، وواضح أنّ الإمكان لا يثبت للممكنات فيزيولوجيًّا ومن باب الانسباق الذّهنيّ. والثّالث: ما كان من قبيل الأمور الّتي ترجع إلى نكتة عقليّة حقيقيّة لكنّها ليست أمورًا خارجيّة مع كونها واقعيّة، والإمكان من هذا القبيل. إذ لوح الواقع أوسع من لوح الوجود. وقد قسّم السّيّد الصّدر الوجود إلى ما كان موجودًا بالخارج وما كان موجودًا بنفسه، وهذا من باب تغيير الاصطلاح ولا إشكال فيه.

أمّا رأي شيخنا الأستاذ:

فالحقّ أنّ الأعراض جميعًا قسم واحد وأنّه لا عرض ذهنيّ.[5]

إذا كان المقصود من العروض والاتّصاف الذّهنيّين هو كونهما قائمين بالتّصوّر والإدراك، فالأمر ليس كذلك حتمًا.[6]

بيانه: من المعلوم أنّ الوجود الذّهنيّ قائم بالتّصوّر بحيث إذا قُطع التّصوّر عُدم الوجود الذّهنيّ المعيّن، ويكون التّصوّر الجديد إيجادًا لوجود ذهنيّ آخر. وإذا أرادوا أنّ الإدراك بنفسه هو أمر ذهنيّ فهذا فاسد، لأنّ الإدراك أمر واقعيّ خارجيّ، إذ هو من أعراض النّفس وهي وجودات خارجيّة.[7]

الوجود الخارجيّ تارةً يكون جوهرًا وأخرى يكون عرضًا. والإدراك هو بنفسه وجود خارجيّ لكن له حكاية عن الغير.[8] وتقسيم الوجود إلى خارجيّ وذهنيّ بهذا المعنى هو تقسيم لغويّ، لأنّ كلًّا منهما وجود خارجيّ، غاية الأمر أنّ بعض تلك الموجودات هي عرض نفسانيّ وأخر هي أمور عينيّة خارجيّة.[9]

ولعلّ المراد من الوجود الذّهنيّ هو ما هو موجود بغضّ النّظر عن الذّهن أي وجد أم عدم. وبالتّالي؛ ينقسم الوجود الخارجيّ إلى ما هو في الأعيان وإلى ما هو متصوّر في الذّهن. وهذا يعني أنّ المدرَك هو الوجود الذّهنيّ لا الإدراك نفسه والتّصوّر القائمين بالذّهن، وهذا يترتّب عليه أنّ الوجود الذّهنيّ سوف لن ينعدم بمجرّد انعدام التّصوّر بل للمتصوَّر والمدرَك حقيقة واقعيّة ولو لم تكن عينيّة. وهذا يعني أنّه حتّى لو لم يكن في الوجود أيّ مفكّر أو متصوّر أو مدرِك يبقى على ما هو عليه من الحقّانيّة والواقعيّة، وهو وجود كالوجود العينيّ يكون منشأ للآثار.[10]

مثلًا الصّورة الذهنيّة لقضيّة "الإنسان نوع" هي جزئيّ خارجيّ عينيّ من مقولة الأعراض النّفسانيّة، وهذه الصّورة من حيث هي صورة جزئيّة يمتنع صدقها على كثيرين لأنّها شخص، ولا يُعقل انطباق العرض الشّخصيّ على جوهر ولا على عرض آخر. والنّوع في المقام هي الحقيقة المشتركة الجامعة بين أفراد الإنسان وهي الّتي تنطبق على الإنسان الخارجيّ الشّخصيّ.

وما أشكل به السّيّد الصّدر على القسم الثّالث أي المعقولات الثّانية الفلسفيّة يرد هو بعينه على هذا القسم من أنّ حقيقة كون "الإنسان نوعًا" قائمة متحقّقة وواقعيّة سواء كان في العالم متذهّن ومفكّر أم لا. فهذه ليست من مبتدعات الذّهن البشريّ لتوجد بوجوده وتزول بزواله، بل هي وجه ومرآة حاكية عن عينيّات خارجيّة. وهكذا الكلام في قضيّة "الإنسان كلّيّ"، فمفهوم الإنسان ذو حقيقة واقعيّة متّصفة بكونها كلّيّة سواء وجد إنسان فرد أم لا. نعم، هذا الكلّيّ من حيث هو كلّيّ هو غير موجود في الخارج وإن كان موجودًا في الواقع حيث واقعيّة القضايا الحقيقيّة والرّياضيّة والعلميّة من قبيل "الواحد نصف الاثنين" و"اجتماع النّقيضين محال" و"الإنسان نوع".[11]

ولو دقّقنا في الصّورة الذّهنيّة لأمر جزئيّ؛ فهي أيضًا لا تنطبق على مصداقها من حيث هي تصوّر موجود شخصيّ بل هي حاكية عن محكيّها كصورة زيد الذّهنيّة الحاكية عن زيد الخارجيّ.

فالوجود الذّهنيّ الصّحيح هو عبارة عن المدرَك والمتصوَّر لا عن الإدراك والتّصوّر[12] بحيث يكون المتصوَّر موجودًا بغضّ النّظر عن وجود المتصوِّر وهذا كما يتمّ في الخارجيّات العينيّة يتمّ أيضًا في الواقعيّات غير العينيّة ذات الثّبوت الحقّانيّ.

فتحصّل: أنّ ما أطلق عليه المشهور عنوان الأعراض الذّهنيّة هي في الحقيقة أعراض واقعيّة،[13] عروضها في الواقع وكذا اتّصافها في الواقع. فعروض النّوعيّة على مفهوم الإنسان في الواقع وكذا اتّصافه بها. وقد عبّر في كلام البعض عن ذلك الواقع بأنّه بنفس الأمر كوعاء لكلّ تلك الحقائق ك"الإنسان نوع" و"اجتماع النّقيضين"...

التّصوّر ليس إنشاءً بل هو إدراك والعقل ليس منشئًا بل هو مدرك للواقعيّات الأعمّ من العينيّات وغيرها. نعم بعض الحقائق الّتي يدركها العقل في واقعها على كلّيّتها لكنّها ليس لها إلّا مصداق واحد مثل مفهوم "واجب الوجود" و"شريك الباري".

 

[1] المباحث،ج3 من القسم الأوّل،ص252:"ونحن قد أشرنا في بعض الأبحاث السّابقة إلى أنّ هذا غير معقول؛ فإنّ اتّصاف الشّيء بعرض إنّما هو بلحاظ عروضه عليه، فلا يُعقل أن يكون عالم الاتّصاف به غير عالم عروضه".

[2] إلى هنا لم أر محذورًا فاسدًا واضحًا يمنع التّفكيك بين عالم العروض وعالم الاتّصاف.

[3] المصدر نفسه:"كما بيّنّا أنّ الاستلزام والإمكان إذا لم يكن موجودًا في الخارج بالبرهان، فلا يمكن أيضًا أن يقال: إنّ قوامه بفرض العقل واعتباره؛ لوضوح صدق قولنا:العلّة تسلتزم المعلول، حتّى لو لم يوجد عقل على وجه الأرض.

ومن هنا ذكرنا: أنّ الإمكان والاستلزام ونحوهما من الأمور الخارجيّة، وظرف الاتّصاف بها وكذلك ظرف عروضها هو الخارج، لكنّها خارجيّة بنفسها لا بوجودها".

[4] المصدر نفسه:"وتوضيح ذلك: أنّ كلّ أمر لا يكون للاعتبار دخل في حقّانيّته نسمّيه خارجيًّا وهو على قسمين:

فتارة تكون حقّانيّته وخارجيّته بالوجود كالإنسان، فإنّه بما هو إنسان ليس خارجيًّا وحقّانيًّا وإنّما هو ماهيّة نسبتها إلى الوجود والعدم على حدّ سواء.

وأخرى تكون حقّانيّته بذاته من قبيل: أنّ من الحقّ استحالة اجتماع النّقيضين، واستلزام العلّة للمعلول، فهذه الاستحالة وكذلك هذا الاستلزام ليس للاعتبار دخل في حقّانيّتها، وهي حقّ بذاتها لا بلبسها ثوب الوجود، كما في الإنسان والحيوان ونحوهما، فوعاء الخارج أوسع من وعاء الوجود وظرف الاتّصاف والعروض معًا للإمكان والاستلزام ونحوهما إنّما هو وعاء الخارج.

وبكلمة أخرى: ماذا يقصد بقولهم: إنّ مثل الملازمة والإمكان والاستحالة أمور ذهنيّة؟

إن قصد بذلك أنّها من قبيل الاعتبارات الذّهنيّة الجزافيّة كاعتبار الإنسان طويلًا يصل إلى الشّمس والّتي لا واقع لها إلّا نفس واقع الاعتبار فهذا بديهيّ البطلان؛ لبداهة الفرق بين قولنا "الإنسان ممكن" وقولنا "الإنسان طويل يصل إلى الشّمس"، فالأوّل يعتبر صادقًا والثّاني يعتبر كاذبًا. وهذا لا يكون إلّا باعتبار لحاظهما خارج وعاء الاعتبار فلو كانا من سنخ واحد ومن عالم الاعتبار لم يكن فرق بينهما في الصّدق والكذب وكان كلاهما صادقًا بلحاظ وعاء الاعتبار وكاذبًا بلحاظ الخارج.

وإن قصد بذلك: أنّنا حينما نتصوّر الإنسان ينساق ذهننا إلى أن نولّد منه الإمكان ولا ينساق ذهننا إلى أن نولّد منه الطّول، فكون الإمكان أمرًا ذهنيًّا يعنيّ أنّه حالة عقليّة ينساق إليها الذّهن البشريّ عند تصوّر الإنسان...قلنا إنّ هذا الانسياق إمّا أن يرتبط بنكتة فسلجيّة في نطاق ذات المفكّر أو بنكتة ترجع إلى نفس الأمر المفكَّر فيه:

والأوّل خلاف الضّرورة والوجدان...وعليه يتعيّن الثّاني وهو كون الفرق راجعًا إلى نفس المفكَّر فيه، فمثلًا الفرق بين الإنسان واجتماع النّقيضين حيث يتولّد عندنا في تصوّر الأوّل حالة الإمكان وفي الثّاني حالة الامتناع يكون بنكتة راجعة إلى نفس الإنسان واجتماع النّقيضين".

[5] الحقّ أنّ هذا مخالف لصريح الوجدان؛ إذ بلا برهان المرء يفرّق بين أنحاء في العروض ويجزم بأنّها ليست من وادٍ واحد، كما يجزم بأنّ بعضًا من الأعراض يكون فيه العروض ذهنيًّا وكذا الاتّصاف. والحقّ أيضًا أنّ شيخنا الأستاذ لا ينفي مثل هذا التّفاوت إلّا بدوًا.[المقرّر].

[6]  هذا في تصوّرات الذّهن المعيّن، نقول تنعدم تصوّراته بإعدامه للتّصوّر لكن هذا ليس هو عالم الذّهن الّذي برهن على وقوعه في قبال عالم الخارج. عالم الذّهن الّذي تنتسب إليه القضايا الذّهنيّة لا ينتسب بالفعل إلى شخص معيّن بحيث ينفعل بانفالاته وتجري عليه حالاته، بل هو عالم يقع في قبال عالم الخارج من حيث كونه حاكيًا عن الخارج ومرآة له بخلاف الخارج الّذي لا يحكي عن شيء وراءه. ولعلّ البعض تخيّل أنّ ذهنيّة الشّيء مساوية لاعتباريّته وهذا حكم جزافيّ بلا منشأ موضوعيّ أصلًا.[المقرّر].

[7]  الأمور الذّهنيّة هي أمور واقعيّة لا وهميّة، وهذا مدماك فاسد يستلزم فساد كلّ ما بني عليه، كما في المقام: أُخرجت الأعراض عن كونها ذهنيّة بحدّ أوسط لكونها غير وهميّة وأُدخلت عالم الواقع، بناءً على أنّ الذّهن هو عالم الوهم والاعتبار الجزافيّ وهذا فاسد باطل.[المقرّر].

[8] وهذا معنى ذهنيّته.[المقرّر].

[9]  بناءً على ما تنقّح بعد صدر المتألّهين من أصالة الوجود تنقّحت أيضًا المفاهيم المرتبطة بفهم الحقائق ومنها مفهوم الخارجيّة والعينيّة والتّحقّق والوجود والواقعيّة، بحيث أفادت هذه المدرسة كون هذه المفاهيم متساوقة فكلّ واقع هو وجود وكلّ خارج هو وجود وكلّ عينيّ هو وجود وهكذا وبالعكس فكلّ وجود هو خارج سواء كان وجودًا ذهنيًّا أو وجودًا خارجيًّا وليس التّعبير بالخارجيّ إلّا من حيث مقابلته لقسيمه أي الوجود الذّهنيّ من حيثيّة الحكاية عن الخارج.

وتقسيم الحقائق والخارجيّات إلى حاكية عمّا وراءها وغير حاكية هو تقسيم مفيد في غرض الفلسفة الأولى سواء كان مفيدًا في أصول الفقه أم لا.[المقرّر].

[10] كلّ وجود هو أصيل سواء كان ذهنيًّا أو خارجيًّا ومعنى أصالته هو منشئيّته للآثار لكن الآثار بحسب وعائه، فالآثار المترتّبة في الخارج غير تلك المترتّبة في الذّهن، لكن على كلّ حال هناك أثر مترتّب. فالنّار الخارجيّة تؤثّر الحرارة لكنّ النّار الذّهنيّة هي علم يطرد الجهل من جهة متعلّقه.[المقرّر].

[11] كلّ القضايا سواء كانت خارجيّة أو ذهنيّة أو حقيقيّة لها مطابَق ووعاء المطابَق بحسبها، فالخارجيّة مطابَقها في الخارج فيما الذّهنيّة والحقيقيّة ومنها كلّ القضايا العلميّة والرّياضيّة مطابقها في نفس الأمر والواقع.[المقرّر].

[12]  الإدراك بنفسه منقطعًا عن انفعالات المتذهّن هو وجود وواقع من قسم الوجود الذّهنيّ الحقيقيّ الواقعيّ لا الوهميّ الاعتباريّ كما تُوهّم.[المقرّر].

[13] لم يذهب المشهور إلى كون الأعراض الذّهنيّة أعراضًا وهميّة أو اعتباريّة كيُشكل عليهم ويردّ كلامهم ويقال الصّحيح أنّها واقعيّة بل واقعيّة بواقعيّة الذّهن الّذي هو من دون قياس إلى الوجود الخارجيّة خارج وواقع أيضًا.[المقرّر].

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است