اشتراط قصد التوصل فی المقدمة (الدرس ۷۵)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الدرس ۷۵

ما زال بحثنا في توجيه الكلام المنسوب إلى الشّيخ الأعظم من حيث اعتبار قصد التّوصّل _لا قصد التّقرّب كما لا يخفى_، والّذي لم يتعرّض الشّيخ الآخوند لبيان وجه للاستدلال عليه بل باشر بردّه كما أسلفنا ولعلّ ذلك قول منه بعدم وجود مقتضٍ لهذا القول رأسًا.

وقد ذكرنا توجيه المحقّق الأصفهانيّ لاعتبار قصد التّوصّل بل هو سلّم به في متن النّهاية لكنّه أشكل عليه في حاشيتها. ومحصّل كلامه سوقه لمقدّمتين أولاهما أنّ الحيثيّات التّعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع إلى حيثيّات تقييديّة وبالتّالي ما وجب لأجل المقدّميّة فقد انصبّ الوجوب فيه على عنوان المقدّمة لا على الشّيء من حيث هو لأجل المقدّمة، وثانيهما أنّ الوجوب لا يتعلّق إلّا بالحصّة الّتي تقع عن قصد وعمد، فمصداق الواجب هي المقدّمة المأتيّ بها بقصد التّوصّل، لأنّ الفعل الواقع بلا قصد توصّل هو فعل خارج عن ميقات الاختيار.

وقد تقدّم إشكال السّيّد الخوئيّ على المقدّمتين الثّنتين حيث قبل كبرى الأولى وناقش صغراها فيما لم يقبل كبرى الثّانية. بهذا المعنى قبل السّيّد الخوئيّ كبرى رجوع الحيثيّات التّعليليّة إلى حيثيّات تقييديّة ولكن لا صغرى لها في المقام. ولمزيد من البيان والتّوضيح نقول:

ليس معنى الحيثيّة التّعليليّة أنّه لا يُتعدّى عن موردها ولا نعمّم بواسطة العلّة الحكم لأنّها ليست حيثيّة تقييديّة، بل على كلّ حال العلّة معمّمة رجعت إلى التّقييديّة أم لم ترجع، فلا تخلط بين البحثين، العلّة دائمًا تُعدّي عن المورد فهذا أمر، لكنّها ليست دائمًا هي موضوع الحكم وقيده والأصالة الواقعيّة للموضوع في الأحكام الشّرعيّة وهذا أمر آخر. ومعنى الحيثيّة التّقييديّة هي حيثيّة الموضوع أي أنّ هذه الحيثيّة هي موضوع الحكم وقوامه الأصليّ الواقعيّ. وعليه، فالسّؤال هنا هل العلّة المذكورة في الدّليل وهي حيثيّته التّعليليّة هي الموضوع الأصليّ والواقعيّ للحكم؟ أم أنّ الموضوع الأصليّ الواقعيّ هو أمر آخر والعلّة المذكورة هي ملازم له؟

على ما تقدّم: ليس بالضّرورة أن ترجع الحيثيّات التّعليليّة إلى تقييديّة في الأحكام الشّرعيّة، فما ذكر كعلّة قد يكون موضوع الحكم واقعًا وقد لا يكون، ومثّلنا لذلك ب" هذا المائع حرام لأنّه خمر"، ويظهر بوضوح أنّ الخمريّة ليست هي الموضوع الأصليّ للحكم بل الإسكار مثلًا، لكنّنا نترقّى ونقول إنّ الدّليل القائل "الخمر حرام لأنّه مسكر" لا يفيد بالضّرورة كون الإسكار _وهو الحيثيّة التّعليليّة هنا_ الموضوع الأصليّ والحيثيّة التّقييديّة للحكم، بل قد يكون الموضوع الأصليّ هو ترك الواجبات والإقدام على الفواحش[1] حال السّكر، أي إنّ الموضوع الأصليّ هو عنوان ملازم لعنوان الإسكار، فلا موضوعيّة للسّكر بل الموضوع هو ذاك الملازم الّذي لا ينفكّ. ففي مثل هذا الدّليل المفترض الّذي تقدّم، ما يريد الشّارع قوله هو كلّ مسكر حرام أمّا لأنّه مسكر أم لشيء آخر؟ هذا لا نستفيده من الدّليل نفسه. نعم قد تكون الحيثيّة التّعليليّة إضافة لكونها كذلك، تقييديّة، مثلّا لو قال المولى: حرّم الخمر لوصفها أي إنّ المولى حرّمها لموضوع الإسكار الّذي فيها دون أن يكترث في مقام الجعل بملازماتها، أي لم يتوجّه إليها كموضوع للحكم، فنستفيد حينها كون الحيثيّة التّعليليّة هذه هي الحيثيّة التّقييديّة أي الموضوع الأصيل للحكم. إذا عرفت هذا: فكلّ تعليل ورد في الشّرعيّات فهو معمّم لكنّ ليس بالضّرورة أن يكون موضوع الحكم الأصيل وقوامه.

أمّا في الأحكام العقليّة، فكلّ حيثيّة تعليليّة هي حيثيّة تقييديّة أي هي موضوع الحكم الأصيل فكلّما حكم العقل فقد أدرك الموضوع الأصيل لحكمه. وبعد أن ظهر الفرق بين مقام حكم العقل ومقام حكم الشّرع، جاز القول إنّه لو قال المولى الخمر حرام لأنّه مسكر، فالإسكار علّة لكنّها ليست موضوعًا بل الموضوع أمر آخر ملازم وقد يكون ذاك العنوان الملازم أعمّ دائرة من الإسكار فبموجبه يحرم الإسكار وتحرم عناوين أخرى ملازمة لها كملازمة الإسكار له، فتفطّن.

وهنا ألفت شيخنا الأستاذ إلى أنّ العلّيّة لا تفيد إلّا التّعميم بحيث نتعدّى عن المورد الخاص ولنثبت الحكم لكلّ ما فيه العلّة. أمّا انتفاء الحكم عند انتفاء العلّة فهذا ليس ممّا نستفيده من صرف العلّيّة بل هذا مستفاد من العلّيّة الانحصاريّة، أي متى انحصرت العلّة ثبت عند انتفائها انتفاء الحكم. وعليه، دالّ التّعميم هو العلّيّة ودالّ الانتفاء عند الانتفاء هو الانحصاريّة، وكلّ دالّ يحتاج إلى إثبات، فما لم تثبت الانحصاريّة لا يمكن الحكم بانتفاء الحكم عند انتفاء العلّة غير معلومة الانحصار.

إذا تبيّن هذا كلّه: صحّ قولهم إنّ الحيثيّات التّعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع إلى حيثيّات تقييديّة لأنّ العقل يدرك موضوعه عند الحكم، وهذا هو معنى الحيثيّة التّقييديّة بل حكمه مشروط بالإدارك، وليست دخالة العلّة في الحكم في مورد العقل دخالة بالملازمة كما يحصل في الشّرعيّات بل بالأصالة بحيث تكون هي موضوعه. ويكون مراد المحقّق الأصفهانيّ هو أنّ ما وجب عند العقل بعلّة المقدّمية، فموضوع الحكم هو ذاك العنوان في الحقيقة لا أنّ الموضوع هو الشّيء بعلّة المقدّميّة؛ الواجب في الصّعود إلى السّطح ليس نصب السّلّم بل مقدّمة الصّعود بعنوانها هذا ومنها نصب السّلّم لكن لا بخصوصيّاته بل بمصداقيّته للعنوان الواجب.

وممّا تقدّم  انقدح: أنّ مأخذ السّيّد الخوئيّ على المحقّق الأصفانيّ هو من حيث ادّعاؤه الاشتباه في التّطبيق، فالكبرى سليمة لكنّ الصّغرى سقيمة. إذ ليس المورد من حكم العقل بل من حكم الشّرع بوجوب المقدّمة المستكشف بحكم العقل. كيف ذلك؟ إنّ العقل لا يحكم بوجوب المقدّمة ابتداءً بل العقل يكشف عن حكم الشّارع بوجوب المقدّمة عنده، فهنا الحيثيّة التّعليليّة لا ترجع إلى حيثيّة تقييديّة لأنّ المقام مقام حكم الشّرع لا العقل، والكبرى مسلّمة في الثّاني مخرومة في الأوّل. هنا الوجوب المدّعى شرعيّ مولويّ قد حُكم به بعلّة المقدّميّة، لكنّ الحيثيّات التّعليليّة في الأحكام الشّرعيّة على ما تقدّم لا ترجع إلى الحيثيّات التّقييديّة، فقد يكون واقع المقدّمة هو الموضوع لا عنوان المقدّميّة أي تغايرت العلّة مع الموضوع.

أشكل السّيّد الصّدر[2] على ردّ السّيّد الخوئيّ من جهة تفصيله بين القبول بالكبرى وإباء كون المورد صغرى لها بما مفاده: إذا بنينا على الكبرى على كلّيّتها فلا مناص عن القبول بكون المورد صغرى لها، لأنّه لا فرق بين كون حكم العقل كاشفًا عن حكم الشّرع أو كونه كاشفًا عن حكم آخر، هو في النّتيجة حكم عقليّ تشمله الكبرى والأحكام العقليّة ومنها رجوع الحيثيّة التّعليليّة إلى حيثيّة تقييديّة، لا تقبل التّخصيص. ففي المقام حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشّيء المولويّ ووجوب مقدّمته، نعم حكم العقل بحكم الشّارع لكنّ الحاكم هو العقل ولم يُتوصّل إلى حكم الشّرع من دون حكم العقل. وتطبيقًا على المورد حكم العقل بوجوب المقدّمة شرعًا بعلّة المقدّميّة والحيثيّة التّعليليّة هذه ترجع إلى حيثيّة تقييديّة أي موضوع الحكم هو عنوان المقدّميّة. وقد قال أستاذنا بصحّة هذا الإشكال من السّيّد الصّدر.

ثمّ أورد السّيّد الصّدر إشكالات على ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ[3] من حيث أصل كبرى رجوع الحيثيّات التعليليّة إلى التّقييديّة وكذا من حيث دخالة هذه الكبرى في لزوم قصد التّوصّل:

الإشكال الأوّل: لا نقبل هذه الكبرى في كلّ مورد من موارد حكم العقل. هذا كلام مشهور وموروث، ولكن له ضابطة يفرّق على أساسها بين أحكام العقل العمليّ والنّظريّ فتجري في العمليّ دون النّظريّ، والحكم بالملازمة هنا هو من أحكام العقل النّظريّ لا العمليّ لأنّ العقل يحكم بالملازمة لا يحكم بالوجوب. وفي الحقيقة هذا الإشكال ذكره المحقّق الأصفهانيّ في حاشية نهايته.[4] إذا قال العقل "الضّرب أي الفعل العمليّ المعيّن حسن للتّأديب"، قلنا بلا تردّد التّأديب هو الحسن وهو الموضوع والمناط والعنوان الحقيقيّ لحكم الحسن، أي هو الحيثيّة التّقييديّة، وبالتّالي ليس الضّرب هو الحسن ولا عليه المدح بل الحسن هو التّأديب ولأجله يُمدح الفاعل. أمّا في أحكام العقل النّظريّ، فالكبرى غير تامّة، أي ليس بالضّرورة أن ترجع الحيثيّات التّعليليّة إلى حيثيّات تقييديّة، فقد يحكم العقل بحكم معلّل بعلّة ليست هي الموضوع الأصيل الواقعيّ. كما لو حكم العقل بحكم لا يعرف موضوعه الأصيل الواقعيّ. وهذا في الحقيقة قول بأنّ العقل حكم من دون أن يعرف موضوعه معرفة تفصيليّة، فمع عدم إدراكه لمناط حكمه حكم العقل لكن لنكتة ما في عالم الإثبات. مثاله حكم العقل بأنّ الواحد نصف الاثنين لكن دون أن يعرف السّبب. بهذا المعنى سيحكم العقل على عنوان أو خصوصيّة ملازمة للموضوع الأصليّ على مستوى الإثبات دون أن يدري ما الموضوع ثبوتًا، فوسّط العقل عنوانًا ملازمًا إثباتًا ليحكم على الموضوع الأصليّ ثبوتًا. وهذا بعينه ما قلنا بجريانه في الأحكام الشّرعيّة.

وأبدى شيخنا الأستاذ استغرابه واستهجانه لهذا الكلام، فلا معنى محصّل له يمكن الرّكون إليه، فهل يمكن أن يحكم العقل النّظريّ حكمًا على موضوع لا يعرفه؟ فيحكم العقل مثلًا بوجوب المقدّمة لكن لا عنوان المقدّمة، بل ولا يعرف العقل ما هو مناط حكمه بالوجوب، فقد يكون موضوع الحكم ذات المقدّمة. إنّ هذا أمر غير معقول. وللمختار في الباب تبعات مهمّة في مباحث أساسيّة منها جريان الاستصحاب وعدمه في الأحكام العقليّة.[5]

 

[1]  أنظر علل الشّرائع،ج2،الباب224، باب علّة تحريم الخمر،ص374-375:

1 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن محمد بن سنان قال:
سمعت أبا الحسن علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام يقول حرم الله عز وجل الخمر لما فيها من الفساد ومن تغييرها عقول شاربيها وحملها إياهم على انكار الله عز وجل والفرية عليه وعلى رسله وسائر ما يكون منهم من الفساد والقتل والقذف والزنا وقلة الاحتجاز عن شئ من المحارم فبذلك قضينا على كل مسكر من الأشربة انه حرام محرم لأنه يأتي من عاقبته ما يأتي من عاقبة الخمر، فليجتنب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتولانا وينتحل مودتنا كل شارب مسكر، فإنه لا عصمة بيننا وبين شاربه.
2 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه عن عمه محمد بن أبي القاسم عن محمد بن علي الكوفي عن عبد الرحمن بن سالم عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام لم حرم الله الخمر؟ قال: حرم الله الخمر لفعلها وفسادها لان مدمن الخمر تورثه الارتعاش وتذهب بنوره وتهدم مروته وتحمله على أن يجترء على ارتكاب المحارم وسفك الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه ولا يعقل ذلك ولا يزيد شابها إلا كل شر.
3 - حدثنا محمد بن الحسن رحمه الله قال حدثنا محمد بن الحسن الصفار رحمه الله عن يعقوب بن يزيد عن إبراهيم عن أبي يوسف عن أبي بكر الحضرمي عن أحدهما قال: الغناء عش النفاق والشرب مفتاح كل شر ومدمن الخمر كعابد الوثن مكذوب بكتاب الله لو صدق كتاب الله لحرم حرام الله.

[2]  أنظر البحوث،ج2،ص242:"وقد وافق سيّدنا الأستاذ على كبرى رجوع الحيثيّات التّعليليّة إلى تقييديّة في أحكام العقل مطلقًا ولكنّه ناقش في كلام هذا المحقّق بأنّ الوجوب المبحوث عنه في المقدّمة هو الوجوب الشّرعيّ لا العقليّ وإنّما العقل مجرّد كاشف عنه.

مع أنّ هذا تهافت، فإنّه إذا وافقنا على أنّ الحيثيّات التّعليليّة في الأحكام العقليّة مطلقًا العمليّة والنّظريّة تكون تقييديّة فلا وجه لخروج المقام عن تلك القاعدة، إذا ليس دور العقل في الأحكام خصوصًا النّظريّة سوى الكشف والإحراز، فالتّسليم بتلك المقدّمة مناقض مع الاعتراض عليه".

[3]  المصدر نفسه:"إنّ هذه القاعدة كلام موروث يقصد منه الأحكام العقليّة العمليّة لا النّظريّة، فعندما يقال "الضّرب للتّأديب حسن" يكون التّأديب هو الحسن لا أنّ التّأديب يجعل الضّرب بعنوانه حسنًا، وذلك لأنّ هذه الأحكام العمليّة أمور نفس أمريّة يدركها العقل لموضوعاتها بالذّات، وهذا بخلاف المجعولات الشّرعيّة فإنّها ربّما تؤخذ في لسان جعلها حيثيّات هي وسائط لثبوت الحكم على الموضوع، وكذلك مدركات العقل النّظريّ حيث قد تكون حيثيّة ما، سببًا لإدراك العقل حكمًا على موضوع ليست تلك الحيثيّة مأخوذة فيه".

[4]  أنظر نهاية الدّراية،ج1،في الحاشية،ص391:"ويمكن الاعتراض على كلا الأمرين أمّا على الأوّل فبالفرق بين الأحكام العقليّة العمليذة والأحكام العقليّة النّظريّة، فإنّ مبادي الأولى هو بناء العقلاء على الحسن والقبح ومدح فاعل بعض الأفعال وذمّ فاعل بعضها الآخر وموضوع الحسن مثلًا هو التّأديب لا الضّرب لغاية التّأديب، إذا ليس هناك بعث من العقلاء لغاية فإنّها لا تتكفّل إلّا الإذعان بالواقع. ومن الواضح أنّ الإرادة التّشريعيّة على طبق الإرادة التّكوينيّة فكما أنّ الإنسان إذا أراد شراء اللّحم يريد المشي إلى السّوق،...وليس حكم العقل إلّا الإذعان بالملازمة بين الإرادتين لا أنّه حكم ابتدائيّ بوجوب الفعل عقلًا حتّى لا يكون له معنى إلّا الإذعان بحسنه الملزم حيث لا بعث ولا زجر من العاقلة لينتج أنّ الحسن في نظر العقل هو التّوصّل لا الفعل لغاية التّوصّل".

[5]  ضميمة: أنظر بحر الفوائد في شرح الفرائد للميرزا الآشتيانيّ،ج7،ص50-57:

"الاستصحاب لا يجري في الاحكام العقليّة

فنقول : أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالحق عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي وعدم إمكانه سواء كان من مقولة الإنشاء ـ على ما هو محلّ البحث ـ أو الإدراك والتّصديق بأنحائهما وأقسامهما ، وجوديّا كان ، أو عدميّا ، قطعيّا كان أو ظنيّا. أمّا عدم إمكان جريانه في حكمه الإنشائي ؛ فلأنّ المعتبر في الاستصحاب موضوعا ـ على ما هو من الأمور الجليّة الّتي لا يعتريها ريب ـ الشّك في بقاء ما ثبت. ومن المعلوم بالضّرورة والوجدان عدم تعقّل الشّك في بقاء الحكم لنفس الحاكم بشيء سواء كان عقلا أو شرعا أو غيرهما ؛ لأنّه بعد الرّجوع إلى نفسه : إمّا أن ينشأ ما أنشأه أوّلا في الزّمان الثّاني فلا معنى للاستصحاب ، أو لا ينشأه فلا معنى للاستصحاب أيضا ؛ للقطع بعدم الحكم واقعا ؛ إذ واقعه إنّما هو بنفس إنشاء الحاكم ولا يعقل شكّ المنشيء في إنشاءه بمعنى شكه في بقاء ما أنشأه أوّلا ؛ إذ لا يعقل بالنّسبة إلى نفس الحاكم الثّبوت النّفس الأمري حتّى يعقل شكّه فيه ، نظير سائر الأمور الثّابتة بحسب الواقع ، فالشّك إنّما يتعقل بالنّسبة إلى ما يتصوّر له واقعيّة مع قطع النّظر عن حكم الشّاك وعدم حكمه ـ سواء كان من الموضوع أو حكم حاكم آخر ـ فإنّه يمكن عروض الشّك في بقائه نظير سائر المحمولات الثّابتة للموضوعات الواقعيّة.

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ ما قرّرنا لا يختصّ بالاستصحاب في الحكم العقلي ، بل يجري بالنّسبة إلى جميع الأحكام بالنّسبة إلى الحاكم بها ؛ فإنّهم إن علموا بوجود ما كان علّة تامّة في حكمهم في الزّمان الأوّل ، يحكمون في الزّمان الثّاني أيضا. وإن لم يعلموا سواء قطعوا بعدمها أو شكّوا فيها ، لم يحكموا قطعا كما لا يخفى. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا لك فافرض نفسك حاكما بشيء وانظر هل ترى منها الشّك في الحكم في زمان؟

والوجه في ذلك : أنّ الحاكم بشيء لا يستقلّ في الحكم به إلّا بعد إحراز جميع ما له مدخل في حكمه ، فإن وجده في الزّمان الثّاني يحكم به كما حكم في الزّمان الأوّل ، وإلّا فلا يحكم به قطعا سواء كان قاطعا بعدمه ، أو شاكّا أو ظانّا ؛ لأنّ حكمه تابع لإنشائه ومن مقولات أفعال نفسه ، لا التّحقّق الموضوع واقعا حتّى يستلزم احتمال وجوده احتمال وجود الحكم على ما هو قضيّة التّبعيّة ، فالحكم من الحاكم بالنّسبة إلى موضوعه مترتّب عليه ما دام معلوما. ومن المعلوم أنّ الحكم العارض للموضوع بوصف العلم به يرتفع واقعا في صورة الشّك بحيث لو فرض ثبوت الحكم في صورة الشّك لم يعقل أن يكون هو هذا الحكم ، بل لا بدّ أن يكون حكما آخر في موضوع آخر. ومن هنا يعلم أنّه ليس للعقل حكمان : حكم واقعيّ يحكم به في الموضوع الواقعي ، وحكم ظاهريّ يحكم به عند الشّك في حكمه الواقعي ، كما ربّما تخيّله بعض من لا خبرة له.

نعم ، حكم العقل على موضوع يوجد في صورة القطع بشيء وفي صورة الشّك فيه ممّا لا ينكر ، لكنّه لا دخل له بالحكم الظّاهري للعقل ، كحكمه بقبح التّشريع مثلا على القول : بكونه إدخال ما لم يعلم كونه من الدّين سواء علم بعدم كونه من الدّين أو شكّ في ذلك على ما أسمعناك شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة هذا كلّه.

مضافا إلى أنّه لو فرض شكّ للعقل في بقاء حكمه فلا يتصور إلّا من حيث الشّك في بقاء الموضوع من حيث ارتفاع وجود ما يحتمل مدخليّته ، أو الشّك في ارتفاع ما علم مدخليّته ، أو وجود ما يحتمل مدخليّة عدمه ، أو الشّك فيه مع القطع بمدخليّته ، وسيجيء اشتراط بقاء الموضوع في إجراء الاستصحاب. وإلى أنّه لا معنى لإجراء الاستصحاب في الحكم العقلي مع قطع النّظر عمّا ذكر أيضا ؛ لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه حتّى يجري الاستصحاب فيه بناء على ما عرفت غير مرّة وستعرف إن شاء الله : من أنّ استصحاب ما لم يترتّب عليه أثر شرعيّ إذا لم يكن نفسه حكما شرعيّا ممّا لا معنى له. هذا محصّل الكلام في الحكم العقلي بمعنى الإنشاء.

ومنه يعرف الكلام في عدم إمكان جريان الاستصحاب في حكمه بمعنى الإدراك أيضا ؛ لعين ما عرفت سابقا : من عدم تعقّل الشّك في بقائه ؛ لأنّه في الزّمان الثّاني : إمّا أن يدرك ما أدركه أوّلا أو لا يدرك قطعا ، ولا يعقل الشّك في أنّه يدرك أو لا يدرك. نعم ، المدرك ممّا يشكّ في بقائه سواء كان من مقولة الحكم ، أو الموضوع ، لكنّه لا دخل له بالإدراك الّذي نتكلّم فيه فتدبّر. هذا مجمل القول في المقام الأوّل.

عدم جريان استصحاب الحكم الشرعي المنكشف من حكم العقل

وأمّا الكلام في المقام الثّاني : وهو إمكان جريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي التّابع للحكم العقلي ، أي : المستكشف منه بقاعدة التّلازم بينهما ، فالّذي صرّح به الأستاذ العلّامة : إمكان جريان الاستصحاب فيه مع قطع النّظر عن تسبّب الشّك فيه عن الشّك في الموضوع وتردّده بين ما هو باق واقعا قطعا وبين ما هو مرتفع كذلك ؛ لأنّ الحاكم به ليس هو المكلّف حتّى لا يمكن وقوع الشّك فيه ، بل غيره وقد عرفت : أنّه لا شبهة في طريان الشّك في بقاء حكم الغير فمع قطع النّظر عمّا هو قضيّة التّحقيق من لزوم إحراز (١) الموضوع في الاستصحاب لا ضير في الاستصحاب المذكور.

لا يقال : إذا فرض كون حكم الشّرع تابعا لحكم العقل ، فكيف يمكن احتمال بقاء الحكم الشّرعي مع القطع بانتفاء الحكم العقلي المتبوع له.

لأنّا نقول : معنى تبعيّة الحكم الشّرعي للحكم العقلي هو اتّحاد موضوعهما لا كون الحكم العقلي موضوعا للحكم الشّرعي ، فلو فرض إذا شكّ في ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة واحتمل كونه ممّا ينتفي في الزّمان اللاحق لم يكن هناك مانع عن استصحاب الحكم الشّرعي مع القطع بعدم وجود الحكم العقلي ؛ لإمكان الشّك في بقاء الحكم الشّرعي واحتمال بقائه من جهة احتمال بقاء ما هو الموضوع له.

لا يقال : إذا فرضت كون الموضوع في حكم العقل هو الشّيء بوصف كونه معلوما ، فلا بدّ أن يكون هو الموضوع في حكم الشّرع أيضا ؛ لأنّ حكم الشّرع المستكشف من حكم العقل لا يمكن أن يكون موضوعه غير ما هو الموضوع في حكم العقل ، فكما لا يعقل الشّك في بقاء الحكم العقلي من جهة أخذ العلم في موضوعه جزءا كذلك لا يعقل الشّك في بقاء الحكم الشّرعي أيضا ، لا من جهة أنّ الموضوع في الحكم الشّرعي هو حكم العقل حتّى يمنع عنه ، بل من جهة وحدة الموضوع فيهما.

لأنّا نقول : أمّا أوّلا : فلأنّ وحدة الموضوع في حكم العقل والشّرع لا يقتضي عدم احتمال بقاء الحكم الشّرعي في موضع الدّوران ؛ فإنّ العلم الّذي يكون معتبرا في الحكم والإنشاء إنّما هو علم الحاكم لا علم غيره ، فإذا كان الحاكم العقل فلا بدّ في حكمه من علمه بما هو المناط له في زمان الحكم. وإن كان الحاكم الشّرع فالمعتبر هو علمه لا علم المكلّف. ومن المعلوم أنّ تحقّق الموضوع وبقاءه عنده ممّا هو محتمل قطعا ، فيحتمل وجود حكمه أيضا فكون العلم مأخوذا في موضوع حكم العقل لا ربط له بالمقام ، ولا يمنع من الشّك في بقاء الحكم الشّرعي كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض عروض الشّك في الموضوع للعقل من أوّل الأمر ، وأنّه لا يدرى بأيّ موضوع تعلّق حكمه ، وإلّا فقد عرفت : أنّ الشّك في معروض الحكم ، وأنّه أيّ شيء ممّا لا يعقل عند العقل فتدبّر.

لا يقال : كيف يدّعى أخذ العلم في موضوع حكم العقل وأنّه لا واقعيّة له حتّى يشكّ في بقائه وعدمه ، مع أنّ من المشاهد المحسوس شكّنا كثيرا في وجود المصالح والمفاسد في الأفعال المقتضية لحكم الشارع؟

لأنّا نقول : قد اشتبه عليك الأمر في حكم العقل ؛ فإنّ المراد من حكم العقل في المقام ليس هو المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء الباعثة على حكم الشارع ؛ فإنّها من ذاتيّات الأشياء ، ومن الأمور الثّابتة في الواقع بحيث لا ربط للعقل فيها أصلا ، وإنّما المراد من حكم العقل في المقام : هو ما ذكروه في مسألة التّحسين والتّقبيح وجعلوه محلّا للنّزاع ثبوتا وعدما وكونه دليلا على حكم الشارع على تقدير الثّبوت أم لا ، الّذي قسّموه إلى أقسام خمسة من الاقتضائي والتّخييري. ومن المعلوم أنّ هذا إنشاء محض من العقل لا واقعيّة له أصلا.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الشّك وإن كان متصوّرا في بقاء الحكم الشّرعي المستكشف من حكم العقل من جهة قاعدة الملازمة ، إلّا أن الشّك فيه يرجع دائما إلى الشّك في بقاء موضوعه فلا يجري الاستصحاب فيه من هذه الجهة".

 

 

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است