المقدمة الموصلة (الدرس ۸۳)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قدّمنا إشكال الشّيخ الآخوند على الاستدلال الرّابع الّذي استُدلّ به على مقالة صاحب الفصول ثمّ تصدّينا للردّ عليه بكلام ينفعنا في البحث اللّاحق المرتبط بردّ كلام المحقّق النّائينيّ.

وخلاصة ما مضى أنّه يجوز للشّارع أن يحرّم المقدّمة غير الموصلة، ما يعني أنّ الواجبة من المقدّمات هي خصوص الموصلة دون سواها. وأشكل على ذلك الشّيخ الآخوند بإشكالين: أحدهما أنّ جواز المنع عن غير الموصلة ليس دليلًا على اختصاص الوجوب بالموصلة، بل هذا يعني أنّه حيث حرّم فقد أوجد المانع عن اتّصاف المأتيّ به بكونه مصداقًا للواجب ولو كان محصّلًا للغرض. وثانيهما أنّه إذا قيّد الشّارع المقدّمة المطلوبة بالموصلة فهذا سيستلزم أمرًا غير معقول، وهو أن يكون الأمر بذي المقدّمة تحصيلًا للحاصل.[1]

وفي الجواب على الإشكال الثّاني، قلنا إنّ هنا خلطًا بين مقدّمة الوجوب ومقدّمة الواجب. إذ إنّ القول بكون وجوب الشّيء مستلزمًا لوجوب مقدّمته قول بملازمة مطلقة غير مقيّدة بحيث تجب المقدّمة وجوبًا مترشّحًا عن وجوب ذيها وتابعًا له في الإطلاق والاشتراط، لكنّ القول بكون وجوب الشّيء متوقّفًا على تحقّق مقدّمته هو خروج عن إطلاق تلك الملازمة وانتقال للحديث عن اشتراط الوجوب مع أنّ البحث في اشتراط الواجب. والصّحيح كما كان تقدّم أنّ وجوب ذي المقدّمة لا يتوقّف على تحقّق مقدّمته بل هو منشأ لتحقّقها في الخارج أي إنّ تحقّقها من رشحات وجوبه؛ نعم وجود ذي المقدّمة متوقّف على وجود مقدّمته. فقد تخيّل الشّيخ الآخوند أنّه إذا كان تحقّق ذي المقدّمة قيدًا للمقدّمة بناءً على القول بالمقدّمة الموصلة، فهذا مستلزم للأمر بتحصيل الحاصل أي للأمر بالاتيان بالمقدّمة مع أنّها حاصلة، في حين أنّ قيد حصول ذي المقدّمة هو قيد صحّة المقدّمة لا قيد وجوب المقدّمة، ليكون تحصيلًا للحاصل. أي إنّه بتحقّق ذي المقدّمة تتّصف المقدّمة المأتيّ بها بكونها مصداقًا للواجب وبكونها صحيحة فهو مقدّمة صحّة. لكنّ المقدّمة وجبت من أوّل الأمر وقبل تحقّق شيء منها ولا من ذيها في الخارج فليس الكلام في شرط الوجوب ومقدّمته، إذ وجوبهما يتوقّفان على لحاظات مولويّة ويكونان فعليّين حال القدرة عليهما لا حال وجودهما، فيما صحّتهما تتوقّف على وجودات خارجيّة هي مقدّمات الوجود والصّحّة.

لو كانت المقدّمة لا وجوب لها إلّا إذا تحقّق ذو المقدّمة لكان في المقام محذور تحصيل الحاصل، لكنّ الأمر ليس كذلك بل المدّعى أنّ تحقّق ذيها شرط لصحّة المقدّمة لا لوجوبها. وتطبيقًا: ليس وجوب الوضوء مشروطًا بتحقّق الصّلاة بل صحّة الوضوء مشروطة بتحقّق الصّلاة. وقد ذكر المحقّق الأصفهانيّ[2] هذه الإشكال على صاحب الكفاية وكذا غيره من الأعلام كالسّيّد الخوئيّ[3]، فراجع.

مطلب آخر:

أشكل الشّيخ الآخوند على الوجه الثّاني من وجوه الاستدلال الّتي نقلها عن صاحب الفصول لإثبات وجوب خصوص المقدّمة الموصلة، وكان قد تقدّم في بعض ما مضى، لكنّ هذا الإشكال تبلور في كلمات المحقّق النّائينيّ بحيث قدّمه ببيان جديد لردّ كلام صاحب الفصول.

وبيانه: ممّا استدلّ به صاحب الفصول على إثبات المقدّمة الموصلة هو أنّ ما وجب لأجل شيء آخر، فإنّه لا يقع على صفة المطلوبيّة إلّا إذا اقترن بذلك الشّيء الآخر. فالوضوء الّذي وجب لأجل التّوصّل إلى الصّلاة لا يقع مصداقًا للواجب إلّا إذا اقترن بالصّلاة أي اقترن بذي المقدّمة، وهذا عين مدّعى القائلين بوجوب المقدّمة الموصلة خاصّة دون غير الموصلة أي دون غير المقترنة بما وجبت لأجله.

وكان قد أشكل الشّيخ الآخوند على هذا الاستدلال بإشكالين: أوّلًا: الغرض هو التّمكّن لا الإيصال، فالغرض لا يلازم تحقّق ذي المقدّمة بل يتقوّم بتحقّق ذات المقدّمة لا أكثر. ثانيًا: لا يمكن أخذ هذه الغاية قيدًا وإلّا لكانت الغاية مطلوبة بطلب المقدّمة، أي لا يمكن أن يكون تحقّق ذي المقدّمة قيدًا لتحقّق المقدّمة الصّحيحة، لأنّ ذلك يسلتزم أن يكون ذو المقدّمة مطلوبًا بطلب غيريّ يترشّح عن مقدّمته، فيصير ذو المقدّمة مقدّمة للمقدّمة. ويلزم أن يكون وجوب ذي المقدّمة ناشئًا عن وجوب مقدّمته والحال أنّ العكس هو الصّحيح. وكان علّق شيخنا الأستاذ أنّه إنّما يصحّ هذا الإشكال لو كانت مطلوبيّة ذي المقدّمة ستنحصر في مطلوبيّة غيريّة وتزول مطلوبيّته النّفسيّة، أمّا والحال أنّها على حالها فلا ضير ولا محذور.

وانطلاقًا من هذا الإشكال الثّاني للشّيخ الآخوند أنشأ المحقّق النّائينيّ بيانًا على نحو أرجع المحذور إلى الدّور تارةً، وإلى التّسلسل أخرى؛ توضيحه:

أمّا استلزام تقييد المقدّمة بتحقّق ذي المقدّمة للدّور، فإنّ هذا التّقييد يستلزم أن يترشّح وجوب ومطلوبيّة على ذي المقدّمة من المقدّمة، مع أنّ المقدّمة لا وجوب ولا مطلوبيّة لها إلّا من ذيها، فتوقّفت مطلوبيّة ذي المقدّمة على نفسها، وعاد وجوبه الثّاني إلى وجوبه الأوّل وصارت العلّة معلولًا.

وأمّا استلزامه للتّسلسل، فإنّه إذا وجبت المقدّمة الموصلة أي المقيّدة بالإيصال، فقد وجب ذات المقيّد مع التّقيّد، أي وجبت ذات المقدّمة وكذا موصليّتها الّتي تتحقّق بالقيد وهو تحقّق ذي المقدّمة. فننقل الكلام إلى جزء المقدّمة الموصلة ونقصد ذاتها خاصّة، وهي بنفسها مقدّمة للمقدّمة الموصلة لكنّها لا تجب إلّا مقيّدة بالإيصال بناء على هذا المبنى، فعادت ذات المقدّمة مجزّأة إلى جزئين ذات وموصليّة، ثمّ ننقل الكلام إلى هذه الذّات مجدّدًا وهلّم جرًا لينتج وجوبات مقدّميّة لا نهائيّة، فيلزم التّسلسل.

وفي الحقيقة هذان تقريران لإشكال الشّيخ الآخوند يضاف إليهما تقرير شيخنا الأستاذ فتجتمع ثلاثة. ويضاف إلى هذه الإشكالات إشكال اجتماع المثلين الّذي أُشير إليه سابقًا بحيث لو كان ذو المقدّمة قيد المقدّمة لاستلزم ذلك اجتماع وجوبين على ذي المقدّمة وجوب نفسيّ ووجوب غيريّ. وقلنا في ردّه إنّه لا إشكال من هذه الجهة بل إنّ الوجوب يتأكّد، فيصيران واجبًا واحدًا أكيدًا لأنّهما ناشئان عن منشئين مختلفين من سنخين مختلفين، وهو ما كان أفاده السّيّد الخوئيّ، فراجع.

وكيف كان؛ سواء كان كلام المحقّق النّائينيّ تبلورًا لكلام صاحب الكفاية أم لا إلّا أنّه يجاب عليه بما كنّا أجبنا به على الشّيخ الآخوند من أنّه حصل خلط بين شرط الوجوب وشرط الواجب، وأنّ الدّور المصوّر نتيجة خبط وخلط متوهَّم. فقد صوّر وجوب ذي المقدّمة معلولًا لوجوب المقدّمة في حين أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذي المقدّمة فتوقّف وجوب ذي المقدّمة على نفسه. والصّحيح أنّ وجوب المقدّمة معلول وجوب ذي المقدّمة بلا كلام، ولكنّ وجوب ذي المقدّمة ليس معلولًا لوجوب المقدّمة بل وجود ذي المقدّمة شرط صحّة المقدّمة، فلِمَ الخلط بين شرط الصّحّة وشرط الوجوب؟ وليس طرفا الشّرط لا وجوب ذي المقدّمة ولا وجوب المقدّمة بل وجودهما، أي إنّ وجود المقدّمة الصّحيح مشروط بوجود ذي المقدّمة.

 

[1]  أنظر الكفاية،ج1،ص169-170:"مع أنّ في صحّة المنع عنه كذلك نظرًا، وجهه أنّه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذٍ مخالفة ولا عصيانًا؛ لعدم التّمكّن شرعًا منه؛ لاختصاص جواز مقدّمته بصورة الاتيان به. وبالجملة: يلزم أن يكون الإيجاب مختصًّا بصورة الاتيان لاختصاص جواز المقدّمة بها وهو محال، فإنّه يكون من طلب الحاصل المحال فتدبّر جيّدًا".

[2]  أنظر نهاية الدّراية،ج1،في الحاشية،ص400-401:"لا يخفى على ما أشرنا إليه في الحاشية المتقدّمة أنّ الجواز غير معلّق على تعقيب المقدّمة بذيها بل المقدّمة المتعقّبة بذيها جائزة فالمقدّمة الخاصّة مباحة فعلًا لا أنّ الإباحة مشروطة الحصول بحصول الخصوصيّة ليرد محذور طلب الحاصل ونحوه وبالجملة الجواز كالوجوب فكما أنّ المقدّمة الموصلة واجبة فعلًا من دون تعليق لأصل وجوبها على الإيصال كذلك جائزة فعلًا من دون تعليق الجواز على صفة الإيصال. ثمّ على فرض تعليق الجواز المقتضي لتعليق وجوب المقدّمة اللّازم لتعليق الوجوب النّفسيّ فهو إمّا أن يكون معلّقًا على اتيان الواجب النّفسيّ أو على إرادته وعلى أيّ حال إمّا أن يكون الشّرط بنحو الشّرط المتقدّم أو المتقارن أو المتأخّر...الخ".

المصدر نفسه،في المتن:"هذا إذا كان الجواز مشروطًا بنحو الشّرط المقارن أو المتقدّم، وأمّا إذا كان بنحو الشّرط المتأخّر فالباني على اتيان الواجب يقطع بالجواز من أوّل الأمر للعلم بتحقّق شرطه في ظرفه ولا ينتظر ترتّب الواجب ولا بدّ من جعله شرطًا كذلك إذا لا معنى للمنع والتّرخيص بعد الوجود، فالمنع أو التّرخيص بالنّسبة إلى الأمرين المترتّبين في الوجود إذا كان المنع أو التّرخيص في الأوّل مشروطًا بوجود الثّاني فلا محالة يكون مشروطًا بنحو الشّرط المتأخّر لكيلا يلزم المنع والتّرخيص بالنّسبة إلى الأمر الموجود قبلهما...ثمّ اعلم أنّ الصّحيح في الإشكال هو محذور طلب الحاصل".

[3]  المحاضرات،ج2،ص261:"وغير خفيّ أنّ ما أفاده مبنيّ على الخلط بين كون الإيصال قيدًا لجواز المقدّمة ووجوب ذيها وبين كونه قيدًا للواجب، فلو كان الإيصال من قبيل الأوّل لتمّ ما أفاده إلّا أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّه قيد للواجب، وعلى هذا فلا يكون جواز المقدّمة مشروطًا بالإيصال الخارجيّ ووجود الواجب النّفسيّ بل الجواز تعلّق بالمقدّمة الموصلة، والمفروض تمكّن المكلّف منها، ومع هذا بطبيعة الحال لا يجوز ترك الواجب فلو ترك استحقّ العقاب عليه لفرض قدرته على مقدّمته الموصلة كذلك. فالنّتيجة أنّ ما أفاده خاطئ جدًّا".

برچسب ها: المقدمة الموصلة

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است