ثمرة وجوب المقدمة (الدرس ۸۸)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تعرّض صاحب الكفاية بعد بيان ثمرة المقدّمة الموصلة لانقسام الواجب إلى أصليّ وتبعيّ قبيل دخوله في بيان ثمرة وجوب المقدّمة. وكان من الأنسب أن يقع هذا التّقسيم في تقسيمات الواجب في الأمر الثّالث بدلًا من زجّه هنا بين مبحثي الثّمرة. ولعلّه صار في هذا الموضع بسبب سهو النّسّاخ كما أشار السّيّد الخوئيّ أيضًا.[1]

وكيف كان، فهذا تقسيم للواجب من حيثيّة أخرى، بحيث يكون المقصود من الأصالة والتّبعيّة هنا ما يرتبط بمقام الثّبوت لا بمقام الإثبات. فالأصالة هي بمعنى أنّ المولى قد التفت التفاتًا أصليًّا إلى الواجب وتعلّقت إرادته به على نحو تفصيليّ. إذ إنّ الواجب قد يكون متعلّقًا للإرادة المولويّة التّفصيليّة كما أنّه قد لا يكون كذلك، كما لوغفل المولى عن إرادة أمر بحيث لو التفت إليه لأراده. وعلى هذا، فلا يُتصوّر وقوع الوجوب النّفسيّ متعلّقًا للإرادة غير التّفصيليّة أي كونه غير ملحوظ بالأصالة، وبالتّالي لا يُتصوّر انقسامه إلى أصليّ وتبعيّ. ويختصّ هذا التّقسيم بالواجب الغيريّ، فإنّنا نتصوّر في حقّه أن يلحظه المولى تارة تفصيلًا، وأن لا يلحظه كذلك تارة أخرى؛ كما لو استفدنا حكمه بالوجوب المقدّميّ من حاقّ العقل دون دخالة شرعيّة رأسًا.

لكنّ الشّيخ الآخوند نفسه أشار إلى عدم وجود ثمرة وفائدة تترتّب على هذا التّقسيم، فلا دخالة للأصالة ولا للتّبعيّة في الآثار العمليّة المنتظرة لدى المكلّف إلّا في مثل النّذر الّذي لا علاقة له بأثر أصوليّ، وإنّما يرجع إلى قصد النّاذر في مورده الخاصّ الجزئيّ. لكنّه مع ذلك، أصّل للشّكّ في مورده. فلو شككنا في كون واجب ما أصليًّا أو تبعيًّا، كان مقتضى الأصل هو كونه تبعيًّا. وهذا ينقدح ممّا تقدّم؛ من أنّ الواجب الأصليّ يرجع إلى وجود إرادة تفصيليّة مستقلّة متعلّقة بالواجب فيما يرجع الواجب التّبعيّ إلى عدم مثل تلك الإرادة، فإذا حصل شكّ جرى استصحاب عدم وجود إرادة مستقلّة تفصيليّة. نعم، لو فسّرنا الواجب التّبعيّ بما تعلّقت به إرادة بالتّبع بحيث لم يرجع إلى عدم (إن لازمه أمر عدميّ كما أشار صاحب الكفاية) لم يكن مجال لاستصحاب عدم الإرادة الّذي يعيّن نظر المولى إلى الواجب في المقام، فلا أصل معيّن لأحدهما حال الشّكّ. [2]

بعد ذلك، عاد المحقّق الخراسانيّ إلى سياق بحثه وتعرّض لثمرة الوجوب الشّرعيّ للمقدّمة ليكون الباحث على بصيرة من أمره عارفًا بالثّمرات الّتي تترتّب على البحث خصوصًا مع وجود من قال بعدم ترتّب ثمرة. ولو لم يكن لوجوب المقدّمة ثمرة إلّا البحث والتّعرّض بمناسبته لمباحث مهمّة جدًّا وذات فائدة كبيرة كالواجب المشروط والمعلّق والشّرط المتأخّر وما شابهها لكفى ثمرة. مع الإلفات إلى أنّ المباحث المشار إليها تترتّب عليها ثمرات سواء قلنا بالوجوب الشّرعيّ للمقدّمة أم لم نقل.

والكلام فعلًا هو في ثمرة بحث مقدّمة الواجب الّذي بدأ في الحقيقة من حيث شرعنا في بيان إطلاق واشتراط الوجوب والواجب والحديث عن شرط قصد التّوصّل وشرط التّوصّل. وبالتّالي، فإنّ ما رتّبناه من ثمرات على مبحث المقدّمة الموصلة يعدّ من ثمرات بحث وجوب المقدّمة.

ومن ذلك الحكم _تبعًا لبحث التّرتّب ارتكازًا كما أشرنا مرارًا_ بحرمة المقدّمة المحرّمة إن لم يترتّب عليها ذو المقدّمة وبوجوبها إن ترتّب، فيما حكم الشّيخ الآخوند بوجوبها مطلقًا أوصلت أم لم توصل. فهذه ثمرة تترتّب على القول بالمقدّمة الموصلة لكنّها في الحقيقة ترجع إلى بحث وجوب المقدّمة. فعلى القول بوجوب المقدّمة الشّرعيّ مقابل القول بعدم وجوبها، إنّ خصوص الموصلة منها هي الواجبة، وإذا فرض كون حكمها اللّولائيّ هو الحرمة فما لم توصل كانت حرامًا.

ومن ذلك الثّمرة الّتي ذكرها صاحب الفصول، وهي الحكم بصحّة العبادة إن اشتغل المكلّف بها بدلًا عن الأهمّ على تقدير القول بمسلك المقدّميّة في مبحث الضّدّ أي كون ترك الضّدّ مقدّمة لفعل ضدّه الخاصّ، والكلام كلّه على القول بوجوب المقدّمة الموصلة خاصّة. وسنتعرّض في المقام لثماني ثمرات تباعًا جاء أهمّها في كلام صاحب الكفاية.

وقد ألفت صاحب الكفاية إلى أنّ الثّمرة المنتظرة هنا هي خصوص الأصوليّة، ومناط قبول ورفض الثّمرات هو أصوليّتها من عدمها. فقد نرفض ثمرة تامّة من حيث فقهيّتها، لكنّها لا تمتّ إلى البحث الأصوليّ بصلة ولا تقع في طريق الاستنباط، فلا تكون ثمرة أصوليّة لبحث أصوليّ. نعم، هي ثمرة فقهيّة لهذا البحث وما أكثرها.

طرح الشّيخ الآخوند خمس ثمرات، منها ثنتان أصوليّتان: إحداهما في مطلع الكلام وثانيتهما آخره منقولة عن الوحيد البهبهانيّ، ومنها ثلاث ثمرات فقهيّة.

أمّا الثّمرة الأولى[3]، فهي أصل تحديد كون المقدّمة واجبة أو لا، بحيث نعلم حكمها الشّرعيّ. بعبارة أخرى: إنّ تعيين كبرى قياس تترتّب عليه نتيجة فقهيّة هو بنفسه ثمرة أصوليّة مهمّة. لكن أشكل السّيّد الخوئيّ[4] على هذه الثّمرة بأنّها وإن كانت أصوليّة وتامّة إلّا أنّها بلا أثر عمليّ فقهيّ. فالمقدّمة وجبت شرعًا أم لم تجب هي واجبة عقلًا، والعقل داعٍ إلى تحصيلها على كلّ حال.

لكن يمكن تصوير أثر عمليّ فقهيّ يرتبط بتأتّي قصد الوجه عند القول بالوجوب الشّرعيّ للمقدّمة، كما لو أتى المكلّف بالفعل المقدّميّ قاصدًا وجوبه وبداعيه. وهذا يصحّ بلا محذور، ولا ربط له بعدم مقرّبيّة الوجوب الغيريّ، إذ فرق بين قصد القربة وقصد الوجه، فتنبّه.

وأمّا الثّمرة الثّانية فهي ما يرتبط ببرّ النّذر (في مقابل حنث النّذر)، فمن نذر الاتيان بواجب وأتى بالمقدّمة، يكون قد برّ نذره بناءً على القول بوجوب المقدّمة. لكنّه لا يتحقّق باتيانها الامتثال إن قلنا بعدم الوجوب.

وأمّا الثّمرة الثّالثة فترتبط بالإصرار على الذّنب إن قلنا بكونه موجبًا للفسق. فإنّ المكلّف إذا ترك واجبًا نفسيًّا ذا مقدّمات متعدّدة كثيرة_بناءً على القول بوجوب المقدّمة وجوبًا شرعيًّا_، فهو عند تركه الواجب النّفسيّ قد ترك مقدّماته الواجبة وجوبًا شرعيًّا، ووقعت منه مخالفات لوجوبات شرعيّة متعدّدة بتعدّد المقدّمات وذيها. فيتحقّق عنوان الإصرار على الصّغيرة _إن لم يكن ترك الواجب النّفسيّ من الكبائر وإلّا لكان كفى ووفى_، وتحقّق هذا العنوان يستلزم الحكم بفسق الفاعل وزوال العدالة. وهذا كلّه منتفٍ لو كانت المقدّمة غير واجبة شرعًا، إذ لم يقع منه إلّا مخالفة واحدة وهي المرتبطة بالواجب النّفسيّ فلا تعدّد ولا تكثّر للمخالفة.

وأمّا الثّمرة الرّابعة فهي ما يرتبط بحرمة أخذ الأجرة على الواجبات. فإن قلنا بالحرمة وكانت مقدّمة الواجب واجبة بوجوب شرعيّ، حرم أخذ الأجرة عليها وإلّا فلا.

والإشكال الأوّل عليها من ثانيتها إلى رابعتها جملةً واحدة أنّها ليست أصوليّة ولا تقع في طريق استنباط الحكم الشّرعيّ[5]، بل هي ثمرات فقهيّة. وهذا لا يقلّل من أهمّيتها، فهي ممّا لا بدّ أن يُبحث لكن الكلام في محلّ بحثها. إذ ما لم تحز مناط الأصوليّة فلا تدخل في مسائل علمه ولا تترتّب ثمرات أصوليّة عليها، هذا.

ولم يكتف المحقّق الآخوند بالإشكال العامّ الواحد على الكلّ، بل أخذ في علاجها كلًّا على حدة مبيّنًا صحّتها من سقمها في نفسها:

أمّا الثّمرة الأولى المرتبطة ببرّ النّذر، فالنّذر تابع لقصد النّاذر[6] بحيث قد ينذر النّاذر الاتيان بفعل سواء كان واجبًا أم لا أي لا بشرط عن وجوبه وعدمه. نعم، قد ينذر الاتيان بواجب شرعيّ من حيث إنّه واجب وبعنوانه، وهنا تظهر الثّمرة لأنّها إن كانت المقدّمة واجبة شرعًا برّ نذره وإلّا فلم يحصل البرّ به. ولو دقّقنا فإنّ الثّمرة لم تدر مدار وجوب وعدم وجوب المقدّمة، بل دارت مدار قصد النّاذر، وكان قولنا بوجوب المقدّمة مثلًا محقّقًا لصغرى واجب الامتثال عنده لا أكثر. فهذه الثّمرة صحيحة لكنّها ليست مهمّة، صحّتها ترجع لما لو قصد النّاذر الاتيان بواجب شرعيّ بعنوانه الشّرعيّ هذا، وعدم أهمّيتها ترجع إلى أنّها مرتبطة بقصد النّاذر الّذي لا يتحدّد بالمفهوم اللّغويّ بل قد يكون اللّفظ مشيرًا ليس إلّا إلى ما تعلّق به قصد نذره.

أمّا الثّمرة الثّانية المرتبطة بالفسق وما فيها من إشكالات متعدّدة، فيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

 

[1]  أنظر المحاضرات،ج2،ص275:"وكان من المناسب أن يدرج هذا التّقسيم في الأمر الثّالث، لأنّه من شؤون تقسيم الواجب، ولعلّ هذا كان غفلة منه قده في مقام التأليف أوكان الاشتباه من النّاسخ. وكيف كان فالتّعرّض لهذا التّقسيم هنا إنّما هو تبعًا للمحقّق صاحب الكفاية وإلّا فهو عديم الفائدة والأثر".

[2]  أنظر الكفاية،ج1،ص171-173:"ومنها تقسيمه إلى الأصليّ والتّبعيّ. والظّاهر أن يكون هذا التّقسيم بلحاظ الأصالة والتّبعيّة في الواقع ومقام الثّبوت، حيث يكون الشّيء تارة متعلّقًا للإرادة والطّلب مستقلًّا للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه، فيطلبه _كان طلبه نفسيًّا أو غيريًّا_ وأخرى متعلّقًا للإرادة تبعًا لإرادة غيره؛ لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته. لا بلحاظ الأصالة والتّبعيّة في مقام الدّلالة والإثبات[...] وعلى ذلك فلا شبهة في انقسام الواجب الغيريّ إليهما واتّصافه بالأصالة والتّبعيّة كلتيهما، حيث يكون متعلّقًا للإرادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدّمة وأخرى لا يكون متعلّقًا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك، فإنّه يكون لا محالة مرادًا تبعًا لإرادة ذي المقدّمة على الملازمة. كما لا شبهة في اتّصاف النّفسيّ أيضًا بالأصالة ولكنّه لا يتّصف بالتّبعيّة [...] ثمّ إنّه إذا كان الواجب التّبعيّ ما لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، فإذا شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به يثبت أنّه تبعيّ ويترتّب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعيّ كسائر الموضوعات المتقوّمة بأمور عدميّة. نعم لو كان التّبعيّ أمرًا وجوديًّا خاصًّا غير متقوّم بعدميّ وإن كان يلزمه لما كان يثبت بها إلّا على القول بالأصل المثبت كما هو واضح، فافهم".

[3]  المصدر نفسه،ص174:"كما لو قيل بالملازمة في المسألة فإنّه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمة لواجب يستنتج أنّه واجب".

[4]  أنظر المحاضرات،ج2،ص269:"وفيه أنّ هذه النّتيجة وإن ترتّبت على هذه المسألة بناء على ثبوت الملازمة بينهما إلّا أنّها لا تصلح أن تكون ثمرة فقهيّة للمسألة الأصوليّة، وذلك لعدم ترتّب أثر عمليّ عليها أصلًا بعد حكم العقل بلابدّيّة الاتيان بالمقدّمة. ومن هنا سنقول إنّ حكم الشّارع بوجوب المقدّمة لغو محض".

[5]  أنظر الكفاية،ج1،ص173-174:"تذنيب في بيان الثّمرة وهي في المسألة الأصوليّة كما عرفت سابقًا ليست إلّا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد واستنباط حكم فرعيّ [...] ومنه قد انقدح أنّه ليس منها مثل برء النّذر باتيان مقدّمة واجب عند نذر الواجب وحصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته إذا كانت له مقدّمات كثيرة لصدق الإصرار على الحرام بذلك، وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدّمة".

[6]  المصدر نفسه:"مع أنّ البرء وعدمه إنّما يتبعان قصد النّاذر فلا برء باتيان المقدّمة لو قصد الوجوب النّفسيّ كما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قيل بالملازمة. وربّما يحصل البرء به لو قصد ما يعمّ المقدّمة ولو قيل بعدمها كما لا يخفى".

برچسب ها: الواجب الاصلي, الواجب التبعي, ثمرة وجوب المقدمة

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است