الواجب الكفايي (۹ جمادي الثانیة ۱۴۴۴)

الكلام في التّصوير الثّالث من تصويرات الواجب الكفائيّ الرّاجع إلى كون الوجوب متعلّقًا بأحد المكلّفين، فكما أنّه في الوجوب التّخييريّ يتعلّق بأحد الفعلين فهنا يتعلّق بأحد المكلّفين، وينطبق هذا العنوان على جميع المكلّفين بحيث أيّ من المكلّفين أتى بالمأمور به كان ممتثلًا وسقط التّكليف عن الجميع.

ومن المفيد قبل تتميم الكلام في نظريّة السّيّد الخوئيّ في المسألة أن نذكر تبويب السّيّد الصّدر للأقوال في الواجب الكفائيّ:

قسّم السّيّد الصّدر الأقوال إلى أربع نظريّات:

النّظريّة الأولى:[1] وهي الّتي تفترض وجود طرف للوجوب هو كلّ مكلّف من المكلّفين على نحو الاستغراق وهذه النّظريّة تحتها اتّجاهات أربعة:

الاتّجاه الأوّل:[2] هو ما ذهب إليه السّيّد الصّدر من تعلّق للوجوب بالجامع بين فعل المكلّف وفعل غيره.

الاتّجاه الثّاني:[3] تفسيره على أساس الوجوب المشروط.

الاتّجاه الثّالث:[4] نظريّة المحقّق الأصفهانيّ الّتي على وزان ما ذهب إليه في الواجب التّخييريّ، فالكلّ مكلّف لكن هناك مصلحة للتّرخيص على أساسها يرخّص في فعل الآخرين إن أتى بالمأمور به أحدهم.

الاتّجاه الرّابع:[5] هوأنّ مرجع الوجوب الكفائيّ إلى تحريم ترك الفعل المنضمّ إلى ترك الآخرين لا مطلق التّرك.

النّظريّة الثّانية:[6] وهي تفسير الوجوب الكفائيّ بكون الوجوب متعلّقًا بالمكلّفين على نحو العموم المجموعيّ. وهي النّظرية المقابلة لكون الجميع مكلّفين بأن يكون المجموع مكلّفين كما لو كان المجموع مكلّفًا واحدًا وأفراده كأعضاء المكلّف الواحد. وينظّر لهذا بالأشخاص الحقوقيّة الاعتباريّة كما في البنوك حيث يفرض رأس ويد ورجل، وكأنّ أعضاء المجموع هم أعضاء شخص واحد.

النّظريّة الثّالثة:[7] هي نظريّة السّيّد الخوئيّ القائل بحيث يتعلّق الوجوب بالطّبيعة على نحو العموم البدليّ لا الاستغراقيّ ولا المجموعيّ.

النّظريّة الرّابعة:[8] والّتي فسّرت الوجوب الكفائيّ بإيجاب الفعل من دون إضافة إلى مكلّف أصلًا. وأجاب عن ذلك بأنّ قوام التّكليف بالمكلّف، نعم ليس قوام الحبّ والبغض بالمكلّف لكن لا تكليف من دون مكلّف يُلحظ.

نعود الى كلام السّيّد الخوئيّ: حيث يقول بأنّ متعلّق الوجوب هو أحد المكلّفين المنطبق على الجميع، بحيث إذا جاء به أحدهم حصل الامتثال وسقط عن البقيّة، لأنّ المتعلّق صرف الوجود.[9]

وفي الرّدّ يقول السّيّد الصّدر بعدم صحّة هذا الرّأي الّذي يُحمل فيه متعلّق الوجوب الكفائيّ على العموم البدليّ؛ وذلك لأنّه يستلزم إمّا تكليف أوّل فاعل[10] وعنوان "أوّل فاعل" لا ينطبق إلا على واحد منهم لا على الجميع وإمّا تكليف أحدهم[11] وهذا ينطبق على الكلّ.

والإشكال على تكليف أوّل فاعل هو كالإشكال على القول بأنّ المأمور به في الواجب التّخييريّ هو الثّابت في علم الله المنافي لخاصيّة الواجب الكفائيّ.

وإما المقصود أنّ الواحد الانتزاعيّ هو المكلّف فهذا لا يعقل هنا، لأنّه تكليف لشخص غير قابل للامتثال وهو لغو، فإن قيل للتّفصّي عن الإشكال:

إنّ المتعلّق هو أحدهم من حيث إنّه منطبق على الخارج ويكون الجميع مخاطبًا بخطاب واحد وتكليف واحد، فهذا مخالف لخاصّيّة الواجب الكفائيّ من أنّه ليس واجبًا على الكلّ؛

وإن قيل أحدهم المعيّن فهذا ترجيح بلا مرجّح؛ وإن قيل أحدهم المردّد فهذا لا واقع له.

ففرق بين الواجب التّخييري حيث يكلّف المكلّف المعيّن بإحدى الخصال وبين ما نحن فيه حيث يكون المكلّف غير معيّن وهذا لا معنى له، فإن نظرنا إلى تعيّنه الذّهنيّ كان غير قابل للبعث والتّحريك، وإن كان من حيث انطباقه على الكلّ، فهذا يستلزم تعدّد الخطاب وهذا على خلاف وحدة الخطاب في الواجب الكفائيّ.

وأجاب شيخنا الأستاذ بأنّ هذا الكلام غير تامّ: والحقّ مع السّيّد الخوئيّ من أنّ التّكليف يتعلق بالعنوان الانتزاعيّ من حيث انطباقه على الخارج ولا يلزم من ذلك تحصيل الحاصل بل من حيث انطباقه على الموضوعات الخارجيّة زيد وعمرو وبكر و... التّكليف الواحد يعني أنّ المكلّف به واحد لا أنّ المكلّف واحد. فما يجب على الجميع هو صرف الوجود وهو متعلّق بأحد المكلّفين وهذا يعني أنّ الجميع مكلّف لكن من حيث إنّه أحدهم بحيث إذا جاء بالمأمور به أحدهم سقط عن البقيّة، فلا فرق من هذه الجهة بين الواجب التّخييريّ والواجب الكفائيّ إلّا أنّ المكلّف به في الواجب التّخييريّ هو أحد الأفعال فيما المكلّف في الواجب الكفائيّ هو أحد المكلّفين بفعل معيّن، ويسقط التّكليف بالامتثال من قبل أحدهم.

التّصوير الرّابع: وهو من إبداعات السّيّد الصّدر[12] ولعلّ السّيّد البروجرديّ[13] أراد هذا ومفاده:

أنّه في الواجب الكفائي لا فرق من جهة المكلّف بينه وبين الواجب العينيّ بل الفرق من جهة المتعلّق، فالمتعلّق في العينيّ هو فعل المكلّف أي المكلّف به هو الفعل الصّادر من المكلّف والفعل المستند إليه سواء كان مع التفات أو من دونه وسواء كان مقدورًا أو لا وسواء كان اتّفاقيًّا أو اختياريًّا. أمّا في الكفائيّ فمتعلّق الحكم هو الجامع بين فعل الشّخص وفعل الغير أي في صلاة الميّت يسقط تكليف المكلّف بامتثال الآخر كما يسقط بامتثاله هو. فهنا توجّه التّكليف إلى كلّ مكلّف بنفسه ولكن المتعلّق هنا غير المتعلّق في العينيّ، فهناك المتعلّق فعله هو، وهنا المتعلّق هو فعله وفعل غيره على نحو الجامع بينهما.[14]

ويصح تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور بلا إشكال كما كان تقدّم مرارًا ويكون فعل الغير محقّقًا لامتثال التّكليف ويسقط التكليف عن غيره.

قول المولى: فليقم الصلاة، أي كلّ منكم فليقم الصلاة،

أمّا في الكفائيّ فالتّكليف على نحو هو أنّ كلّ واحد منكم مكلّف بالصّلاة الجامعة بين صلاته وصلاة غيره.

وحينها يكون الفرق بين هذا الكلام وكلام السّيّد الخوئيّ أنّ هنا الجميع مكلّف أمّا هناك فالجامع مكلّف.[15]

 

 

[1] البحوث،ج2،ص424:"فالنّظريّة الأولى الّتي تفترض وجود طرف للوجوب وهو كلّ مكلّف من المكلّفين بنحو الاستغراق".

[2]  المصدر نفسه:"ما حقّقناه نحن في تفسير هذا الوجوب وحاصله: أنّ هناك وجوبات عديدة بعدد المكلّفين غير أنّ الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كلّ واحد منهم وإنّما هو جامع الفعل الصّادر منه أو من غيره فالواجب هو حصول الفعل خارجًا".

[3] المصدر نفسه:"أن يقال بوجود وجوبات عينيّة بعدد المكلّفين ولكنّها مشروطة بعدم اتيان الآخر به".

[4] المصدر نفسه،ص425:"الاستعانة بنظريّة المحقّق الأصفهانيّ المتقدّمة في الواجب التّخييريّ وتطبيقها على المقام وذلك بافتراض أنّ الفعل واجب على كلّ المكلّفين إلّا أنّ هناك ترخيصًا في التّرك لكلّ منهم مشروطًا بفعل الآخر حفاظًا على مصلحة التّسهيل".

[5] المصدر نفسه،ص426:"أن يكون الوجوب الكفائيّ مرجعه إلى تحريم ترك الفعل المنضمّ إلى ترك الآخرين لا مطلق التّرك وبهذا التّحويل نستطيع التّحفّظ على كلّ خصائص الوجوب الكفائيّ".

[6] المصدر نفسه،ص427:"وأمّا النّظريّة الثّانية الّتي تفسّر الوجوب الكفائيّ بالوجوب المتعلّق بالمكلّفين بنحو العموم المجموعيّ".

[7] المصدر نفسه،ص428:"وأمّا النّظريّة الثّالثة الّتي تفسّر الوجوب الكفائيّ بالوجوب المتعلّق بالمكلّفين بنحو العموم البدليّ أي بأحدهم نظير الأمر المتعلّق بإكرام عالم بنحو العموم البدليّ".

[8] المصدر نفسه:"وأمّا النّظريّة الرّابعة والّتي فسّرت الوجوب الكفائيّ بإيجاب الفعل دون إضافة إلى مكلّف أصلّا فهذا إنّما يعقل بحسب عالم الحبّ والبغض أي مبادئ الحكم".

[9] المحاضرات،ج3،ص241:"فإذن يتعيّن وجوبه على الواحد لا بعينه المعبّر عنه بصرف الوجود ويترتّب على ذلك أنّه لو أتى به بعض فقد حصل الغرض لا محالة وسقط الأمر لفرض أنّ صرف الوجوب يتحقّق بأوّل الوجود ولو أتى به جميعهم، كما إذا صلّوا على الميّت مثلًا دفعة واحدة كان الجميع مستحقًّا للثّواب لفرض أنّ صرف الوجود في هذا الفرض يتحقّق بوجود الجميع دون خصوص وجود هذا أو ذاك، وأمّا لو تركه الجميع لكان كلّ منهم مستحقًّا للعقاب، فإنّ صرف الوجود يصدق على وجود كلّ منهم من ناحية والمفروض أنّ كلًّا منهم قادر على اتيانه من ناحية أخرى.

فالنّتيجة هي أنّ الواجب الكفائيّ ثابت في اعتبار الشّارع على ذمّة واحد من المكلّفين لا بعينه الصّادق على هذا وذاك نظير ما ذكرنا في بحث الواجب التّخييريّ من أنّ الواجب أحدهما لا بعينه المنطبق على هذا الفرد أو ذاك لا خصوص أحدهما المعيّن، فلا فرق بين الواجب التّخييريّ والواجب الكفائيّ إلّا من ناحية أنّ الواحد لا بعينه في الواجب التّخييريّ متعلّق الحكم وفي الواجب الكفائيّ موضوعه".

[10] البحوث،ج2،ص428:"فالعموم البدليّ إنّما يكون بافتراض أحد قيدين في الطّبيعة المتعلّقة للأمر إمّا قيد الأوّليّة بأن يكون الواجب مثلًا هو العالم الأوّل أو قيد الوحدة فإن قيل بالأوّل في المقام وأنّ التّكليف متعلّق بأوّل المكلّفين كان هذا واضح البطلان إذ لا ينسجم مع خصائص الوجوب الكفائيّ الّذي لا يفرّق بين المكلّف الأوّل وغيره".

[11] المصدر نفسه:"وإن قيل بالثّاني أي إنّ متعلّق الوجوب هو المكلّف بقيد الوحدة أي أحدهم كما في الواجب التّخييريّ أيضًا بناءً على أحد التّفاسير فيه فهذا أيضًا لا يتمّ في المقام وإن كان تامًّا في طرف متعلّق الوجوب، ووجه الفرق أنّ المطلوب في طرف متعلّق الوجوب إنّما هو إيجاده بجعل التّكليف به داعيًا نحوه وقدح الدّاعي نحو أحد فعلين أو أفعال معقول، وأمّا في جانب المكلّف فالغرض منه هو تشغيل ذمّته بالتّكليف وجعله على عهدته ومسؤوليّته، وحينئذٍ إن أريد بتكليف أحد المكلّفين تشغيل ذمّة هذا العنوان الاعتباريّ فهو لغو إذ ليس له ذمّة كي ينشغل به، وإن أريد تشغيل ذمّة كلّ فرد من المكلّفين باعتباره مصداقًا لهذا العنوان فهذا خلف وحدة التّكليف، وإن أريد تشغيل ذمّة أحدهم تعيينًا فهذا ترجيح بلا مرجّح، وإن أريد أحدهم المردّد فلا وجود للفرد المردّد كي يعقل تشغيل ذمّته.

نعم يمكن أن أن يدّعى أنّ التّكليف تشغيل تشريعيّ للذّمّة المضافة إلى عنوان أحدهم فيكون حكمًا واحدًا غاية الأمر أنّه يستتبع عقلًا لزوم تحرّك كلّ من المكلّفين نحو تحقيق الواجب بنحو ما في الجملة بحيث لا يجوز لهم التّرك المطلق. إلّا أنّ هذا معناه أنّنا احتجنا الرّجوع إلى أحد التّفسيرات الأخرى للواجب الكفائيّ لتشخيص من تشتغل عهدته بالتّكليف وكيفيّته، فاتّضح أنّ هذه النّظريّة أيضًا لا تتمّ لتفسير الوجوب الكفائيّ".

وهنا أعلّق على كلام السّيّد الصّدر بأنّنا لا نحتاج إلى الضّميمة المذكورة بل يكفي ما هو مأخوذ في معنى العموم البدليّ لحلّ الإشكال؛ إذ قد أخذ فيه صرف الوجود أي إنّ المطلوب هو إيجاد طبيعة المأمور به بفرد ما هو الأوّل وقوعًا سواء كان الفاعل واحدًا أو متعدّدًا، ليلزم من ذلك أنّه واجب يجوز تركه عند اتيان البعض به، وهذا يعني أنّ التّفسيرين بالعموم البدليّ وبعدم حرمة التّرك المطلق يرجعان إلى تفسير واحد وروح واحدة بصياغتين ثنتين.[المقرّر].

[12] البحوث،ج2،ص424.

[13] لمحات الأصول،ص191_192:"والتّحقيق أن يقال إنّ التّكليف له نحو إضافة إلى المكلِّف ونحو إضافة إلى المكلَّف ونحو إضافة إلى المكلّف به، وعند التّأمّل يظهر أنّ ما به الافتراق بين الواجبات العينيّة والكفائيّة ليس في الإضافتين الأوّلتين...وإنّما الافتراق بينهما في الإضافة الثّالثة؛ فإنّ المكلّف به في الواجب الكفائيّ هو أصل الطّبيعة بلا تقيّدها بشيء فكلّ واحد من المكلّفين مأمور باتيان أصل الطّبيعة غير المقيّدة. وأمّا في الواجب العينيّ فكلّ واحد منهم مأمور باتيان الطّبيعة المقيّدة بكون تحقّقها بمباشرته خاصّة. فغر ض المولى في الواجب الكفائيّ إنّما تعلّق بحصول الطّبيعة من كلّ واحد منهم ولازمه أن يحصل الغرض باتيان واحد منهم لأنّ الطّبيعة غير المقيّدة لا تكرار فيها".

[14] البحوث،ج2،ص424:"أنّ هناك وجوبات عديدة بعدد المكلّفين غير أنّ الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كلّ واحد منهم وإنّما هو جامع الفعل الصّادر منه أو من غيره فالواجب هو حصول الفعل خارجًا، وبعبارة أخرى: الوجوب الكفائيّ معناه جعل الفعل وصدوره بالنّتيجة خارجًا في عهدة كلّ مكلّف وقد تقدّم في أبحاث التّعبّديّ والتّوصّليّ أنّ التّكليف بالجامع بين فعل المكلّف نفسه وفعل الغير معقول ولو فرض أنّ فعل الغير ليس تحت اختياره حتّى بالتّسبيب لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور".

[15]  أنّ اتيان الآخر بالفعل يكون امتثالًا للتّكليف من قبل من لم يمتثل أي أمتثل أنا المكلّف إن فعل الآخر وهذا لازم فاسد، إلّا أن يقوم دليل على حصول هذا الامتثال لكنّ مفاد الدّليل هو سقوط الوجوب لا حصول الامتثال. [المقرّر].

 

برچسب ها: الواجب الكفايي

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است