وجه القربية في الطهارات (الدرس ۶۹)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الدرس ۶۹

أحد الأقوال الّتي نقلها المحقّق النّائينيّ في مسألة عباديّة المقدّمات وتصحيح قصد القربة فيها وترتّب الثّواب على موافقتها هو القول باستحقاق العقاب على المخالفة وعدم استحقاق الثّواب على الموافقة وهو عكس القول الّذي قوّاها شيخنا الأستاذ من استحقاق الثّواب وعدم استحقاق العقاب.[1]

وهذا قول بما لا يقال[2] وهو غريب جدًّا لاستلزامه تعدّد العقاب. القول بعدم استحقاق الثّواب على الفعل وكذا عدم استحقاق العقاب على التّرك وإن كان مخالفًا للصّحيح ولكن لا غرابة ولا استيحاش فيه كما في هذا القول القاضي بأن يثبت على المكلّف عقاب على ترك المقدّمة وكذا عقاب على ترك ذيها ويتعدّد عليه العقاب، هذا قول غير قابل للقبول رأسًا ومن البعيد أن يذهب إليه عالم حتّى نطرحه ونردّ عليه. ولعلّ مقصود هذا القائل _الّذي قصرت عبارة مقرّر بحث الشّيخ النّائينيّ عن إفادته_ هو ما أشار إليه الشّيخ الآخوند من استحقاق العقوبة عند ترك المقدّمة أي هو بصدد بيان ظرف استحقاق العقاب لا موضوعه، فبمجرّد تعجيز النّفس عن الامتثال يستحقّ العقاب ولو لم يتحقّق بعد ترك ذي المقدّمة الفعليّ لبقاء شيء من وقته لكن وقت لا يمكن فيه الامتثال.

وكيف كان، فالقول باستحقاق الثّواب على موافقة الأمر الغيريّ الّذي لا تبعد صحّته إنّما يكون في مثل المقدّمات العقليّة والمعدّة التّكوينيّة كما كان ورد في الأمثلة الّتي ذٌكرت كنصب السّلّم وأمثال ذلك، ومن الواضح عدم شموله للمقدّمات الشّرعيّة كالطّهارة للصّلاة وكشرط استقبال القبلة وعدم ترتّب ثواب متعدّد، لأنّ الواجب في هذه الموارد هي الصّلاة عن طهور والتّقيّد بالطهارة جزء من الصّلاة ولا يكون لكلّ جزء من أجزاء المركّب ثواب مستقلّ عن ثواب امتثال المركّب فلا ثواب للوضوء المقدّميّ يستقلّ به عن ثواب امتثال الصّلاة عن وضوء، مع الإغماض عن كون الوضوء مستحبًّا في نفسه. فالمطلوب هو الواجب الواجد للشّروط الشّرعيّة بحيث لو لم يؤت بها لم تتمّ ماهيّة الواجب المطلوب ولا يكون ثواب على ذي المقدّمة رأسًا. فثواب الاتيان بالشّروط هو عينه ثواب الاتيان بمشروطها لكونها أجزاء ماهيّته.

هذا ومثلها المقدّمات التّوليديّة كما ذكر المحقّق النّائينيّ[3]. إذا كان المطلوب هو طهي الطّعام مثلًا فهو يتحقّق بإشعال النّار تحت القدر وهذا الإشعال سبب توليديّ للطّهي، فلا يقال هنا إنّ له ثوابًا على الطّهي وثوابًا على الإشعال، لا بل هو ثواب واحد فارد على امتثال المطلوب لأنّ حقيقة الطّهي تتولّد عن إشعال النّار تحت القدر وأمثال ذلك من أسباب بها يتحقّق المسبّب بحيث لولاها لما كان.

وبالتّالي، ما كان محلًّا للكلام عن إمكان التّقرّب بالأوامر الغيريّة وترتّب الثّواب على امتثالها إنّما هو في المقدّمات العقليّة والمعدّات التّكوينيّة الّتي لا يكون ترتّب ذي المقدّمة عليها قهريًّا. في مثل هذه الموارد يجيء كلّ ما كان تقدّم من بيانات، وفيها نقول باستحقاق الثّواب على الاتيان وعدم استحقاق العقاب على التّرك. مثلًا الوضوء من حيث هو مقدّمة شرعيّة للصّلاة لا ثواب مستقلّ عليه، لكن حفر البئر من أجل استخراج الماء لأجل الوضوء هو من المقدّمات العقليّة الّتي قلنا فيها بثبوت ثواب مستقلّ بحيث يمكن حصول المطلوب من دون ذاك الأمر المعدّ.

وعليه ففي التّوليديّات لا يثبت لها ثواب مستقلّ لأنّ مطلوبية المسبّب تعني مطلوبيّة توليده عن الأسباب ففي الحقيقة التّوليد مطلوب نفسيّ. وكذا في المقدّمات الشّرعيّة من قبيل شروط الصّحّة كالوضوء للصّلاة. ويختلف عنهما الكلام في المقدّمات العقليّة مثل نصب السّلّم للكون على السّطح فليس نصبه شرطًا لصحّة الكون على السّطح كما هو واضح.

على هذا فما قلناه من استحقاق الثّواب على موافقة الأمر الغيريّ يتأتى في غير المقدّمات الشّرعيّة كالوضوء وفي غير المقدّمات التّوليديّة كإشعال النّار للطّهي، لأنّه لا معنى للثّواب المستقلّ في موردها لأنّ هذا الشّرط يقع جزءًا من المطلوب وكما أنّه لا استقلال في الثّواب لأجزاء المركّب فلا استقلال في الثّواب لشروط صحّته وتوليده.

وهنا ملاحظة: الكلام في الاستحقاق للثّواب هو من حيث مقدّميّة المقدّمة الشّرعيّة فنقول لا ثواب مستقلّ في موردها لكن من حيث إنّها مأمور بها بأمر نفسيّ لا إشكال في ثبوت ثواب مستقلّ لها كما سيأتي.
ثمّ انتهى الشّيخ الآخوند إلى توجيه عباديّة الطّهارات الثّلاث وهو القائل بعدم استحقاق الثّواب في المقدّمات وبعدم إمكان التقرّب بها ومتى انتفت المقرّبيّة انتفت العباديّة. فيرد هنا إشكالان في الطّهارات الثّلاث أحدهما يرتبط بترتّب الثّواب والآخر بقصد التّقرّب وهذا الثّاني لا بدّ أن يعالج من حيثيّتين إحداهما إمكان قصد القربة والأخرى شرطيّة قصد القربة. والإشكالان متحقّقان في موردها مع كونها مأمورًا بها بأوامر غيريّة.

ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ من إمكان التّقرّب في الأمر الغيريّ واستحقاق الثّواب على الموافقة يخرجه عن دائرة الإشكال من أوّل الأمر، لكن يتوجّه الإشكال على من قال بعدم ذلك كالشّيخ الآخوند لذا احتاج إلى بيان يتفصّى به عن الإشكال حيث وردت روايات في الطّهارات الثّلاث تشترط قصد القربة فيها من جهة وترتّب الثّواب عليها من جهة أخرى.[4]

وفي الحقيقة، إنّ مركز الإشكال الفقهيّ والأصوليّ هو في كيفيّة قصد القربة بهذه الطّهارات الثّلاث وتوجيه اشتراط الامتثال بقصد القربة، أمّا مسألة ترتّب الثّواب فهي مسألة كلاميّة وإنّما تُذكر لمدخليّتها في إمكان قصد القربة وكيفيّة تصحيح عباديّة الطّهارات الثّلاث.

وقد تفصّى الشّيخ الآخوند بجواب واحد عن هذا الإشكال بشقّيه، شقّ شرطيّة قصد القربة وشقّ ترتّب الثّواب، ومفاده:

إنّ عباديّة الطّهارات الثّلاث ثابتة بواسطة أوامر نفسيّة لا بأوامرها الغيريّة.[5] فالوضوء مثلًا لم تثبت عباديّته بواسطة دليل مقدّميّته للصّلاة مثل "لا صلاة إلّا بطهور" بل بواسطة الأمر به بأمر نفسيّ وبوصفه مستحبًّا نفسيًّا، فهو عبادة سواء أُتي بعده بالصّلاة أم لا. إذ الكون على الطّهارة مستحبّ نفسيّ. منشأ القرب هو الاستحباب النّفسيّ لا وجوبها الغيريّ. لقد عمد المولى إلى مستحبّ نفسيّ وعبادة في حدّ نفسها كالوضوء والصّلاة وجعلها شرطًا ومقدّمة، ولا محذور في ذلك إذ ليس عروض الأمر الغيريّ على الفعل موجبًا لانتفاء أمره النّفسيّ. ومثال ذلك: شرطيّة الصّوم للاعتكاف. فالصّوم واجب نفسيّ وعبادة في حدّ نفسه وقد جعل المولى هذه العبادة النّفسيّة شرطًا لفعل آخر وما أكثر الموارد من هذا القبيل.

وهذا الكلام لا محذور فيه بحدّ نفسه إن بنينا على ما بنى عليه الشّيخ الآخوند، ولكن تفطّن المحقّق النّائينيّ لنكتة غفل عنها صاحب الكفاية وهي أنّ لازم ذلك كون التّيمّم جزءًا من المستحبّات النّفسيّة[6]، وهل التّيمّم أحد المستحبّات النّفسيّة في الشّريعة؟ أي من لا يريد الصّلاة ولا عملًا مشروطًا بالطّهارة كالطّواف وكان متحقّقًا موضوع التّيمّم فيه كما لو كان مريضًا أو فاقدًا للماء، هل يستحبّ له التّيمّم؟ هذا أمر غير معهود فقهيًّا ولا تشمله إطلاقات أدلّة مطلوبيّة الطّهارة[7] لعدم العلم بمشروعيّة هذا الفعل. فإنّ ثمرة القول بعباديّتها بأمرها النّفسيّ هو جواز الاتيان بها عبادة لنفسها ولو لم تقع في طريق الواجب النّفسيّ. في المقابل لو كانت العباديّة متحقّقة بالأمر الغيريّ لما أمكن الاتيان بالوضوء كعبادة إلّا أمام واجبه النّفسيّ.

ولا يقال إنّ التيمّم بدل للوضوء فحيث كان الوضوء مستحبًّا كان التّيمّم كذلك لأنّنا نقول إنّ لسان الدّليل يقول إذا أردت الصّلاة فلم تجد ماءً فتيمّم[8]، فهذه بدليّة في مورد الصّلاة لا أنّ التّيمّم يقع بدلًا عن كلّ وضوء مطلقًا.

على هذا، فإنّ حلّ صاحب الكفاية يجري في الوضوء وغسل الجنابة أي حيث ثبت استحباب نفسيّ، ولا يجري في مثل التّيمّم بل ولا في مثل أغسال غير الجنابة الّتي لم يثبت استحباب نفسيّ لها، لأنّها ممّا لم تثبت مشروعيّتها في حدّ نفسها مطلقًا وحال عدم وقوعها مقدّمة.

 

 

[1]  أنظر الفوائد،ج1،ص224:"التّفصيل بين استحقاق الثّواب فلا يترتّب واستحقاق العقاب فيترتّب".

[2]  الكرباسيّ، إشارات الأصول،ص89، وقد نقل عنه مقرّر بحث الشّيخ الأعظم في المطارح،ج1،ص338 محلّ الشّاهد:"أنّ ما دلّ على ترتّب العقاب على مخالفة الأمر كما مرّ يعمّ القسمين فإنّ بحصول المخالفة فيهما يحصل العصيان وعدم الطّاعة وهو المناط في ترتّب العقاب نظرًا إلى ظاهر الأدلّة مع تأيّدها بالشّهرة التّامّة مع عدم مانع من بقائه على حاله عقلًا وشرعًا. فتعيّن بقاء الظّواهر بحالها كما في الوضوء ونحوه فلو تركه وترك الصّلاة يترتّب عليه عقابان ولا ينافيه كون المصلحة في الواجب الغيريّ في الغير".

وكذا المحقّق الإيروانيّ،حاشيته على الكفاية،ج1،ص411-413:"إنّ استحقاق العبد للثّواب على الإطاعة عقلًا بحيث لو لم يثبه المولى كان مرتكبًا للقبيح وظالمًا مفوّتًا لحقّة محل نظر بل منع...وأمّا استحقاق العبد العقاب على المعصية...وإن كان من جهة مجرّد مخالفة عبده له وظلمه مولاه بعدم اتيانه لما هو حقّه أعني به الإطاعة ...فيجوز مجازاته بالإيذاء من باب "وجزاء سيّئة سيّئة مثلها" فإنّ العقل يحكم بحسن مجازاة السّيّئة بالسّيّئة...ثمّ على تقدير ثبوت الاستحقاق عقلًا فالبداهة تشهد بأنّه لا فرق في الاستحقاق المذكور بين الأوامر النّفسيّة والغيريّة. فإنّ ملاك الاستحقاق في الجميع واحد وهو ترك أداء حقّ المولى وعدم القيام بوظائف عبوديّته...فلا وجه للتّفصيل والتّفكيك بالاستحقاق في الأوّل وعدم الاستحقاق في الثّاني".

[3]  أنظر الفوائد،ج1،ص225-226:"فما كان منها من قبيل الأسباب التّوليديّة فقد عرفت في بعض المباحث السّابقة أن الأمر بالسّبب أمر بالمسبّب وكذا العكس لأنّ المسبّب يكون عنوانًا للسّبب ويكون وجوده بعين وجود سببه ويتّحد معه في الوجود بنحو من الاتّحاد، فليس هناك أمران: تعلّق أحدهما بالسّبب والآخر بالمسبّب حتّى يبحث عن استحقاق الثّواب على امتثال أمر السّبب بل هناك أمر واحد وله امتثال فارد وذلك أيضًا واضح".

[4]  نموذج:وسائل الشّيعة،ج1،باب 8 من أبواب الوضوء،باب استحباب تجديد الوضوء من غير حدث لكّل صلاة وخصوصًا المغرب والعشاء والصّبح.

[5]  أنظر الكفاية،ج1،ص157:"فالتّحقيق أن يقال: إنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة وعبادة وغاياتها إنّما تكون متوقّفة على إحدى هذه العبادات فلا بدّ أن يؤتى بها عبادة وإلّا فلم يؤت بما هو مقدّمة لها فقصد القربة فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها أمورًا عباديّة ومستحبّات نفسيّة لا لكونها مطلوبات غيريّة".

[6]  أنظر الفوائد،ج1،ص229:"ثمّ لو أغمضنا عن ذلك كلّه كان لنا التّفصّي عن الإشكالات بوجه آخر يختصّ بالوضوء والغسل فقط ولا يجري في التّيمّم وحاصل ذلك الوجه هو أنّ الوضوء والغسل لهما جهة محبوبيّة ذاتيّة ومطلوبيّة نفسيّة أوجبت استحبابهما قبل الوقت".

[7]  البقرة/22: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

[8]  المائدة/6:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.

برچسب ها: وجوب غیری, واجب غیری, عبادیت طهارات ثلاث, قصد قربت در اوامر غیری

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است