اقتضاء الامر بالشیء للنهی عن ضده (الدرس ۱۰۴)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

البحث يقع في الضّدّ الخاصّ فعلًا. وتقدّم نفي المقدّميّة بين ترك الضّدّ ووجود الضّدّ الآخر، بحيث قلنا إنّ ترك الضّدّ ليس مقدّمة لوجود ضدّه. إذ عدم الضّدّ يستند دائمًا إلى عدم المقتضي على نحو لا تصل النّوبة أصلًا إلى منع وجود الضّدّ عن وجود ضدّه. فالإزالة _مثلًا_ ممتنعة في حال وجود الصّلاة، وليس امتناعها لمانعيّة وجود الصّلاة عن وجودها بل لعدم وجود إرادة متعلّقة بها، أي لأنّ الإرادة قد صُرفت في غيرها على نحو لم يبق إمكان لتعلّق إرادة الفعل بها، وهذا إرجاع لعدمها إلى عدم مقتضيها. وقد نبّهنا إلى حصول الخلط بين الامتناع والمانعيّة إلّا أنّه ليس كلّ امتناع مساوق للمانعيّة. وقد سجّلنا إشكالًا على الشّيخ الآخوند في المورد الّذي استثناه، وهو ما لو غلبت الشّفقة على الولد الشّفقة على الأخ فمال لأجل الشّفقة الغالبة إلى إنقاذ الولد على نحو منع مقتضي إنقاذ الولد مقتضي إنقاذ الأخ عن التّأثير. فهذا غير تامّ لأنّ علّة الإنقاذ هي الإرادة، لا الشّفقة الّتي تكون وما شاكلها من قبيل الدّواعي لا المقتضيات.[1]

ثمّ وبعد أن أبطل حرمة الضّدّ بملاك المقدّميّة، تعرّض الشّيخ الآخوند لإثباتهم إيّاها بملاك الملازمة، بحيث انطلقوا من التّلازم القائم بين وجود الضّدّ وعدم ضدّه، كالتّلازم بين وجود الإزالة وعدم الصّلاة، فليس ينفكّ هذا عن ذاك وبينهما كمال الملاءمة كما سبق. وقد أثبتوا ذلك ببيانين:

البيان الأوّل: إنّ عدم الضّدّ الملائم لوجود ضدّه الواجب يأخذ حكم الوجوب ويصير واجبًا، أي إنّه كما نحكم بوجوب الإزالة نحكم بوجوب عدم الصّلاة. وذلك لأنّ للمتلازمين حكمًا واحدًا وإلّا للزم لازم فاسد. واللّازم الفاسد المترتّب على عدم القول بإعطاء الملازم حكم ملازمه هو خلوّ الواقعة عن الحكم، وهذا خلاف القول بأنّ لكلّ قضيّة حكمًا، وإذا بطل اللّازم بطل الملزوم.

وبالمحصّلة، كي لا يلزم لازم فاسد هو خلوّ المورد من الحكم، لا بدّ من القول بأنّ الملازم محكوم بحكم ملازمه لا محالة. أي إنّ عدم الصّلاة الّذي لا يخلو من حكم والحال أنّه ملازم لفعل الإزالة، إمّا أن يكون حكمه حكم الملزوم وهو المطلوب؛ وإمّا أن يكون حكمه غيره وهذا ممتنع، فتعيّن الأوّل.

أمّا لماذا يمتنع كون الملازم محكومًا بحكم مغاير لحكم ملازمه؟ فلأنّ المغاير إمّا حكم إلزاميّ على خلاف الإلزام المحكوم به ملازمه أي يُحكم عدم الصّلاة مثلًا بالحرمة؛ وإمّا حكم ترخيصيّ يجعل للمكلّف سعة من جهة تركه. أمّا حكمه بالحرمة فهذا يستلزم التّكليف بالضّدّين وهو باطل بلا كلام. وأمّا حكمه بالتّرخيص، فيلزم منه التّرخيص في الواجب. إذ هو مرخّص في ترك ترك الصّلاة أي له أن يأتي بالصّلاة، وهذا الاتيان مساوق على مستوى الوجود لترك الإزالة الواجبة، فمن حيث رُخّص في ترك التّرك قد رُخّص في ترك الإزالة الواجبة، وهذا خلف كونها واجبة.

وقد أجاب الشّيخ الآخوند بما مفاده: إنّنا نسلّم بعدم إمكان أن يكون الملازم محكومًا بحكم مغاير لملازمه، لكن هذا شيء والقول بضرورة أن يكون محكومًا بحكم ملازمه شيء آخر. إذ بينهما واسطة وهي أن لا يكون محكومًا بالفعل بأيّ حكم، فيلزم أن لا يكون عدم الصّلاة محكومًا بحكم غير الوجوب لكن لا يلزم أن يكون محكومًا بالوجوب. وما قيل من لازم فاسد وهو خلوّ الواقعة عن الحكم ليس إشكالًا ولا ضير فيه، وذلك لأنّ الممنوع المبرهن على عدم خلوّ الواقعة منه هو الحكم الواقعيّ بمعنى الحكم الاقتضائيّ أي الحكم في مرتبة الملاك والاقتضاء لا الخلوّ عن الحكم الفعليّ، إذ هذا الخلوّ الأخير جائز.[2]

وعلى هذا، يبقى لعدم الضّدّ حكم اقتضائيّ غير فعليّ هو حكمه لولا الملازمة. فلو كان ترك الصّلاة قبل الملازمة محكومًا بالحرمة لبقي فيه اقتضاء الحرمة وحيثيّتها، لكن دون أن تكون الحرمة فعليّة. وإلّا لو كان فعليًّا لكانت تجب الإزالة وتجب الصّلاة، لأنّه قد حرم ضدّ الصّلاة العامّ أي نقيضها، فهي حرمة مستلزمة لوجوب ضدّ متعلّقها العامّ بناءً على القول بأنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه العامّ.

ولو كان عدم الضّدّ الملائم لوجود الضّدّ الواجب محكومًا بالإباحة قبل الملازمة، فإنّ الإباحة تبقى حيثيّة فيه وفي مرتبة الاقتضاء دون أن تبلغ مرتبة الفعليّة، لأنّها لو صارت فعليّة لكان المكلّف مؤمّن في ترك ترك الصّلاة مثلًا أي مؤمّن من جهة الاتيان بفعل الصّلاة الّذي يساوق ترك الإزالة.

فالصلاة على اقتضائها وكذا نقيضها على اقتضائه، بحيث يُحكم الفعل بالوجوب الاقتضائيّ ويُحكم النّقيض بالحرمة الاقتضائيّة، كلٌّ من حيث عنوانه، أمّا من حيث الملازمة فلا حكم فعليّ لترك الصّلاة، وهذا خلوّ من الحكم الفعليّ لا غير. وهذا نظير ما مرّ في مقدّمة الواجب، حيث ذُكر إنّه لا استحقاق للعقاب على ترك المقدّمة من حيث هي مقدّمة وإنّما يُستحقّ العقاب على ترك المقدّمة من حيث إنّه ترك لذي المقدّمة.

 وكيف كان، فهنا حكم في مرتبة الاقتضاء لا تخلو عنه الواقعة وإن خلت عن حكم فعليّ، وإلى هذا الحكم الاقتضائيّ أشار المحقّق الآخوند بقوله "الحكم الواقعيّ"، فهذا استعمال للّفظ على غير الاصطلاح.

البيان الثّاني: إنّه لا بدّ من أن يُحكم المتلازمين بحكم واحد جريًا على بيان أبي الحسين البصريّ. توضيحه: لو لم يكن ترك الصّلاة واجبًا لجاز تركه، ومعنى جواز ترك ترك الصّلاة هو جواز فعل الصّلاة وهو الضّدّ العامّ للتّرك. وحينئذٍ: أي على تقدير فعل الصّلاة: إمّا أن يكون المكلّف مكلّفًا بالإزالة وهذا يلزم منه التّكليف بغير المقدور أي بالجمع بين الصّلاة والإزالة وهو محال؛ وإمّا أن يكون غير مكلّف بالإزالة حال اشتغاله بالصّلاة فيلزم أن يخرج الوجوب المطلق عن إطلاقه، فيصير وجوبًا مشروطًا بترك الصّلاة وهو خلف.

وهذا الاستدلال كان قد مرّ في بحث وجوب المقدّمة[3] والجواب هو الجواب. فإنّه على تقدير الاشتغال بالصّلاة يكون مكلّفًا بفعل الإزالة ولا يلزم من ذلك التّكليف بغير المقدور. لأنّ فعل الصّلاة ليس بواجب عليه، وهو حال اشتغاله بها مأمور بالانصراف عنها إلى الإزالة وهو قادر على ذلك، فانتفى اللّازم الأوّل. وينتفي اللّازم الثّاني ببيان أنّ ترك الإزالة كان عصيانًا، والعصيان لا يُخرج المأمور به عن أمره، ولا يصيّر الواجب غير واجب، وكذا لا يجعل الوجوب المطلق وجوبًا مشروطًا، فيبقى وجوب الإزالة على حاله لم يسقط ولم يُشرط وهو فعليّ في حقّ المكلّف. نعم بعد الانتهاء من الصّلاة يكون قد تلبّس بعصيان أمر الإزالة.

ومن هنا ظهر أنّ جواز التّرك الّذي جعله لازمًا للقول بعدم وجوب عدم الصّلاة، ليس جوازًا مطلقًا فعليًّا كما أراد بل هو جواز حيثيّ اقتضائيّ غير فعليّ.

بعد ذلك ورد الشّيخ الآخوند في بيان الأمر الثّالث[4] وفيه بيان بحث الضّدّ العامّ، لنسأل مجدّدًا في مورده: هل الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن الضّدّ العامّ أو لا؟

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ البحث ها هنا كما كان في الضّدّ الخاصّ عقليّ لا لفظيّ دلاليّ، فالسّؤال هو عن الملازمة العقليّة لا عن الدّلالات اللّفظيّة، وإن كان للألفاظ نحو كشف عن الثّبوت بشكل أو بآخر.

وتعدّدت الأقوال في المسألة من حيث تفسير الاقتضاء: فهل اقتضاء الأمر بالشّيء للنّهي عن الضّدّ العام هو بمعنى أنّ الأمر بالشّيء هو عين النّهي عن نقيضه؟ أم أنّ الأمر بالشّيء متضمّن للنّهي عن نقيضه بحيث يكون النّهي جزء معنى الأمر؟ أم لا هذا ولا ذاك بل إنّ النّهي عن الضّدّ العامّ هو من لوازم وخواصّ وجوب الشّيء، أي النّهي عن النّقيض ليس عين الأمر بالشّيء ولا جزءه، وإنّما هو معنى خارج لكنّه لازم دائميّ له. وهذا اللّازم إمّا أن يكون بيّنًا بالمعنى الأخصّ وإمّا أن يكون غير بيّن.

وقد ذهب الشّيخ الآخوند إلى القول بالاستلزام وإلى كونه غير بيّن، إذ ذكر بأنّه بمعنى لو التفت المولى إلى ترك الصّلاة لحكم بحرمته[5].

 

[1]  الكفاية،ج1،ص182-186.

[2]  أنظر الكفاية،ج1،ص186:"وأمّا من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم فغايته أن لا يكون أحدهما فعلًا محكومًا بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون محكومًا بحكمه.

وعدم خلوّ الواقعة عن الحكم، فهو إنّما يكون بحسب الحكم الواقعيّ لا الفعليّ، فلا حرمة للضّدّ من هذه الجهة أيضًا، بل على ما هو عليه _لولا الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعليّ_ من الحكم الواقعيّ".

[3]  المصدر نفسه،ص178:"وهو ما ذكره أبو الحسين البصريّ وهو أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التّكليف بما لا يطاق، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبًا".

[4]  المصدر نفسه،ص187.

[5]  المصدر نفسه:"فالمنع عن التّرك ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته، بل من خواصّه ولوازمه، بمعنى أنّه لو التفت الآمر إلى التّرك لما كان راضيًا به لا محالة، وكان يبغضه البتّة".

برچسب ها: نهی از ضد, ضد خاص

چاپ

 نقل مطالب فقط با ذکر منبع مجاز است